Menu

أبو علي مصطفى: فكرةٌ لم تزلْ تزهرُ ثورة

ابو علي حسن

نشر هذا المقال في العدد 41 من مجلة الهدف الإلكترونية

لم يكنْ ممكنًا أن تمرَّ الذكرى الحادية والعشرين على استشهاد القائد الرمز أبو علي مصطفى دون أن نقفَ مجدّدًا أمامَ مسيرة هذا الثوريّ العصاميّ، الذي ترك لشعبه ورفاقه تجربةً ثوريّةً فيها الإقدامُ والشجاعةُ والإيثار، وإرثًا وطنيًّا وسياسيًّا وإنسانيًّا يستحقُّ من رفاقه أن يدوّنوه وينشروه أمامَ الأجيال التي لم تزل تتمسّكُ بالمقاومة وفكر الثورة؛ فاستحقاقُ الذكرى تقتضي من رفاقه الوقوفَ والتعمّقَ في معنى رحلة الرجل الثوريّ في تشعباتها وزواياها لاكتشاف الجوهريّ فيها، فما زال الكثير من المجهول في مسيرته، ومنه ما بقي في صدور رفاقه الشهداء. وإذا كان هذا الثوريُّ لم تسعفه الظروفُ أن يسجّل مذكراته حيث داهمه الاغتيال، فإنّ فكرة الرجل الثوريّ تضاهي آلافًا من الصفحات من السيرة الذاتيّة والشخصيّة. هي فكرةُ الثوريّ الذي لا يساوم.

ومن نافل القول قولُنا: "الثوريّون لا يموتون" فالمعنى أنّ أجسادهم تستبدل بأفكارهم الحيّة مع الأجيال المتعاقبة، وتنوب الفكرة عن الحضور الحيّ، حيث يحيا هؤلاء الثوريون حضورًا وفاعلية، بل أكثر حضورًا ربّما من حضورهم وهم أحياء... وهكذا هم أحياءٌ بين شعوبهم، وبين رفاقهم وجدالاتهم وندواتهم في كلّ مناسبةٍ وحدثٍ وطنيّ. بيدَ أنّ الثوريّين ليسوا متجانسين في مآثرهم وعطائهم وأشكال نضالهم، لكنّهم جميعًا يحملون الفكرة الثوريّة، فكرة المقاومة، فكرة تغيير الواقع، فمنهم من جسّد الفكرة بالرواية (عائد إلى عكا، أم سعد) وجسّد الفكرة بعبارةٍ خالدة... "لماذا لم تطرقوا الخزّان؟" في إشارةٍ إلى المقاومة، كما غسان كنفاني ، ومنهم من انغرس قلبًا وروحًا في مسار الثورات كما أرنستو جيفارا، فلم يكن ممكنًا أن يسدل الستار على مسيرة جيفارا بمجرد استشهاده على أيدي أعدائه في بوليفيا، حيث لم تزل روحه تطوف وتنتقل من جيلٍ إلى جيل، وأفكاره تغزو ثورات العصر وانتفاضاته... ولو كان أعداؤه يدركون ما يمكن أن يتركه جيفارا بعد استشهاده من أثرٍ ثوريٍّ بين أجيال الثورات لما أقدم أعداءُ الحريّة على اغتياله، لكن أعداء الحرية، وجلاوزة القتل والظلم دائمًا هم من قصيري النظر.

وأبو علي مصطفى القائد الرمز في مسيرته واستشهاده لم يكن إلا صنو هؤلاء الثوريين الذين لا يموتون، حيث شكّل في مسيرته الثوريّة الطويلة المبكّرة؛ السياسيّة والتنظيميّة والكفاحيّة صورة ذلك الثوري الذي لا يموت، وها هو خالدٌ في ذاكرة رفاقه وشعبه، وتطوف فكرته، وأحلامه، ومواقفه بين أجيال الثورة والانتفاضات والهبّات الشعبيّة.

وإذا كان قرارُ العدوّ الصهيونيّ على اغتياله يعدُّ شهادةً على خطورة هذا الثوريّ وأفكاره ومواقفه، فالحقيقةُ أن ثوريّته لم تتجسّد في استشهاده وهمجيّة اغتياله وجبن العدوّ من حضوره، إنّما ثوريّته قد تجسّدت في تاريخ كفاحه على مدار نصف قرن، فانتماءُ الرجل على حركة القوميين العرب وهو لا يتعدّى عمره خمسةَ عشرَ عامًا لهو دليلٌ على الوعي الوطني المبكّر إلى كيانه وفكره وتبلوّر شخصيّته الوطنيّة.

