(بالتزامن مع الذكرى الخامسة والخمسين لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تنشر بوابة الهدف الإخبارية، مقتطفات من الاستراتيجية السياسية والتنظيمية التي صدرت عن المؤتمر الثاني للجبهة في عام 1969، التي عكف على إنجازها المفكر والباحث الفلسطيني غازي الصوراني، خاصة وأن نص الوثيقة/الاستراتيجية، ما يزال صالحًا لجسر تلك الهوة بين الرؤية والواقع، والأهداف والوسائل، والماضي والمستقبل، متوسلين من خلال وضعها بين يدي القرّاء والمهتمين والمعنيين بالأمر أن إيجاد نص ما يزال يحتفظ بالكثير من خطوط البدايات الصحيحة).
(في مناسبة ذكرى الانطلاقة الخامسة والخمسين)
حول أهمية الفكر السياسي، تقول الوثيقة/الاستراتيجية:
إن شرطاً أساسياً من شروط النجاح هو الرؤية الواضحة للأمور، والرؤية الواضحة للعدو والرؤية الواضحة لقوى الثورة. على ضوء هذه الرؤية تتحدد إستراتيجية المعركة، وبدونها يكون العمل الوطني عفوياً ومرتجلاً، لا يلبث أن ينتهي إلى الفشل. ولذا بات ضرورياً بالنسبة للشعب الفلسطيني، بعد عشرات السنين من القتال والتضحيات، أن يضمن لكفاحه المسلح هذه المرة مقومات النجاح. لقد ناضل شعبنا طويلاً ضد مخططات الصهيونية والاستعمار. فمنذ عام 1917(عام وعد بلفور) وجماهير شعبنا تناضل من أجل الاحتفاظ بأراضيها ونيل حريتها وطرد المستعمرين من وطنها وتقرير مصيرها بنفسها، واستغلال خيرات وطنها لمصلحة أبنائها. ولقد اتخذ نضالها ضد الصهيونية والاستعمار كافة الأشكال والأساليب. وفي عام 1936 حمل شعبنا السلاح دفاعاً عن أرضه ووطنه وحريته وحقه في بناء مستقبله فقدم الآلاف من الشهداء وتحمل الكثير من التضحيات.
ولذا أثار كفاح شعبنا المسلح في تلك الفترة من التاريخ حالة جماهيرية متحفزة لا تقل عن الحالة التي تعيشها جماهيرنا الآن وهي تلتف حول العمل الفدائي. ومع ذلك، ورغم تلك التضحيات، ورغم قوافل الشهداء التي تزيد في عددها عن شهداء العمل الفدائي اليوم، ورغم حمل السلاح، ورغم حماسة الجماهير، رغم ذلك كله لم ينتصر شعبنا حتى اليوم، وها هو يعيش في غالبيته في مخيمات الشقاء وتحت نير الاحتلال. إذن، لا يكفي أن نحمل السلاح حتى نطمئن إلى نتيجة المعركة. إن الثورات المسلحة في التاريخ انتهى بعضها إلى النصر ولكن بعضها الآخر انتهى إلى الفشل. لا بد من مواجهة الحقائق بعقلية علمية ثورية صريحة وجريئة. إن ما يقرر النجاح هو الرؤية الواضحة للأمور وللقوى الموضوعية التي تخوض الصراع. وما يقرر الفشل هو العفوية والارتجال. من هنا تبدو واضحة أهمية الفكر السياسي العلمي الذي يرشد الثورة ويحدد لها إستراتيجيتها. فالفكر السياسي الثوري ليس فكراً مجرداً معلقاً في الهواء، أو مجرد ترف فكري، أو متعة فكرية يتسلى بها المثقفون، وبالتالي نستطيع إذا أردنا أن نتركه جانباً كشيء مجرد أو ترف لا ضرورة له. إنما الفكر الثوري العلمي هو الفكر الواضح الذي تستطيع به الجماهير أن تفهم عدوها، ونقاط ضعفه ونقاط قوته، والقوى التي تسنده وتتحالف معه، وبالمقابل تفهم قواها هي، قوى الثورة، كيف تعبئها وتجندها، وبأي أسلوب وكيف؟ كيف تتغلب على نقاط قوة العدو وكيف تستفيد من نقاط ضعفه؟ ومن خلال أية برامج تنظيمية وتعبوية وسياسية وعسكرية تستطيع أن تتصاعد بقواها حتى تسحق العدو وتحقق الانتصار؟
إن الفكر السياسي الثوري هو الذي يفسر لجماهير شعبنا أسباب فشلها حتى الآن في مواجهة العدو. لماذا فشلت ثورتها المسلحة عام 1936؟ لماذا فشلت محاولاتها قبل 1936؟ ولماذا حصلت هزيمة حزيران 1967. وما هي حقيقة التحالف المعادي الذي تخوض ضده معركتها؟ ومن خلال أي تحالف تستطيع أن تجابهه وبأي أسلوب؟ كل ذلك بلغة واضحة تفهمها الجماهير. ومن خلال فهمها تتضح أمامها رؤية المعركة وأبعادها وقواها وأسلحتها، بحيث يتحول هذا الفكر إلى قوة تتوحد حولها الجماهير برؤية واحدة للمعركة وإستراتيجية واحدة .
إن مفهوم الفكر السياسي بالنسبة لنا هو وضوح المعركة أمامنا. ومن هنا يأتي تـأكيدنا على أهمية وخطورة هذا الأمر .
ما معنى أن نقاتل بدون فكر سياسي؟ معنى ذلك أن نقاتل بشكل مرتجل، وأن نقع في أخطاء دون أن نعي خطورتها وطريقة معالجتها، وأن تتحدد مواقفنا السياسية بشكل عفوي دون وضوح الرؤية، وينتج عن ذلك عادة تعدد في المواقف، وتعدد المواقف معناه تبعثر في القوى، وتشتيت لها، فتكون النتيجة أن تتوزع قوى شعبنا الثورية في أكثر من طريق بدلاً من أن تصب كلها في طريق واحد لتشكل قوة متراصة واحدة .
إننا نريد أن نحذر من خطورة الاستخفاف بهذا الأمر. إن بين مقاتلينا وقواعدنا تياراً يخلط بين الفكر السياسي الثوري وبين عملية "الدجل السياسي" التي مثلتها بعض "القوى السياسية"، وبعض "القادة السياسيين". إن هذا التيار يخلط بين الفكر السياسي الثوري وبين الأساليب السياسية البالية التي اتبعتها الحركة الوطنية الفلسطينية قبل إستراتيجية الكفاح المسلح، كما أن هذا التيار يخلط كذلك بين الفكر السياسي وعملية "الفذلكة الكلامية" المعقدة التي يمثلها بعض المثقفين في مناقشاتهم لقضايا الثورة. ونتيجة لكل ذلك يحاول هذا التيار ان يستخف بالفكر السياسي أو يزدري به. ولابد من عملية تصحيح جذرية نقوم بها هنا. إن الفكر السياسي الثوري هو الذي يفضح "الدجل السياسي" وهو الذي يجعل قناعتنا بالكفاح المسلح قناعة راسخة، وهو الذي يعري أمام الجماهير سخافة الفذلكة الكلامية التي تعقد قضايا الثورة بدلاً من أن تكون سلاحاً بيدها .
