Menu

تأثيرُ حكومةِ السودانيّ على المشهدِ السياسيّ والاجتماعيّ العراقيّ

محمد أبو شريفة

نشر هذا المقال في العدد 44 من مجلة الهدف الإلكترونية

عملت الإدارةُ الأميركيّةُ منذُ غزوها للعراق واحتلاله عام 2003، على صياغة عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ للعراق وَفْقًا لرؤيتها، هذا العقدُ الذي انطوتْ فيه كلُّ التّشكيلاتِ السياسيّة العراقيّة المعارضة للنظام السابق أسفرت عن بناء منظومةٍ سياسيّةٍ تقوم على المحاصصة الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة، وحتّى اللحظة لم تستطع هذه التّشكيلات من صناعة نظامٍ سياسيٍّ يعبّرُ عن مطامح الشّعب العراقيّ هُويّةً واحدةً وجامعة.

وفي هذا المجال يبدو أنّ أهمّ العوامل التي تؤثّر في أزمة المشهد السياسيّ العراقيّ تتوزّع على ثلاثة أبعادٍ رئيسيّة. يخصّ البعد الأوّل واقع الاختلاف الجوهريّ الذي نشأ بعد سقوط بغداد في أيدي الاحتلال الأميركيّ وإغراقها في الفوضى والأزمات والصّراعات وانتهاك السيادة والهيبة العراقيّة. والبعد الثاني تظهر أهمّيّته في الأزمة مباشرةً عندما نلاحظ حجم التعقيدات والاختلافات في المعتقدات الدينيّة والعرقيّة والطبقيّة، حيث تؤثّر بشكلٍ كبيرٍ على السياسة العراقيّة، التي تهدفُ فيما تهدفُ إليه إلى إبقاء هشاشة الوضع السياسي. وتبرز أهميّة البعد الثالث للأزمة الراهنة بأنّها ليست وليدة اللحظة وإنما يمتد عمرها 18 عاما وهي أولا وأخيرا، أزمة حكومات المحاصصة (تشكيل حكومة حماية مصالح) وبشكل محدد فإنها أزمة في المنظومة السياسية العراقية المرتبطة بسياسة المحاور الإقليمية. وهنا يكمن أهمية فهم معنى الأزمة بالنسبة لواقع ومستقبل العراق السياسي في ظل هشاشة النظم المتحكمة بـالعملية السياسية العراقية التي تسعى إلى تفكيك هياكل المنظومة القائمة وإحلال أخرى بديلة، على أساس كثافة غابة البنادق ومبادلة العنف بين الخصوم والحلفاء لجلب المكاسب وفرض الشروط.

لقد استمر الانسداد السياسي الأخير في العراق عاما كاملا بدون نتائج ترضي الأطراف والقوى الفاعلة تخللها اضطرابات سياسية وأمنية ومواجهات عنف أدت إلى سقوط قتلى وجرحى وظهور تحالفات جديدة وانشقاقات وانسحابات من مجمل الحياة السياسية. ولكن في (13 اكتوبر- تشرين الأول الماضي) تم الخروج من الانسداد السياسي والتوافق على انتخاب رئيس جمهورية جديد وتكليف محمد شياع السودان ي بتشكيل الحكومة الجديدة والتي من المتوقع لها أن تواجه أزمات وعقبات عديدة على مختلف المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، سيما أن سياسيين عراقيين كثر وأوساط شعبية مختلفة يعتبرونها غير ذات صلة بمصير بلادهم.