لقد عاش الرجلُ آلام النكبة، شاهدها، وسمع بها وهو في العاشرة من عمره، شاهد بأمّ عينه آلافًا من مخيّمات اللاجئين في جنين، وسمع وهو في بلدته عرابة حكايا النكبة، ومآثر الثوّار، وتجربة الثائر الشيخ عز الدين القسام في جبال يعبد، كانت الأحداثُ في طفولته تداهمه بمرارتها فاستلهم وعيه الوطنيّ من حكايا الوطن المغتصب، وحكايا الآباء والعجائز عن المقاومة الفلسطينيّة، وفي الوقت ذاته الخيانات العربيّة. بيدَ أنّ معنى الوطن قد تجسّد لديه مرّةً أخرى حين أدرك أنّ محاولات النظام الأردنيّ منعه من التزامه القوميّ والوطنيّ، ثمّ اعتقاله عام 1956، وهو لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره... ثمّ الحكم عليه بالسجن خمس سنواتٍ قضاها في سجن الجفر الصحراوي بتهمه الانتماء إلى حركة القوميين العرب...! وهنا كبر الوطن في وعيه وسيطر على أفعاله.

لم تفتّ الخمس سنوات من الاعتقال في عضده أو عزيمته أو حماسه في مواجهة خط تغيير الواقع... إنّما ازدادت قناعته فكرًا وممارسةً في مواصلة الكفاح والعمل على تفجير العنف الثوري، فاختار أن يكون أوّلَ من يتلقّى دورةً عسكريّةً في مركز أنشاص بالقاهرة عام 1965، أي أنّه آمن بالعنف المسلّح قبل عام 1967، وقبل ظاهرة المقاومة العلنيّة بعد هزيمة حزيران... ما يدلُّ على أنّ انتماءه وثوريته للثورة لم يكن بتأثير وحضور الظاهرة العلنية للثورة الفلسطينية، إنّما هو كان من مؤسسيها وروادها المبشرين بها تنظيمًا وعنفًا ثوريًّا.

وتأتي هزيمة حزيران، وانطلاق العمل المسلّح لتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ في حياة هذا الثوريّ، ويبدأ في تأسيس الخلايا الثورية للمقاومة في الضفة الغربية، ويكون على رأسها إلى أن تمّ مطاردته، فغادر إلى أغوار الأردن وتسلّم مسؤوليّة قوّات الجبهة الشعبيّة في الأردن حتّى مغادرته عام 1971 إلى لبنان.

إنّ تتابع الأحداث في الأردن بدءًا من أحداث ظاهرة طاهر الدبلان في عمان 1968، ومرورًا بأحداث 1969، حتى بدء أحداث أيلول الأسود التي استهدفت إخراج الفصائل الفلسطينيّة من عمّان، لم تترك للرجل أيّ مساحةٍ من استراحة المحارب، إلى أن بدأت معارك عجلون وجرش، التي بمحصلتها أخرجت المقاومة نهائيًّا من الأردن، حيث طورد الرجل من قبل قوّات النظام حتى استطاع الخروج سالمًا بطرقٍ التفافيّةٍ إلى سوريا فلبنان... وانطوت مرحلةٌ ميدانيّةٌ في حياة الرجل كان فيها فاعلًا وقائدًا ومطلوبًا.. ليبدأ مرحلةً جديدةً في لبنان نائبًا للأمين العام للجبهة الشعبيّة؛ ليقودَ هو والحكيم جورج حبش مركب الجبهة الشعبيّة مع رفاقهم المؤسّسين والمناضلين.

تلك المرحلةُ التي بلورت شخصيّة الرجل من محترفٍ ميدانيٍّ إلى محترفٍ ثوريٍّ سياسيّ، فالبيئةُ السياسيّةُ والإعلاميّةُ والثقافيّةُ في بيروت لا تترك مجالًا لإنصاف القادة وإنصاف المثقفين، فأخذ الرجل يطوّر من قدراته الثقافيّة والسياسيّة، وتعمّق في قراءة النظريات الثوريّة، وتعمّقت مداركه ومعارفه السياسيّة والثوريّة والاقتصاديّة. وأيقن أن لا حركة ثوريّة دون نظريّةٍ ثوريّة، وتجاوز النزعة الثوريّة العفويّة إلى التنظيم الثوريّ وسلاحه "النظريّة الثورة والفكر الثوري"... وهنا اعتلى الرجل بكفاءةٍ مع جورج حبش سدّة القيادة في الجبهة الشعبيّة برفقة العديد من قيادات الجبهة التاريخيّين.. وحاز على محبّة واحترام كوادر الجبهة وقواعدها الحزبيّة والعسكريّة. وتعزّزت مكانته يومًا بعد يوم داخل الجبهة ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة... الخ، إلى أن أصبحَ قياديًّا بالمنظّمة مهابًا وشجاعًا لا يخشى لومة لائم في الإفصاح عن مواقفه ومواقف حزبه السياسيّة والتنظيميّة حيث تصدّى بروحٍ ثوريّةٍ وغيرةٍ وطنيّةٍ لكل النهج المساوم والتفريطي داخل المنظمة، وخاض سجالات لا تنتهي مع أصحاب النهج المساوم في محاولةٍ لوقف الانهيار السياسي الذي بدأ مبكّرًا مع ما سمي بالنقاط العشرة، والموقف من جنيف عقب حرب أكتوبر 1973، وقرار 242 و338.