ولكي يقوم الفكر السياسي بهذا الدور الثوري لا بد أن يكون فكراً علمياً أولاً، وواضحاً بحيث يكون في متناول الجماهير ثانياً، ومتجاوزاً للعموميات وموغلاً قدر الإمكان في الرؤية الإستراتيجية والتكتيكية للمعركة بحيث يشكل دليلاً للمقاتلين في مواجهة مشكلاتهم ثالثاً. وعندما يستوفي فكر الثورة هذه المقومات، عندها يصبح هذا الفكر أقوى سلاح بيد الجماهير، بواسطته توحد قواها، وترى معركتها بوضوح وترتسم أمامها اللوحة الكاملة للمعركة بكل قواها، وموقع كل قوة من هذه القوى ابتداء من بداية الثورة حتى نهايتها الحاسمة.
وفي إجابتها عن سؤال: من هم أعداؤنا إذن؟
إن الفكر السياسي وراء أية ثورة من الثورات يبدأ بطرح هذا السؤال والإجابة عليه. ولا بد من الاعتراف أن جماهير شعبنا الفلسطيني لم تجب على هذا السؤال بشكل واضح ومحدد ومحسوم حتى الآن. وبدون تحديد واضح للخصم تصبح الرؤية الواضحة للمعركة غير ممكنة .
إن تقييم جماهيرنا للخصم تقييم عاطفي حتى الآن. فعندما نحقق بعض الانتصارات الجزئية يسود مناخ عام بين الجماهير يقلل من قوة الخصم ويستهين به، ويتصور المعركة بأنها معركة سهلة وسريعة يمكن أن نحقق فيها النصر في مدة قصيرة. وعندما يوجه لنا العدو ضربات قاسية نذهب أحياناً للنقيض لنصور عدونا وكأنه قوة لا تقهر.
يتضح إذن أن الرؤية العلمية للمعركة والتخطيط الواعي والمثابر لربحها يستحيلان علينا بمثل هذا التذبذب العاطفي .
لقد جاء الوقت لتفهم جماهيرنا العدو الذي تواجهه على حقيقته لأنه من خلال هذا الفهم تتضح أمامها صورة المعركة .
أولاً: إسرائيل
إننا في معركتنا التحررية نواجه أولاً دولة إسرائيل ككيان سياسي وعسكري واقتصادي يحاول أن يعبئ حوالي المليونين ونصف المليون من مواطني هذه الدولة تعبئة عسكرية كاملة وعالية لكي يدافع عن كيانه العنصري العدواني التوسعي ويحافظ على وجوده ويمنعنا بالتالي من استعادة أرضنا وحريتنا وحقوقنا.
وهذا العدو يتمتع بتفوق تكنولوجي واضح ينعكس بوضوح على مستوى تسليحه وتدريبه وديناميكية حركته، كما يتمتع كذلك بقدرته العالية الناتجة عن شعوره بأنه يخوض معركة حياة أو موت وبالتالي ليس أمامه سوى الدفاع حتى النفس الأخير.
إن هذه الحالة التعبوية وهذا المستوى التكنولوجي المتفوق يجب أن يبقيا مرتسمين دائماً في أذهاننا طيلة مواجهتنا لهذا الخصم. ليس من باب الصدفة أن نكون قد خسرنا حتى الآن كل معاركنا ضد هذا العدو، وأنه خطأ كبير أن نفسر هزائمنا تفسيرات جزئية عرضية. إن معرفة حقيقة العدو هي الخطوة الأولى لرسم إستراتيجية النصر .
ولكن..هل إسرائيل هي كل العدو الذي نواجهه في المعركة ؟
إننا نقع في خطأ كبير إذا اقتصرت رؤيتنا للعدو على دولة إسرائيل. إن مثلنا هنا كمثل ن يتصور أمام عشرة أشخاص فلا يكون متهيئاً لمثل هذا الوضع .
ثانياً: الحركة الصهيونية العالمية
إن إسرائيل هي جزء لا يتجزأ من الحركة الصهيونية العالمية، بل هي في حقيقة الأمر نتاج لها. ونحن إذن في معركتنا لا نواجه إسرائيل وحدها بل نواجه إسرائيل المستندة موضوعياً إلى قوة الحركة الصهيونية. إن الحركة الصهيونية كحركة دينية عنصرية تحاول تنظيم وتجنيد 14 مليون "يهودي" في شتى أنحاء العالم لمساندة إسرائيل وحماية وجودها العدواني وترسيخ وتوسيع هذا الوجود.
وهذه المساندة لا تقتصر على المساندة المعنوية، بل هي في واقع الأمر وبالأساس مساندة مادية تشمل مد إسرائيل بالمزيد من البشر والمزيد من المال والسلاح والخبرة العلمية التكنولوجية والتحالفات التي تعقدها بحكم نفوذها، بالإضافة إلى السند الإعلامي والدعاوى في كل جزء من العالم. وبالتالي فإننا عندما نقول بأن عدونا هو إسرائيل مضافة لها الحركة الصهيونية فنحن هنا لا نضيف لخصمنا كلمة من الكلمات بل قوة مادية من حجم معين علينا أن نأخذها بعين الاعتبار في حسابات المعركة.
وإذا كنا في هذا التقرير نكتفي بهذه الرؤية العامة لإسرائيل والحركة الصهيونية العالمية، فإنه لا بد من الإشارة إلى ضرورة دراسة إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية دراسة دقيقة وتفصيلية، لا تغيب الرؤية العامة من خلال التفاصيل بل تثبتها وتجعلها ملموسة أكثر بشكل حسي بحيث نتخلص من كل تصور سطحي عن هذا العدو .
وفي السنوات الأخيرة بدأ شيء من الاهتمام بدراسة إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية. ومثل هذه الدراسات تضع أمامنا الحقائق عن هذا العدو بجوانب حياته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية ومن المفروض أن تقبل كوادرنا القيادية السياسية والعسكرية، على مطالعة هذه الدراسات بغض النظر عن المنهج السياسية الذي يحكم خط تفكير واضعيها، إذ أنه من خلال الأرقام والحقائق الجزئية والمعلومات التفصيلية، تتبلور لدينا الصورة المحسومة لهذا العدو، بحيث تتجسد أمامنا بوضوح حقيقة العدو الذي نخوض المعركة ضده.
هذا ولا بد من الإشارة إلى ان هناك بطبيعة الحال مجموعة تناقضات داخل إسرائيل، مثلها مثل أي مجتمع، وتناقضات بين إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية-تحكم العدو الذي نواجهه متمثلاً بإسرائيل والصهيونية. وإن هذه التناقضات يجب أن تبقى موضع دراسة وتتبع من قبلنا. ولاشك أن نمو المقاومة سيزيد من حدة هذه التناقضات بحيث نستطيع أن نحولها لمصلحة معركة التحرير .
إلا أن هذه التناقضات لم تصل حتى الآن إلى الحد الذي يعيق عملية الحشد والتلاحم التامة القائمة داخل إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية بحيث تبقى صورة العدو هي صورة هذا المعسكر المحشود المتلاحم بقوة وكفاءة تقنية عالية وتنظيم دقيق بهدف تعبئة سكان إسرائيل ويهود العالم تعبئة كاملة لمواجهتنا في هذه المعركة .
