Menu

الانتخاباتُ الإسرائيليّةُ الخامسة: هل ينقلبُ السّحرُ على "السّاحر"

م. تيسير محيسن

نشر في العدد 43 من مجلة الهدف الرقمية

تتّجهُ "إسرائيل" إلى الانتخابات الخامسة في غضون أربع سنوات؛ كلُّ شيءٍ تغيّر، لكن ليس ثمّة ما هو مختلفٌ كثيرًا! هناك من يرى في ذلك دليلًا على أزمةٍ بنيويّةٍ يعاني منها النظامُ السياسيّ الإسرائيليّ، وربّما الدولة ذاتها. فهل حقًّا توجدُ أزمة؟ وإذا كان الجواب نعم، فما أسبابُها؟ وهل هي قابلةٌ للحل؟

من بين كثيرٍ من الأسباب والعوامل والمحرّكات؛ بعضٌ يعدُّ بنيامين نتنياهو سببًا جوهريًّا للأزمة. "الساحر"، أو "الناجي"، ذاك الذي تمحورت حوله الانتخابات الأربعة السابقة: "فريق معه وفريق ضده"، شخصيّةٌ تستحقُّ التوقّف عند قراءتها ومعرفة خباياها وسماتها، خصوصًا وأنّ عودتها مرّةً أخرى إلى سدة الحكم، باتت مرجّحة.

في القراءة المعمقة فائدة لفهم ديناميات السياسة الإسرائيليّة وآليّات صنع القرار. كما أنّ دراسة شخصيّة نتنياهو، في إطار ما سوف تفصح عنه الانتخابات، مسألةٌ في غاية الأهميّة لبناء وتطوير استراتيجيّة مواجهة شاملة. أيضًا، يُعدُّ تناولُ موضوعات ذات صلةٍ بالتحليل، كالأزمة التي تعصف بالنظام وتحول إسرائيل نحو اليمين المتطرّف، وتشتيت الصوت العربي المرجّح، مسائل في غاية الأهمية لذات الغرض. اعتمدت المقالة على مجموعة من المقالات والدراسات باللغتين العبرية والعربية.

نتنياهو: الساحر الجبان!

يعتبره البعض خلفا مباشرا لزئيف جابوتنسكي (أو الحفيد الإيديولوجي لجابوتنسكي)، وليس مناحيم بيغن أو إسحق شامير. بنزيون نتنياهو، والد بنيامين عمل سكرتيرا شخصيا لجابوتنسكي الذي اختار طريق العمل السياسي بإقامة تحالف مع "قوة عالمية"، بريطانيا ومن ثم أميركا. أفعاله وأقواله، طوال 13 عاما في الحكم، تشير إلى أنه لم يكافح من أجل سلام طوباوي على غرار أوسلو، ولم يتبن مسار الانسحاب أحادي الجانب كما فعل شارون وباراك. اتسم سلوكه بالحذر والتردد في إدارة الصراع؛ عمل على بناء علاقات هادئة مع دول عربية (التطبيع)، ونسج علاقات قوية مع كثير من قادة دول العالم. اتبع النهج السياسي ضد إيران لمنع امتلاكها سلاحا نوويا، وإن هدد بهجوم عسكري. ينتمي إلى نمط القيادات الشعبوية، التي تتعرض غالبا لانتقادات محقة من قبل قوى اليسار ووسائل الإعلام وأيضا من جانب النخبة، يتبعها جمهور متعصب وعنصري، انفعالي وغاضب وكاره للآخرين. اتهم نتنياهو بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، أي تدمير معايير الديمقراطية وقيمها والقيام بتكتيكات سياسية تثير الغضب؛ كما ويؤخذ عليه جبنه (ضعف يعبر عنه بالتشدد).

هناك وجهة نظر تقول إن اليمين الذي يمثل حوالي 65% من المجتمع الإسرائيلي يمكن أن يشكل حكومة إذا استبعد نتنياهو، ويرى هؤلاء أن الطريق الوحيدة لإبعاده تكمن في إيقاع هزيمة مذلة له تخرجه نهائيا من المشهد السياسي العام، ويبدو أن له مصلحة شخصية في تكرار جولات الانتخابات؛ إذ يسعى إلى إلغاء محاكمته ولو تطلب الأمر تغيير النظام القضائي كله! لعله من المفيد معرفة سمات الرجل وقراءتها للمساعدة في توقع السلوك السياسي له إذا ما فاز، أو حتى لفهم وتفسير قرارات سابقة من باب استخلاص العبر، ففي نهاية المطاف، لا يمكن الركون إلى الاعتبارات الموضوعية في الحكم على أو توقع السلوك السياسي للدولة في ظل قيادة بهذه السمات والقدرات:

أولا، قابلية عالية للابتزاز، تقول واحدة من زعماء المستوطنين "لقد عرفنا كلمة السر، هذا المخلوق غير قادر على اتخاذ أي قرار بدون ممارسة ضغط ما، ولذا قررنا ممارسة الضغط بما يخدم المشروع الاستيطاني".