إن تداعيات الانسداد السياسي هذا لم يكن وليد لحظة عابرة أو نتيجة تباينات الفرقاء السياسيين، فمنذ أن قررت المحكمة الاتحادية نصاب انتخاب رئيس الجمهورية ثلثي أعضاء البرلمان حينها تم فتح المجال واسعا أمام الإطار التنسيقي وحلفاءه من تشكيل الثلث المعطل والذي نجح في منع التيار الصدري وحلفاءه من السنة والأكراد والذين يشكلون أغلبية البرلمان وفقا لنتائج انتخابات 2021 من الاستمرار في مشروعهم لتشكيل حكومة أغلبية سياسية. وعلى إثر هذا القرار رفض التيار الصدري التحالف مع قوى الإطار التنسيقي، بسبب اتهامه لهم بالفساد وتحميلهم مسؤولية الفشل الذريع الذي وصلت إليه البلاد، وتاليا إعلانه الانسحاب من مجلس النواب -علما أن الصدريين هم أكبر الفائزين في الانتخابات (73 مقعد)- الأمر الذي مكّن أحزاب وقوى سياسية أخرى قريبة وموالية من الإطار التنسيقي لتصبح هي القوة الوازنة والمؤثرة في تشكيل الحكومة. وتمكنت هذه القوى السياسية من تحقيق تفاهمات واتفاقات مع حلفاء الصدر القدامى من السنة والأكراد مكّنهم من اختيار عبد اللطيف رشيد كرئيس للجمهورية، وتكيلف "السوداني" المحسوب سابقا على معسكر المالكي بتشكيل الحكومة. وبذلك لم تغادر العملية السياسية في العراق نمطها المعتاد رغم محاولة السيد الصدر تحويلها إلى منظومة ترفض مبدأ التوافق السياسي، حيث كان يسعى إلى حصر مسؤولية تشكيل الحكومة بالقوى الحاصلة على أعلى الأصوات، لكن تم إجهاض هذه المساعي لما ستسببه من انعكاسات عميقة على البيئة السياسية العراقية سينتج عنها في أغلب الأحوال تراجع نفوذ القوى والأحزاب والقيادات التقليدية المتنفذة وتهميش سلطتهم السياسية والعسكرية والمالية، وأيضا خسارة دول إقليمية  لكثير من مصادر نفوذها السياسي والعسكري والأمني في العراق، حين يتم إقصاء حلفاءها وتابعيها المقربين من الحكومة، سيما وأن السيد الصدر أعلن منذ البداية أنه سيقف بالضد من أي نفوذ خارجي في العراق سواء كان إيراني أو أميركي أو غيره. لكن الأهم هو أن تشكيل حكومة الأغلبية ستكون قفزة نوعية تؤسس للحكومات القادمة التي ستعتمد مبدأ الفوز بالأغلبية لتستلم السلطة، حينها ستدرك القوى التي لم تحقق الفوز أنها لن تكون قادرة على الفوز في الانتخابات المستقبلية.

وبالرغم من انسحاب التيار الصدري، إلا أن الإطار التنسيقي ما زال غير قادر على جمع نصاب الثلثين ما دفعه للتحالف مع حلفاء الصدر القدامى من السنة والأكراد الذين استثمروا حاجة الإطار لهم، وقاموا برفع سقف مطالبهم نظير قبولهم للتحالف مع قوى الإطار وتشكيل الحكومة. إحدى تلك المطالب تمثلت بإصرار السيد البارزاني على إقصاء برهم صالح - مرشح الاتحاد الوطني- من رئاسة الجمهورية واستبداله إما بمرشح آخر من الاتحاد الوطني أو مرشح من الديموقراطي الكردستاني. وبالمقابل لم يرفض الإطار التنسيقي مطالب حلفاءه الجدد التي كانوا يرفضونها سابقا ولا يقبلون حتى مجرد النقاش حولها تحديدا في موضوع الغاز والنفط، والمادة 140 من الدستور التي نصت على استفتاء بشأن كركوك، وإلغاء آليات اجتثاث البعثيين التي كان يتم استثمارها ضد السنة.

تجدر الاشارة إلى أن رئيس الوزراء الجديد يواجه معارضة من طرفين رئيسيين في المعادلة السياسية السيد الصدر وشباب تشرين، ويمثل اختيار "السوداني" كبديل عن عادل عبد المهدي والذي رفضته ساحات تشرين لقربه من المالكي، تحديا لإرادة قوى تشرين. لذا، يبقى أن نتابع ما إذا كانت هذه التطورات ستدفع قوى الشباب في بغداد وجنوب العراق إلى مزيد من الاحتجاج ضد الحكومة الجديدة، خاصة أنهم حققوا نجاحا ملحوظا في العام 2019- 2020 وأصبحوا نموذجا يلقى ترحيبا في أوساط شعبية عراقية عديدة يخشاها قادة الأحزاب المشاركة في السلطة، إلا أن ذلك لا يمنع وجود تحفظ لدى البعض حول تواجدهم ومصادر الدعم والتمويل لهم، حيث يرى كثيرون أنهم يرفعون شعارات وطنية محقة، ولكن على ما يبدو تتقاطع وأجندات أميركية داعمة لأغلب مؤسسات المجتمع المدني العراقي، ولا يكون استحضارهم إلا كفزاعة للأحزاب، بأن البديل حاضر، لذلك تلجأ أحزاب السلطة إلى تقديم تنازلات للإدارة الأميركية.