والآن... هل تقتصر رؤيتنا للعدو عند هذا الحد؟
هل هذه هي صورة "كل العدو" الذي نواجهه .
هنا نقول للمرة الثانية إننا نخطئ خطأ كبيراً، ولا نضع الحسابات العلمية للمعركة إذا اقتصرت رؤيتنا عند هذا الحد .
إننا في معركة تحرير فلسطين نواجه قوة ثالثة، هي قوة الامبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية .
ثالثاً: الامبريالية العالمية
إن الامبريالية العالمية لها مصالحها التي تدافع بكل شراسة في سبيل إبقائها والمحافظة عليها. وهذه المصالح تتمثل في نهب ثروات البلدان المتخلفة وشرائها بأبخس الأثمان، تم تصنيع هذه الثروات وبعد ذلك بيعها في أسواق هذه البلدان بأغلى الأسعار. ومن خلال هذه العملية تحصل الامبريالية على أرباحها الفاحشة وبالتالي زيادة رساميلها على حساب فقر الشعوب وبؤسها وشقائها. والوطن العربي يحتوي على ثروات كبيرة أهمها البترول، كما يشكل سوقاً شرائية واسعة للبضائع المصنعة. ومن هنا تريد الامبريالية المحافظة على هذا الوضع حتى تستمر عملية تراكم ثرواتها من جهة، وتزايد فقرنا من جهة ثانية. وهي في سبيل ذلك حريصة كل الحرص أن تضرب وتسحق كل تحرك ثوري يريد تحرير وطننا وشعبنا من عملية الاستغلال هذه .
والتحرك الثوري الجماهيري في الوطن العربي يستهدف بطبيعة الحال القضاء على إسرائيل باعتبارها قوة غاصبة لجزء من هذا الوطن، وخطراً كبيراً يهدد أجزاء أخرى منه. ومن هنا لا تستطيع إسرائيل إلا أن تحارب حتى النهاية كل تحرك ثوري فلسطيني وعربي. وهنا يجد الاستعمار نفسه في أفضل وضع هذا الجزء من العالم. فمن خلال إسرائيل وبواسطتها يستطيع أن يحارب التحرك الثوري العربي الذي يستهدف القضاء على وجوده في وطننا وبالتالي تصبح إسرائيل هي القوة والقاعدة التي يدافع بها الاستعمار عن ووجوده ومصالحة في وطننا. ومثل هذا الوضع يخلق تلاحما عضوياً بين إسرائيل والحركة الصهيونية من جهة وبين الامبريالية العالمية من جهة ثانية، إذ أن كليهما يلتقيان عند مصلحة واحدة وهي ضرب حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية .
وبالتالي تصبح حماية إسرائيل وتقويتها ومساندتها والمحافظة على وجودها أمراً أساسياً بالنسبة لمصالح الامبريالية العالمية. وبهذا تتلاحم صورة الخصم لتشمل بشكل واضح إسرائيل + الحركة الصهيونية العالمية + الامبريالية العالمية .
هنا أيضاً نريد أن نؤكد أن إضافة الامبريالية على تصورنا لمعسكر الخصم لا يجوز أن تعني مجرد إضافة كلمة في تعريفنا للعدو. بل إنها تدخل في صلب تصورنا الحسي الملموس للخصم الذي نخوض معركتنا ضده . إن الامبريالية هنا، تعني مزيداً من السلاح والدعم والمال لإسرائيل. إنها تعني طائرات الفانتوم، وأسرار القنبلة الذرية، وبناء الاقتصاد الذي يستطيع أن يواجه حالة الحصار وحالة الحرب الدائمة التي نحاول فرضها. إن ملايين الملايين من الماركات الألمانية الغربية والدولارات الأميركية تتحول هنا إلى قوة ملموسة تزيد من قوة إسرائيل وبالتالي يجب أن تدخل في حساباتنا للمعركة .
إن عدونا إذن ليس إسرائيل وحدها. بل إسرائيل والصهيونية والامبريالية العالمية. وما لم نعرف عدونا معرفة علمية وواضحة فلن نستطيع الانتصار عليه. إن الرأي الذي يحاول "تحييد" قضية التحرير الفلسطينية على الصعيد العالمي بقوله "لماذا لا نحاول أن نربح الولايات المتحدة إلى جانبنا في المعركة بدلاً من ان تكون إلى جانب إسرائيل" هو رأي خاطئ وخطير. إنه رأي غير علمي ومثالي، بعيد عن الموضوعية، وخطورته تكمن في تمويه حقيقة العدو الذي نجابهه وبالتالي الوقوع في خطأ الحسابات أثناء المعركة .
هل تنتهي عملية تحديدنا للعدو عند هذا الحد؟
هل هذه هي كل القوى التي نجابهها في معركة التحرير الفلسطينية؟
هل هذا هو"كل العدو" الذي نواجهه؟
إن هناك قوة رابعة تقف موضوعياً في معسكر الخصم لا بد من رؤيتها وتحديدها بوضوح .
رابعاً: الرجعية المتمثلة بالإقطاع والرأسمالية
إن الرأسمالية العربية- التي تمثلها وتحافظ على مصالحها أنظمة الحكم الرجعية في الوطن العربي - لا تمثل رأسمالية مستقلة حتى تستطيع أن تتخذ مواقف سياسية مستقلة. إن هذه الرأسمالية هي في واقع الأمر فروع ضعيفة للرأسمالية العالمية متشابكة معها وتشكل جزءاً لا يتجزأ منها. إن أصحاب الملايين في الوطن العربي من التجار وأصحاب البنوك والإقطاعيين كبار ملاكي الأراضي والملوك والأمراء والشيوخ هم في واقع الأمر أصحاب هذه الملايين بسب تعاونهم مع الرأسمالية العالمية. فهم قد حصلوا على هذه الثروات لأنهم أصحاب وكالات تجارية لبضائع الرأسمال الأجنبي، أو أنهم مساهمون ثانويون في مؤسساته المصرفية ووكالات التأمين الأجنبية، أو أنهم مشايخ وأمراء وملوك على رأس أنظمة تدافع عن مصالح الاستعمار وتحميها وتضرب كل تحرك جماهيري يستهدف تحرير اقتصادنا من هذا النفوذ الاستغلالي. وبالتالي فإنهم لا يستطيعون أن يبقوا كأصحاب ملايين إلا من خلال بقاء وطننا سوقاً للبضائع والرساميل الأجنبية وإلا إذا استمر نهب الاستعمار لثروتنا البترولية وغير البترولية. إذ أنهم بهذه الطريقة فقط يستطيعون الحصول على كل هذه الملايين والمحافظة عليها.
ومعنى هذا ان الرجعية العربية - في معركة تحرير حقيقة تخوضها الجماهير للقضاء على نفوذ الامبريالية في وطننا - لا يمكن إلا أن تكون إلى جانب مصالحها المتوقف استمرارها على بقاء الامبريالية وبالتالي لا يمكن أن تكون في صف الجماهير .