لقد صنعت منه التجربةُ الشخصيّة، وانتماؤه الطبقي، وحياته الريفيّة ومعاصرته لنتائج وفظائع النكبة الفلسطينية، ومطاردة الأجهزة الأمنية لأحلامه وحريته وسنوات السجن وهو في ريعان شبابه، صنعت منه شخصيّةً سياسيّةً متمرّدةً لا تقبل الضيم، ولا تقبل بغير الانتصار.. وآمن أن هذا الانتصار لا يكون إلا بالثبات على المبادئ والإمساك بالمواقف الجذريّة الأصيلة، هذا المشهد البانورامي أسهم في تكوينه السياسي والفكري الحاسم تجاهَ أن استمرار الثورة طريق التعبير.

كان مزيجًا في تكوينه الثقافي والسياسي من القوميّة العمليّة والماركسيّة الثوريّة والثقافة العربيّة... لا عصبيّة في انتمائه سوى موقفه السياسي الذي يشهره في وجه كلّ مساومٍ أو مغرضٍ أو خائن.

كان وحدويًّا، يميل إلى وحدة الصفوف، يرفض الوحدة الشكليّة، يبحث عن أساسٍ سياسيٍّ ثوريٍّ لوحدة الصفوف ووحدة الهدف والتحرير الكامل، على قاعدة الخطّ السياسيّ السليم الذي لا يلغي البندقيّة ولا يحرف المسار الوطنيّ وهو الضمانةُ الاستراتيجيّةُ للانتصار... وعلى هذا الإيمان خاص تجاربَ عديدةً لوحدة الساحة الفلسطينيّة، كان آخرها محاولاته الدؤوبة في إنجاز وحدة اليسار أو القوى الديمقراطيّة عبر وضعه المسوَّدَةَ السياسيّة والتنظيميّة لتشكيل تجمعٍ ديمقراطيٍّ وطنيٍّ قبل استشهاده بأسابيع.

كان يؤمنُ إيمانًا عميقًا أن سيرورة بقاء وكفاحية الجبهة الشعبيّة مرهونة بخطّها السياسي السليم الذي لا يفرط بأيّ مفردةٍ من مفردات الحق الفلسطيني، وكان هذا دأبه في حواراته الداخليّة الحزبيّة مع أعضاء حزبه، وفي حواراته الخارجيّة... وكان شديدَ الحساسيّة من التدخّلات العربيّة أو الدوليّة في شؤون الجبهة الشعبيّة أو الثورة الفلسطينيّة، ولا يرضى أن يسيء إليه أو لجبهته أيًّا كان؛ عربيًّا أو أجنبيًّا... وفي حادثةٍ تشي عن صراحة الرجل.

وإذا كان هذا الجانب الوطنيّ والقوميّ والثوريّ في تكوين شخصيّة هذا الرجل العصامي، فإنّ جانبًا آخرَ من شخصيّته لم يلمسها إلا المقربون منه، الذين عاشروه في القواعد والجلسات الثقافيّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة، وهذا الجانب هو تلك الوداعة التي يتّسم بها في علاقاته الاجتماعيّة والنضاليّة حيث يكتنز قدرًا كبيرًا من الهدوء وسعة الصدر، وطيبة القلب، ومشاركة الرفاق في أفراحهم وأتراحهم، وقلّة يعرفون أنّ له صوتًا جميلًا إذا ما غنى أو أنشد أغاني الثورة وأهازيجها.

أما الجانب الثالث في شخصيّة الرجل تلك النزاهة السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة التي يتمتّع بها؛ آمن بموقفٍ سياسيٍّ منذ التحاقه بثورته دون أن يمارس أي شكلٍ من أشكال المناورة أو البروباغندا السياسيّة، وآمن إيمانًا مطلقًا بهُويّته القوميّة العربيّة دون أن يلغي ماركسيّته الثوريّة المتحرّرة من قيود الحتميات التاريخيّة، إنما المتجذّرة بالفعل الثوري، وكذلك الحال فقد اتّصف الرجل بالنزاهة الاجتماعيّة، والماليّة إلى حدّ قبوله أن يكون فقيرًا فقيرًا، وإلى حدّ أنّه حارب كلّ ما هو معتدٍ على أموال الثورة أو الحزب، هكذا كان هذا الرجل في حياته وكفاحه، ثوريًّا من طراز الثوريين الذين لا يموتون.