ولكن إلى الآن لا يعرف مدى تأثير قوى تشرين على الحكومة الجديدة، فقد كان لها الفضل في إجبار رئيس الوزراء السابق عبد المهدي على الاستقالة، وإجراء انتخابات مبكرة وتغيير قانون الانتخابات البرلمانية، وحاليا تشير المعطيات إلى أن "التشرينيين" يعانون من تراجع قوتهم في الشارع العراقي، بسبب المواجهات التي تعرضوا لها طوال العام المنصرم من القوى المضادة لهم، فضلا عن التباينات الفكرية مع الصدريين في فترة من الفترات أدت إلى الارتباك وفقدانهم للتواجد المستمر، بالإضافة إلى ذلك تنصل حكومة الكاظمي من وعودها لهم.

أما فيما يتعلق بالتيار الصدري المعارض لترشيح "السوداني" لأسباب لا تختلف كثيرا عن قوى تشرين وأهمها قربه من المالكي، والذي يعتبر الخصم اللدود للصدر، يبرز التساؤل حول موقف الصدر وردود أفعاله على هذه الحكومة، حيث يرى البعض أن الصدر لن يأتي على شيء سوى الصمت ومراقبة تشكيل الحكومة الجديدة على قاعدة منحها وقتا لكي تقوم بمهامها، وفي الأثناء سيعزز الصدر من حشد أنصاره، حينها سيكون قد اتضح تقييم حكومة السوداني والذي على أساسه سيتخذ الصدر قرار إسقاط الحكومة من عدمه انطلاقا من الشارع، إلا أن المناكفات الحزبية للتيار الصدري، ربما تدفع باتجاه عدم سكوته وتحين الفرصة المناسبة سريعا، وذلك قبل إحكام السيطرة على مفاصل وأجهزة الدولة من قوى الإطار التنسيقي، والتي بدورها لن تسمح بالاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة الجديدة، الأمر الذي ربما يؤدي إلى حدوث إرباك وانشقاق سياسي داخل التيار الصدري، وفي ظل الرفض الذي أعلنه الصدر بخصوص التفاوض مع قوى الإطار، إلا علنا وتحت نظر وسمع كل العراقيين وعدم سماحه لأي من أنصاره بالانضمام إلى الحكومة الجديدة، أفادت مؤشرات عن وجود حوارات وتفاهمات بين قيادات "تشرينية" وبين الصدريين، تهدف إلى توحيد الجهود وحشد القوى لانتفاضة شعبية كبرى تطيح بالمنظومة الحالية، وفي حال نجاح هذه الجهود بين الصدريين وبين قوى تشرين، فإنها ربما ستؤثر على الإطار التنسيقي، مما يرجح حدوث انشقاقات كالتي ظهرت عند انتخاب رئيس الجمهورية، وسيكون هناك فريقين الأول داخل الإطار ممثلا بالسيد العبادي، ممن يميلون إلى استرضاء مقتدى الصدر وعدم المضي بتشكيل الحكومة. والثاني ممن يرفعون السلاح كما فعلوا سابقا لمواجهة الانتفاضة، حينها ستنتشر فوضى السلاح ما لم تتمكن القوى السياسية والمجتمعية والدينية بضبطه والسيطرة عليه.  

فالمحاصصة السياسية فرضت نفسها على مكونات الدولة وثرواتها، ولهذا فمن الطبيعي أن يتبوأ العراق أعلى سلم درجات الفساد في العالم، على الرغم من امتلاكه الثروات النفطية الكبيرة. أما على الصعيد الاجتماعي، فإن ثقافة المحاصصة تركت آثارها على مختلف التكوينات الاجتماعية والمذهبية والطائفية وقادت إلى المزيد من التفسخ والانشطار، لأن الهوية الوطنية الجامعة مغيبة اليوم لصالح هويات فرعية متصارعة، فيما بينها منذ نحو عقدين، حيث تآكلت فيه الأحزاب وشاخت وسقطت لغاتها وسقط معها استقلال وسيادة العراق.