إن هذه القوى الرجعية العربية- والذكية منها بشكل خاص- يمكن أن تؤيد شكلاً حركات وطنية سطحية، لتستفيد منها في حسم بعض تناقضاتها الجزئية مع إسرائيل أو الامبريالية العالمية لمصلحتها. ولكنها لا يمكن إلا ان تكون في النهاية ضد كل حركة تحرير وطنية تستهدف استئصال جذور الاستعمار في وطننا وبناء الاقتصاد المتحرر الذي يخدم مصلحة الجماهير بدلا من أن تذهب موارده إلى جيوبها .
إن نمو حركة الجماهير الثورية معناه بالنسبة لهذه القوى نمو سلطة الشعب. وسلطة الشعب معناها القضاء على سلطة هذه القوى. وبالتالي فإنه مهما بلغت تناقضات الرجعية العربية مع إسرائيل والامبريالية إلا أنها تدرك دائماً أن تناقضها الرئيسي هو مع حركة الجماهير التي تستهدف القضاء التام على مصالحها وسلطتها.
إن تحديد الرجعية العربية كقوة من قوى الخصم في المعركة أمر في غاية الأهمية. إذ أن غياب هذه الحقيقة معناه غياب وضوح الرؤيا أمامنا. ومعناه عملياً إغفالنا لقواعد ولقوى حقيقة لمعسكر الخصم تعيش بيننا وفي وسطنا، وبالتالي تستطيع أن تلعب دور تشويش يموه حقائق المعركة أمام الجماهير كما تستطيع في الوقت المناسب أن تضرب الثورة من حيث لا تتوقع، وتؤدي بنا إلى الهزيمة .
هذا إذن هو معسكر الخصم كما نواجهه موضوعياً في معركتنا لتحرير فلسطين. ولا يمكن أن نربح المعركة بدون الرؤيا الواضحة لكل أطراف هذا المعسكر، وعلى ضوء تحديد هذه الأطراف ورؤية ترابطها مع بعضها بعضاً يتضح أن خصمنا الحقيقي والأساسي والأقوى هو الامبريالية العالمية وإن الرجعية العربية مجرد فرع من فروعها وأن أساس قوة إسرائيل هو في كونها قاعدة من قواعد الامبريالية العالمية التي تمدها بكل أسباب القوة وتحولها إلى قوة عسكرية كبيرة تملك التفوق التكنولوجي وتملك الاقتصاد الذي يمكنها من الاستمرار في الحياة رغم الأوضاع التي تعيشها .
وهكذا تصبح معركة تحرير فلسطين مثلها مثل أية معركة تحرير في العالم. معركة ضد الامبريالية العالمية المصممة على نهب ثروات العالم المتخلف وإبقائه سوقاً لبضائعها. إن لإسرائيل بطبيعة الحال، وللحركة الصهيونية كذلك خصائصهما الذاتية، ولكن هذه الخصائص لا بد من رؤيتها من خال تلاحم إسرائيل تلاحماً عضوياً مع الامبريالية العالمية .
لقد حالت قوى الإقطاع والبرجوازية الفلسطينية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أن تصور المعركة وكأن الخصم هو فقط الحركة الصهيونية والمستوطنين اليهود في فلسطين، وعلى أساس أن الاستعمار البريطاني يمكن أن يكون قوة محايدة في مثل هذا الصراع، إلى أن أدركت الجماهير وفصائلها الوطنية المتقدمة بحسها ووعيها إن عدوها الحقيقي هو الاستعمار البريطاني الذي يريد تقوية ودعم الحركة الصهيونية في وطننا كوسيلة لضرب طموح الجماهير التقدمي .
شعبنا اليوم لم يعد بحاجة على تجارب جديدة ومسيرات مرتجلة . إننا في معركة تحرير فلسطين نواجه الامبريالية العالمية بالدرجة الأولى، ومعركتنا هي ضدها في الأساس وضد قاعدتها إسرائيل وضد الرجعية المرتبطة بها. وإنا لن نربح المعركة ما لم نعرف عدونا بوضوح لتكون حساباتنا للمعركة حسابات صحيحة.
إن كل نقص أو غموض في رؤية معسكر الخصم بكل أطرافه وفصائله وتحالفاته، معناه نقص أو غموض في تصور مستوى التعبئة الثورية التي يجب أن نصل إليها لنكون بمستوى التصدي لمثل هذا المعسكر ولتحقيق التفوق عليه في المعركة .
على ضوء ذلك كله تتضح الملامح الرئيسية للعدو الذي نواجهه :
أولاً: أعداؤنا في المعركة هم إسرائيل والصهيونية والامبريالية العالمية والرجعية العربية .
ثانياً: هذا العدو يملك تفوقاً تكنولوجياً وتفوقاً حاسماً في الإنتاج يتحول بطبيعة الحال إلى تفوق عسكري وإلى قوة حربية كبيرة .
ثالثاً: يملك العدو بالإضافة لكل ذلك خبرته الطويلة في مواجهة تحرك الجماهير نحو تحررها الاقتصادي والسياسي، والقدرة على إجهاض هذا التحرك ما لم تملك الجماهير الوعي السياسي العالي الذي يمكنها من التغلب على كافة أساليب الاستعمار الجديد في إجهاض الثورات .
رابعاً: إن طبيعة المعركة بالنسبة للقاعدة العسكرية الرئيسية لهذا العدو-متمثلة بإسرائيل- هي معركة حياة أو موت ستحاول القيادة السياسية والعسكرية داخل إسرائيل أن تخوضها حتى النفس الأخير.
من خلال هذه الرؤية الواضحة لمعسكر الخصم تتبلور الرؤية وتتضح هذه الأمور وتنتفي كل نظرة سطحية عن المعركة .
إن مثل هذه الرؤية هي التي تحدد مكان المعركة ومداها الزمني وطبيعة القتال فيها. وبعبارة أخرى فإن مثل هذه الرؤية هي التي تحدد :
- أهمية النظرية الثورية والفكر السياسي الثوري اللذان يستطيعان أن يعبئا كل قوى الثورة لتستطيع مواجهة العدو والصمود في هذه المواجهة ودحر كل وسائل العدو في إجهاض العمل الثوري وتخريبه.
- التنظيم السياسي الحديدي الذي يقود قوى الثورة في معركة مصممة على الانتصار تصميمياً يفوق تصميم العدو على الدفاع عن وجوده ومصالحه حتى النفس الأخير.
- طبيعة وحجم التحالفات الثورية التي يجب تجنيدها لمواجهة كل معسكر الخصم .
- أسلوب الكفاح المسلح المتخذ شكل حرب العصابات في بادئ الأمر والمتطور باتجاه حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد والتي تضمن التغلب في نهاية الأمر على التفوق التكنولوجي والعسكري للعدو .
إن طبيعة العدو هي التي تحدد طبيعة المواجهة، ومن هنا تبرز خطورة كل نظرة سطحية أو غير علمية لمعسكر الخصم ولأهم خصائصه.
قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني
لابد من تحديد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني من وجهة نظر طبقية. إن القول بأن الشعب الفلسطيني بكافة طبقاته هو في نفس الوضع الثوري تجاه إسرائيل وإن كافة طبقات الشعب الفلسطيني لديها الطاقة الثورية نفسها بحكم وجودها بدون أرض وخارج وطنها هو قول مثالي وغير علمي. إن هذا القول يمكن أن يكون صحيحاً لو كان الشعب الفلسطيني بكامله يعيش نفس هذه الأوضاع، بل يعيش أوضاعاً حياتية متمايزة فإننا لا نستطيع علمياً تجاهل هذه الحقيقة.