ثانيا، كذاب بالفطرة، إلى الحد الذي أفقده ثقة النخبة. يقول عنه رؤوفين ريفلين "ذو ثلاثة وجوه،... غير قادر ببساطة على قول الحقيقة". إلى ذلك يتهم بالفشل، وبأنه لا يخاطر باتخاذ قرارات حاسمة ضرورية لمواجهة مخاطر وجودية.

ثالثا، يتهم بالوقوع تماما تحت سيطرة زوجته ساره التي تتدخل في تسير شؤون الدولة، بما في ذلك القضايا والملفات ذات الطابع السري أو الاستراتيجي.

رابعا، تفيد نتائج تقييم إدارته لمواجهة وباء كورونا، بأنه "نرجسي وأناني، سلطوي، متردد، ومثير للفزع".

خامسا، لا تنفصل كراهيته للعرب عن كراهيته للآخر، ويقوم منظوره الديني والسياسي في الموضوع الفلسطيني على: حق اليهود في العودة، العرب لا يفهموا غير لغة القوة. الأهم في هذا المضمار، اعتقاده بأن ذروة اتفاقيات أوسلو التي عارضها بشدة، يجب أن تنتهي إلى ما يشبه صفقة القرن، ضم أجزاء من الضفة الغربية، وفصل قطاع غزة، وفرض مزيد من القيود ذات الطابع العنصري على فلسطيني 48، وما يعنيه هذا الأمر من اندراج نخبة الفلسطينيين من رجال أعمال ومقاتلين سابقين ونخب ضمن البنى الاستعمارية دون أن تتحداها؛ وهو ما يعبر عنه مفهوم نتنياهو للسلام الاقتصادي.

أخيرا، في ضوء المدة الطويلة لولايته، بات البقاء السياسي يمثل له أولوية قصوى في ظل نفاذ صبر الناس نحوه وما أصابهم من ملل واشمئزاز منه، تزايدت شكوكه وتخوفاته المرضية، يصعب عليه مواجهة الضغوط. تحسب أنماط سلوكه على الخصائص النرجسية والبارانووية.

في الانتخابات

بعد حوالي عام على حكومة "التغيير" المكونة من ائتلاف مناهض لنتنياهو، تذهب إسرائيل إلى انتخابات خامسة؛ البعض يرى في ذلك تعبيرا عن أزمة لنظامها السياسي، بينما يعتبرها آخرون دليلا على حيوية ديموقراطية. بشكل عام تفيد استطلاعات الرأي إلى أنه لن يطرأ تغيير كبير على نوايا التصويت، هناك أفضلية محدودة لنتنياهو وقد تمكن من توحيد صفوف اليمين. ما يعزز فرص نتنياهو: انضمام شاكيد له، تراجع شعار "إلا بيبي"، فوضى اليسار وتفكك العرب (انشقاق المشتركة). ومن التكتيكات التي يستخدمها نتنياهو لتعزيز فرصه؛ استخدام ورقة بن غفير كفزاعة في وجه غانتس وجدعون ساعر، من ناحية ثانية الاستفادة من حيويته الفائقة في تعبئة قوى اليمين.

تحتل إسرائيل المرتبة الأولى عالميا من حيث تواتر الانتخابات (مرة كل 2.4 عاما)، وهو ما يعني فقدان السيطرة، الناجم عن أزمة النظام البنيوية (التعادل، الاستقطاب، الشخصنة،...).

تبلغ نسبة الحسم 3.25% (4 مقاعد). البعض يرى أن رفع هذه النسبة جاء بغرض الحد من الوصول العربي إلى عضوية الكنيست (بعد فوز المشتركة بـ 15 مقعدا في الانتخابات الثالثة والعشرين 2020). ومن الظواهر اللافتة تراجع تمثيـل الأحـزاب الـكـبـيـرة ما يعزز دور الأحـزاب الصغيـرة وحـضـورها فـي البرلمـان عـبـر ممـارسـتـهـا الابـتـزاز الـسـيـاسـي، للحصـول عـلـى تمثيـل فـي الحـكـومـة يـفـوق حـجـمـهـا الحـقـيـقـي.