وبالتالي لا بد من الوقوف أمام هذه الأوضاع المتمايزة وما تفرزه من تباين أو تفاوت في المواقف. صحيح أن قسماً كبيراً من الشعب الفلسطيني طرد عام 1948 خارج وطنه ووجد نفسه في ظل أوضاع التشرد المتشابهة تقريباً، وصحيح أن من تبقى من شعب فلسطين داخل وطنه كان مهدداً دائماً بأن يلقى نفس المصير، ولكنه صحيح أيضاً أن أوضاع الشعب الفلسطيني قد استقرت خلال العشرين سنة الماضية واتخذت أوضاع طبقية محددة بحيث أصبح من الخطأ القول بأن الشعب لفلسطيني كله بدون أرض، وكله ثوري. لقد قامت خلال العشرين سنة الماضية مصالح طبقية معينة أصبحت هي الأساس في تحديد المواقف. وبالتالي فإن الطبقة البرجوازية من الشعب الفلسطيني لم تعد بدون أرض، وبدون مصالح، لقد أصبحت لها مصالحها وبالتالي أصبح يهمها الاستقرار واستمرار تأمين أوضاعها الطبقية المتميزة .
لذلك كله فإننا في تحديد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني لا بد من الانطلاق من وجهة نظر طبقية . إن الفكر اليميني في الساحة الفلسطينية والعربية يحاول أن يلغي أو يميع النظرة الطبقية للأمور، وبالتالي لا بد من دحض كافة محاولاته على هذا الصعيد.
هناك مثلاً القول بأن الصورة الطبقية في الساحة الفلسطينية وكذلك في البلدان المتخلفة ليست متبلورة بالشكل الذي تكون عليه في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وبالتالي فإنه من الخطأ النظر إلى القضية الطبقية في هذه المجتمعات بنفس الطريقة التي ينظر بها إليها في البلدان الأخرى .
وهناك رأي آخر يقول بأننا الآن في مرحلة التحرر الوطني، وفي مثل هذه المرحلة لا يكون الصراع طبقياً. إن الصراع الطبقي مبرر في مرحلة الثورة الاشتراكية، أما في مرحلة التحرر الوطني فإن الصراع الطبقي معناه طغيان التناقض بين طبقات الشعب على التناقض الرئيسي بين الشعب بأكمله وبين المستعمر الأجنبي. ويضيف الفكر اليمني هنا كذلك أن إسرائيل تمثل استعماراً من نوع معين يهدد وجود الشعب الفلسطيني بكل طبقاته، وبالتالي فإن القضية هنا ليست قضية طبقية بل هي قضية صراع بين الوجود الصهيوني والوجود الفلسطيني العربي، ومعنى ذلك أن كل طبقات الشعب الفلسطيني والشعب العربي هي في تناقض رئيسي مع إسرائيل .
إن ترك هذا النمط من الفكر السياسي يأخذ مجراه دون مواجهته علمياً وتفنيده معناه الضياع التام وغياب رؤية القوى الطبقية الثورية الحقيقية التي تشكل محور الثورة، وإمكانية وقوع الثورة تحت قيادة طبقية لا تستطيع أن تسير بها حتى نهاية الشوط، ولا يمكنها وضع البرامج الثورية الجذرية التي من خلالها فقط يمكن ربح المعركة .
إن التكوين الطبقي في مجتمع متخلف يختلف بطبيعة الحال عن التكوين الطبقي في المجتمعات الصناعية، ففي المجتمعات الصناعية هناك طبقة رأسمالي قوية يقابلها طبقة عمالية كبيرة العدد، والصراع الأساسي في مثل هذه المجتمعات هو صراع حاد بين هاتين الطبقتين. مثل هذه الصورة غير قائمة في المجتمعات المتخلفة، ولكن المجتمعات المتخلفة هي أيضاً مجتمعات فيها طبقات فوقية مستغلة (بكسر الغين) متمثلة بالاستعمار والإقطاع والبرجوازية الكبيرة، وطبقات مستغلة (بفتح الغين) متمثلة بالعمال والفلاحين. وبالتالي فإن لكل طبقة موقفها من سير التاريخ، أما الطبقات التحتية فهي طبقات ثورية تريد التغيير وتدفع التاريخ في سيره الجدلي إلى الأعلى وبالتالي فإن الحديث عن خصوصية المجتمعات المتخلفة هو علمي بقدر ما يقف علمياً أمام خصوصية الوضع الطبقي في هذه المجتمعات واختلافه عن الوضع الطبقي في المجتمعات المتقدمة. ولكنه يصبح حديثاً مغرضاً وغير علمي إذا ألغى القضية الطبقية في هذه المجتمعات أو قلل من مدى الفوارق في مواقف هذه الطبقات من قضية الثورة .
إننا مثلاً نعيش هنا في مجتمع متخلف وغير صناعي، ومع ذلك فإن جماهير شعبنا لا تعيش الأوضاع الحياتي نفسها. ففي عمان مثلاً أناس يعيشون في جبل اللويبدة، وأناس يعيشون في جبل النظيف وأناس يعيشون في المخيمات ولا يمكن أن تكون مواقف هؤلاء الناس واحدة من قضية الثورة.
أما القول بأننا نعيش في مرحلة تحرر وطني وليس مرحلة الثورة الاشتراكية فهذا له علاقة بموضوع أية طبقات هي المتصارعة، وأية طبقات تقف مع الثورة وأية طبقات تقف ضدها في كل مرحلة من المراحل ولكنه لا يلغي القضية الطبقية وقضية الصراع الطبقي.
إن معارك التحرر الوطني هي أيضاً معارك طبقية، معارك بين الاستعمار والطبقة الإقطاعية والرأسمالية المرتبطة مصالحها مع مصالحه من جهة ثانية. وإذا كنا نعني بقولنا إن معارك التحرر الوطني هي معارك وطنية قومية بمعنى أنها معارك تخوضها الغالبية الساحقة من جماهير الأمة، فهذا صحيح إما أن يكون المقصود من ذلك بأنها تشذ عن قاعدة الصراع الطبقي بين المستغلين (بكسر الغين) والمستغلين (بفتحها) فهذا غير صحيح .
ومن هذه الزاوية كذلك يجب أن ننظر إلى القول بأن الخطر الإسرائيلي الصهيوني يهدد الوجود الفلسطيني والعربي بكامله وإن الصراع هو صراع بين المحور الصهيوني والمحور العربي. فإذا كان المقصود من هذا الكلام هو كون الخطر الصهيوني يهدد الغالبية الساحقة من الجماهير الفلسطينية والعربية فهذا صحيح وأكيد. وأما إذا كان المقصود من هذا الكلام هو نفي الالتقاء في المصالح بين إسرائيل والرجعية العربية (رغم قلة نسبتها العددية إلى جماهير الشعب) أو نفي التفاوت في الأدوار الثورية لبقية الطبقات بحيث تعتبر ثورية البرجوازية الصغيرة التي تعيش في المدن على نفس مستوى ثورية سكان الريف أو سكان المخيمات فهذا غير صحيح .
خلاصة القول إن نظرتنا الطبقية لقوى الثورة الفلسطينية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الوضع الطبقي في المجتمعات المتخلفة وكون معركتنا معركة تحرر وطني، كذلك خصوصية الخطر الصهيوني. ولكن ذلك يعني أن نحدد علمياً طبقات الثورة وأدوارها على ضوء هذه الخصوصيات، ولا يجوز أن يعني إلغاء النظرة الطبقية في تحديد قوى الثورة .
إن الفكر اليميني هو الذي يحاول إلغاء النظرة الطبقية لدى تحديد قوى الثورة وذلك لكي يتيح البرجوازية إمكانية التسلل مراكز القيادة وإجهاض الثورة عند الحدود التي تفرضها مصالحها .
إننا يجب أن نواجه بكل قوة كافة الأفكار التي تحاول حجب الحقائق الطبقية الموضوعية بستار من الضبابية والغموض. هل يلتحق بالقتال الفعلي اليوم أبناء كافة الطبقات؟ أم أن الغالبية الساحقة من المقاتلين هم من أبناء العمال والفلاحين. وإذا كانت غالبية المقاتلين الساحقة من أبناء العمال والفلاحين، فلماذا لا يتطابق الفكر السياسي للثورة الفلسطينية مع الحقائق الموضوعية الواضحة .
وعن الصيغة التنظيمية المطلوبة لتعبئة قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني :
ترى الوثيقة بحق، أن التنظيم السياسي المتسلح بالنظرية الاشتراكية العلمية هو الصيغة الأعلى لتنظيم وتعبئة قوى الطبقة العاملة وحشدها لأعلى مستوى. إن هذه الحقيقة هي التي بينتها بكل وضوح كافة التجارب الثورية التي شهدها هذا القرن. إن تجربة الصين، فيتنام، وكوبا، وكذلك تجربة ثورة أكتوبر نفسها، كلها تبرز وتؤكد هذه الحقيقة .
إن النظرية الاشتراكية العلمية بتوضيحها وتفسيرها العلمي لحالة البؤس التي تعيشها الطبقة العاملة، وتبيانها لعملية الاستغلال التي يمارسها الاستعمار وتمارسها الرأسمالية لهذه الطبقة، وبتوضيحها لطبيعة التناقض الرئيسي الذي تعيشه مجتمعات هذا العصر على الصعيد العالمي والمحلي وبتوضيحها لحركة التاريخ واتجاهها، وبتحديدها كذلك لدور الطبقة العاملة وأهمية هذا الدور، وتبيانها للأسلحة التي تملكها هذه الطبقة، إن النظرية الاشتراكية العلمية هي التي تجعل الطبقة العاملة واعية وجودها وأوضاعها، ومستقبلها، وبالتالي قادرة على حشد قوى هذه الطبقة إلى أعلى الحدود.
كما أن الفكر الاشتراكي العلمي، والتجارب الثورية العالمية هي التي أوضحت بكل جلاء كيف أن التنظيم السياسي الثوري المتسلح بالنظرية الثورية، نظرية الطبقة العاملة، هو الطريق لتنظيم الطبقة العاملة لنفسها وحشدها لقواها، وتوحيد طاقاتها، وتحديد إستراتيجيتها في معركتها. وإذا كانت تجارب الحركة الفلسطينية والعربية لم تنجح حتى الآن في التصدي والانتصار على الامبريالية والصهيونية وإسرائيل والقوى الرجعية فالسبب في ذلك أنها لم تأخذ هذا التنظيم.إن فشل التنظيمات السياسية في الساحة الفلسطينية والعربية لا يشكل إدانة للتنظيم السياسي الحزبي بشكل عام، بل يشكل إدانة لخط من التنظيمات السياسية لم تقم من الناحية الإيديولوجية والطبقية والتنظيمية على أساس هذه النظرية وعلى هذه التجارب وعملية الارتقاء الثوري بالحركة الوطنية الفلسطينية لا يمكن أن تقوم على إدانة فكرة التنظيم السياسي الثوري من حيث المبدأ، وإنما طريقها الوحيد هو أن تأخذ بالتنظيم السياسي الذي تحددت طبيعته على ضوء النظرية الاشتراكية العلمية والتجارب.
إن هذه الصيغة التنظيمية هي الإطار التنظيمي لحشد القوة الأساسية من قوى الثورة وهي طبقة العمال. وليس ذلك فحسب، بل إن هذه الصيغة-في مراحل التحرر الوطني كما أثبتت التجارب الثورية الكبرى- هي كذلك الصيغة القادرة على تعبئة قوى الفلاحين وحشدها إلى أعلى مستوى .
وبالتالي فإننا من خلال هذه الصيغة نكون قد أوجدنا الإطار لتعبئة وتنظيم طبقات الثورة الأساسية المتمثلة بالعمال والفلاحين.
ولكن، ماذا عن البرجوازية الصغيرة؟ إن البرجوازية الصغيرة هي كذلك، وفق تحليلنا، قوة من قوى الثورة فهل نستطيع تجنيدها من خلال هذا الإطار؟ وإذا كان الجواب سلباً فما هو الإطار التنظيمي الذي يمكن من خلاله تجميع وحشد كافة قوى الثورة؟
إن البرجوازية الفلسطينية الصغيرة لن تنتظم بغالبيتها ضمن هذا الإطار التنظيمي الذي يقوم على أساس التنظيم السياسي المتسلح بالنظرية الاشتراكية العلمية. إن الفكر الاشتراكي للثورة ليس فكر هذه الطبقة. والتنظيم الحزبي القوي الملتزم والمنضبط ليس هو الصيغة التنظيمية التي ترتاح لها. إن البرجوازية الصغيرة تفضل الالتزام بفكر تحرري عام لا يتجاوز الشعارات التحررية العامة، وبتنظيم سياسي مائع لا يتطلب منها ما هو فوق طاقتها، وبالتالي فإن البرجوازية الصغيرة لن تنتظم ضمن هذه الصيغة. بل إنها ستقبل على التنظيمات الفلسطينية الأخرى التي لا تتبنى بوضوح النظرية الاشتراكية العالمية والتنظيم السياسي الحزبي الثوري الملتزم بها، وعلى ضوء ذلك فإن الصيغة التنظيمية الكاملة القادرة على استيعاب كافة قوى الثورة هي صيغة التنظيم السياسي الحزبي الملتزم بالاشتراكية العلمية القادرة على تعبئة العمال والفلاحين إلى المستوى الأعلى، والمنادى في الوقت نفسه بقيام جبهة وطنية من خلالها يتم التحالف بين العمال والفلاحين- طبقات الثورة الأساسية وعمادها - وبين البرجوازية الصغيرة كقوة من قوى الثورة .
بهذا يكتمل تصورنا لقوى الثورة فلسطينياً والصيغة التنظيمية القادرة على تعبئتها.