أزمة السياسة الإسرائيلية

تأتي هذه الأزمة انعكاسا لأزمة مجتمع مستقطب، ودولة تواجه تهديدات جمة، يتمحور معظمها حول "جدل الهوية" وما يهدد طابعها الديموقراطي أو اليهودي. في إسرائيل لا يوجد نظام ديمقراطي حقيقي، في ظل التغول على القضاء، وانتهاك حقوق الفلسطينيين، ولدوافع قومية وأخرى أيديولوجية ثمة احتمال أن يتحول استقطاب المجتمع، إما إلى حرب أهلية وإما إلى عصيان مدني أو انتفاضة عنيفة. إذا اعتبرنا أزمة النظام هي أزمة الديموقراطية، فإن أسبابها تقع في الإفراط التعددي، الفسيفساء الانشطارية حزبيا، كما إن الاحتلال وممارساته يفاقم أزمة نظام الحكم. إلى ذلك، جرت إعادة هيكلة حزب "الليكود" على نحو يخدم نتنياهو وحرصه على البقاء في السلطة، ويقصي معارضيه في الحزب ويحطم أي بديل قيادي له.

أخيرا، وبقدر ما يتعلق الأمر بعودة نتنياهو المحتملة، فإن إسرائيل ستظل منقسمة على ذاتها، وربما يتفاقم أمرها حد الاقتتال أو العصيان أو فشل النظام (فنصف البلاد سيستمر في كرهه واحتقاره، والعمل على تقويض حكومته)، علما أن البعض يقول إن سلوك نتنياهو مجرد كاشف للإخفاقات والعيوب في النظام وليس منشأ لها.

لليمين در!

تنقسم الخارطة السياسية في إسرائيل إلى 3 أطياف: يمين (قومي علماني، قومي ديني، ديني)، يسار (صهيوني، راديكالي) وسط/مركز. ومنذ منتصف تسعينيات القرن العشرين يشهد المجتمع والنظام السياسي في إسرائيل انزياحا نحو اليمين، ومن ثم نحو اليمين المتطرف (البيت اليهودي، قوة يهودية). يـشـكـل مـجـمـوع مـقـاعـد الأحـزاب اليمينيـة (فـي الائتلاف والمعـارضـة فـي الـكـنـيـسـت الحالي 72 مـقـعـدا)، إلا إن اليمين يشهد اختلافات بعضها له طابع شخصي (ضد نتنياهو)، وبعضها له طابع أيديولوجي أو سياسي، من أسباب الانزياح، انحسار نفوذ اليسار بجناحيه الصهيوني والراديكالي. وقد عكس الانزياح تزايد كتلة القوميين والمتدينين مقابل انحسار الكتلة الاشكنازية، وتعبيراتها موت الكيبوتس وتوالد المستوطنات. مع هذا الانزياح، لم يعد القومي أو المتدين يرى مشكلة كبيرة في انتخاب زعيم فاسد؛ إن كان ينفذ أجندته الدينية، ولا يعير اهتماماً للمفاهيم الحداثية؛ كالمؤسسة والدولة والشفافية، بقدر الاهتمام على توسيع الاستيطان في الضفة الغربية.

تفتت "المشتركة"

منذ قيام إسرائيل وحتى يومنا هذا، نشطت الأحزاب الممثلة لفلسطيني 48 سياسيا وأرسلت ممثليها إلى الكنيست، حتى انتخابات الكنيست العاشرة، لم يكن هناك تعبير جوهري عن المواقف السياسية المستقلة لهؤلاء الفلسطينيين، الذين صوتوا لحزب المعراخ "التجمع"، والحزب الشيوعي والجبهة الديموقراطية، القائمة التقدمية للسلام. كان تأثير الأحزاب العربية على الخطاب السياسي في إسرائيل ضئيلاً سواء تعاونت مع المؤسسة الرسمية أو عارضتها.

تدريجيا ازداد تأثير الصوت السياسي العربي المستقل في معارضة سياسة إسرائيل في الأراضي المحتلة ورفض الصهيونية والطابع اليهودي لدولة إسرائيل، ومع مرور الوقت برزت أحزاب وحركات جديدة، متعددة الطيف (يسارية، إسلامية، قومية)، تشكلت القائمة المشتركة ردا على رفع نسبة الحسم، ولمحاولة إنهاء حكم نتنياهو.

انقسم تحالف المشتركة المكون من أربعة أحزاب، قبل أسابيع من الانتخابات الرابعة والعشرين، وكان محورها مصير نتنياهو. كانت المشتركة قد حصلت على 15 مقعدا في الكنيست 23، إلا إن الخلاف الأيديولوجي والتكتيكات السياسية والضغوط الخارجية (وخصوصا من قبل نتنياهو) تسبب في انقسام المشتركة في المرتين (خروج عباس وانسحاب التجمع)، ربما كانت المشتركة، ضحية نجاحها؛ فقد أثارت مخاوف اليمين واليسار الصهيونيين كليهما، واستدعت ردود أفعالهما التآمرية.