وفي رأينا أن هذه الصيغة هي التي تتلاءم كلياً مع التحليل العلمي للأمور وهي التي تتطابق كذلك موضوعياً مع مصلحة الثورة. فمن خلال هذه الصيغة تتوفر الرؤية الواضحة للمعركة من ناحية، وتتوفر أعلى تعبئة لقوى الثورة الأساسية، وفي الوقت نفسه تتوفر أعرض جبهة ممكنة للوقوف في وجه معسكر الخصم.
إن الجبهة الوطنية العريضة المقترحة على ضوء هذا التصور هي في رأينا التحقيق الثوري للوحدة الوطنية الفلسطينية. فإذا كان المقصود بالوحدة الوطنية الفلسطينية تجميع كافة قوى الثورة في مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي للوقوف في وجه التناقض الأساسي متمثلاً بإسرائيل والاستعمار والرجعية فإن هذه الصيغة هي التي تحقق هذا الهدف أن هذه الطبقات الثلاثة الملتقية ضمن صيغة الجبهة تمثل - حتى من الناحية العددية - الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني. أما الوحدة الوطنية التي ينادي بها البعض والتي يقصد منها تسلل القيادات التقليدية والبرجوازية الكبيرة والرجعية إلى صفوف الثورة، والتي يقصد منها كذلك ضرب فكرة التنظيم السياسي فإنه من الواضح أنها لا تخدم مصلحة الثورة.
مما تقدم تتضح الخطوط الأساسية لموقفنا من موضوع العلاقات بين القوى الفلسطينية وعلى ضوء هذه الخطوط نستطيع أن نحدد مواقفنا من كافة المواضيع والمشكلات التي تطرح نفسها على هذا الصعيد، وعلى ضوء هذه الخطوط أيضاً يتضح موقفنا من الصورة القائمة في الساحة الفلسطينية وبأي اتجاه سنبذل جهودنا لإقامة علاقات موضوعية بين قوى الثورة الفلسطينية وتنظيماتها:
- إننا نعتبر الوحدة الوطنية الفلسطينية أمراً أساسياً لتعبئة كافة قوى الثورة للتصدي لمعسكر الخصم وعلى هذا الأساس فإننا يجب أن نتخذ موقفاً فعالاً في هذا الاتجاه.
- إن صيغة الوحدة الوطنية هي قيام جبهة تتمثل فيها كافة طبقات الثورة - العمال والفلاحون والبرجوازية الصغيرة.
- يجب أن ننشط باتجاه تعبئة العمال والفلاحين في تنظيم سياسي ثوري واحد متسلح بالنظرية الاشتراكية العلمية. وعلى هذا الأساس يجب السعي الفاعل لتوحيد كافة التنظيمات الفلسطينية اليسارية التي يمكن من خلال الحوار والتجربة ان تلتزم بهذا التحليل .
- إن البرجوازية الصغيرة لن تنتظم في هذه الصيغة التنظيمية الملتزمة بالاشتراكية العلمية والتنظيم السياسي القوي، وبالتالي فإنها ستنتظم ضمن التنظيمات الفلسطينية التي تكتفي بالشعارات التحررية العامة والتي تتجنب الوضوح الفكري والطبقي والتي تعيش حياة تنظيمية لا تلزمها بما هو فوق طاقتها، وبعبارة أخرى فإن هذه الطبقة ستملأ منظمة"فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية بالدرجة الأولى.
- على هذا الأساس، وعلى أساس رؤيتنا للتناقض الأساسي، وطبيعة المرحلة، وضرورة الوحدة الوطنية التي تجمع كافة قوى الثورة للوقوف في وجه إسرائيل، فإننا يجب أن نعمل على إقامة جبهة وطنية مع فتح والمنظمة توفر للمعركة تحالفها الطبقي اللازم من ناحية، وتحافظ لكل طبقة على حقها في رؤية المعركة والتخطيط لها وفق أفقها الطبقي من ناحية ثانية.
هذه هي رؤيتنا لقوى الثورة الفلسطينية وصيغة تعبئتها وحشدها.
إن صيغة العلاقات التي نطرحها هنا بين القوى الفلسطينية الأساسي تحدد الخط الاستراتيجي العام الذي سيحكم توجهنا. ومن الواضح أننا في توجهنا باتجاه هذا الخط سنواجه تعرجات كثيرة وتشابكات كثيرة تفرض علينا تكتيكياً أن نحدد في كل فترة صورة تفصيلية بقدر الإمكان تتناسب مع طبيعة الفترة، وطبيعة أوضاع القوى الفلسطينية المتعددة التي تكون قائمة وفعالة في كل وقت من الأوقات.
والآن.. هل يقف تفكيرنا الاستراتيجي لمعركة تحرير فلسطين عند حدود الشعب الفلسطيني والساحة الفلسطينية .
إننا إذا تذكرنا معسكر الخصم وحجمه وطبيعته، ندرك فوراً أن أي تفكير استراتيجي بمعركة التحرير الفلسطينية يجب أن يشمل تعبئة كافة قوى الثورة على الصعيد العربي والعالمي، إذ أننا بمثل هذا الحشد والتعبئة يمكننا فقط توفير القوة القادرة على التصدي لإسرائيل والصهيونية والامبريالية العالمية والرجعية العربية.
أما حصر الثورة الفلسطينية ضمن حدود الشعب الفلسطيني فمعناه الفشل إذا تذكرنا طبيعة التحالف المعادي الذي نواجهه. إن الثورة الفلسطينية، المتلاحمة مع الثورة العربية، والمتحالفة مع الثورة العالمية هي وحدها القادرة على تحقيق الانتصار.
قوى الثورة على الصعيد العربي
وصيغة العلاقات بين حركة التحرر الوطني الفلسطيني والقوى العربية
ان تعبئة وحشد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني - حتى من خلال تنظيم سياسي يلتزم بالاشتراكية العلمية ويعمل على هديها ويعبئ الطبقات المسحوقة على أعلى حد ويتحد جبهوياً مع البرجوازية الصغيرة - كل ذلك لا يكفي لإيجاد المعسكر الثوري الذي يستطيع التفوق على المسكر المعادي والمكون من جبهة عريضة وقوية تضم إسرائيل والحركة الصهيونية والامبريالية ومعها الرجعية العربية.
إن إستراتيجية معركة التحرير الفلسطينية تتطلب تعبئة وجهود كافة قوى الثورة في البلدان العربية بوجه عام وفي الأقطار العربية المحيطة بإسرائيل بوجه خاص. ومن هنا تأكيد الجبهة الشعبية ترابط القضية الفلسطينية بالقضية العربية، وضرورة التلاحم بين الثورة الفلسطينية والثورة العربية، وبالتالي ضرورة التلاحم بين حركة التحرر الفلسطينية وحركة التحرر العربية. ومن هنا كذلك ضرورة التأكيد الاستراتيجي على شعار "هانوي العربية" كقاعدة ثورية تحدث التلاحم بين الثورة الفلسطينية والثورة العربية وتشكل قاعدة متينة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني والعربي تستطيع الصمود أمام معسكر العدو ومواجهته وتحقيق التفوق عليه .
ومع أننا لا نقول بأن تعبئة قوى الثورة في الساحة العربية هي مهمة مباشرة من مهمات الثورة الفلسطينية، إلا إننا نستطيع القول بان مصير الثورة الفلسطينية ومصير المقاومة المسلحة -العمل الفدائي- التي يقوم بها حالياً الشعب الفلسطيني رهن بمدى تلاحمها مع إستراتيجية ثورية تستهدف حشد قوى الثورة في ساحة الأردن ولبنان وسورية والعراق و مصر وبقية الأقطار العربية. إن أزمة المقاومة الفلسطينية ليست ناتجة فقط عن عدم اكتمالها لكافة الشروط الإيديولوجية والإستراتيجية والتنظيمية، المفروض توفرها لحركات التحرر الوطني المنتصرة في هذا العصر، وإنما تكمن أزمتها، التي ستبقى تشكل مقتلاً لها، في أن هذه المقاومة تعيش في ظل ظروف عربية معرقلة لها، تسلط على رأسها سيف التصفية للقضية عن طريق تنفيذ قرار مجلس الأمن، بدلاً من أن تشكل سندا ثورياً يشد أزرها ويوسع رقعتها ويضاعف قواها.
على ضوء ذلك فإن إستراتيجية تحرير فلسطين، باعتبارها معركة ضد إسرائيل والصهيونية والامبريالية والرجعية العربية، تتطلب إستراتيجية ثورية فلسطينية متلاحمة مع إستراتيجية ثورية عربية.
إن القتال المسلح ضد إسرائيل وكافة مصالح الاستعمار في وطننا، وامتداد جبهة الكفاح المسلح التي تتصدى للرجعية العربية وكافة مصالح وقواعد الامبريالية في الوطن العربي، والإطباق على إسرائيل بإستراتيجية حرب التحرير الشعبية من كل جهة - من سورية ومصر ولبنان والأردن وداخل الأرض المحتلة قبل 5 حزيران وبعد 5 حزيران - هو طريقنا الوحيد الذي يؤدي إلى النصر. ليس المهم أن يسجل الشعب الفلسطيني موقفاً بطولياً من خلال العمل الفدائي، إنما المهم هو التحرير والنصر. وطريق التحرير، على ضوء تحديدنا لمعسكر الخصم، هو جبهة فلسطينية عربية ثورية تـنضج العمل الفدائي وتحميه وتسانده وتمهد الطريق لامتداده حتى يشمل إسرائيل من كافة جوانبها وحتى يشمل كافة القوى المعادية التي تمد إسرائيل بالإسناد والحماية.
إن إستراتيجية العمل العربي الثوري تتطابق في خطوطها العريضة مع إستراتيجية العمل الثوري الفلسطيني. وإن أساس هذا التطابق هو تطابق طبيعة المرحلة التي تمر بها الأقطار العربي ففي ظل احتلال إسرائيل لسيناء والجولان، وفي ظل وجود إسرائيل وبقائها ركيزة ينطلق منها الاستعمار لضرب كل بادرة تحررية عربية، في ظل هذه الصورة الموضوعية، فإن المرحلة التي تعيشها الأمة العربية اليوم رغم التحولات الطبقية والاقتصادية التي حدثت في مصر وسورية والجزائر والعراق باتجاه التحول الاشتراكي -هي مرحلة التحرر الوطني، مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.
إن إستراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطية في هذا العصر أصبحت واضحة من خلال التجربة الفيتنامية وقبلها التجربة الكوبية والصينية.
إن خطوط هذه الإستراتيجية هي: تعبئة وحشد قوى العمال والفلاحين الفقراء إلى أعلى مستوى، وقيادة هذه الطبقات للثورة من خال تنظيم سياسي يلتزم النظرية الاشتراكية العلمية ويهتدي بها، متحالفاً مع قوى البرجوازية الصغيرة التي لا تعارض مصالحها مع طبيعة الثورة الوطنية الديمقراطية، ومعتمداً أسلوب الكفاح المسلح، متغلباً على تفوق الخصم التكنولوجي عن طريق الحرب الطويلة المدى التي تبدأ القتال بأسلوب حرب العصابات وتتطور إلى حرب تحرير شعبية مصممة على الانتصار .
إن حركة التحرر الوطني في الأقطار العربية لم تتبلور حتى الآن وفق هذه الخطوط، ولكن نمو المقاومة الفلسطينية المسلحة وما تفرزه من ضغوطات وحالة شعبية جماهيرية واحتدام في طبيعة الصدام بين إسرائيل من ناحية والبلدان العربية المحيطة بها من ناحية ثانية ستخلق الظروف الموضوعية التي تمهد وتساعد على ولادة ونمو حركة التحرر الوطني التي تلتزم هذه الإستراتيجية بقيادة العمال والفلاحين. ومن خلال تحالف حركة التحرر الوطني الفلسطيني مع حركة التحرر العربية ثم تلاحمها معها تنبثق القوة الفلسطينية العربية والإستراتيجية الفلسطينية العربية التي تستطيع الانتصار في معركة قاسية وطويلة تفرضها طبيعة الخصم الذي نواجهه.
يبقى أن تحدد حركة التحرر الوطني الفلسطينية علاقاتها العربية على ضوء الظروف القائمة الآن في الساحة العربية.
إن الرأسمالية العربية والإقطاع ما زالت حتى الآن هي القوة الطبقية الحاكمة في بعض البلدان العربي. وإن حكم هذه القوى الطبقية تتمثل الآن في الأنظمة الرجعية في الأردن ولبنان وبعض البلدان العربية الأخرى. إن هذه الأنظمة ترتبط مصلحياً مع الامبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة. ورغم التناقض الجزئي والشكلي أحياناً القائم بين هذه الأنظمة من ناحية وإسرائيل من ناحية ثانية، إلا أن هذا التناقض الجزئي يقوم في ظل لقاء موضوعي مع الرأسمالية العالمية. ومن هنا فإن علاقة الكفاح المسلح- الفلسطيني حالياً، والعربي مستقبلاً - هي في المدى الاستراتيجي علاقة تصادم مع هذه الأنظمة رغم أية مواقف تكتيكية تفرضها،على الجانبين اعتبارات مؤقتة.
هذا عن علاقة حركة التحرر الوطني بالأنظمة الرأسمالية والرجعية غير أن الموقف الدقيق الذي يواجهه الكفاح المسلح الفلسطيني وتواجهه حركة التحرر الوطني الفلسطينية هو تحديد علاقاتها مع الأنظمة الوطنية في الساحة العربية، وخاصة مع الأنظمة الوطنية المحيطة بإسرائيل أو القريبة من ميدان التصادم- نعني بذلك مصر وسورية والعراق.
إن أي تقييم ثوري جريء لهذه الأنظمة يجب أن يكون محوره الأساسي هزيمة حزيران ونتائجها ومعانيها. وكذلك ما تلا هذه هزيمة من إستراتيجية وبرامج ومواقف. وإن أية محاولة لتمييع او تبهيت او تشويش الرؤية الواضحة لهذه الهزيمة ومعانيها ودروسها لا يمكن الا أن تكون مصلحية مغرضة أو رؤية مثالية عاطفية بعيدة عن العلمية والموضوعية والصراحة الجريئة في رؤية الأمور .
لقد أدت هزيمة حزيران إلى احتلال فلسطين بكاملها وكذلك الجولان وسيناء، وإلى تشريد مئات الألوف من المواطنين وإلى طعن كرامة أمة بكاملها. وبالتالي فإن الموقف الثوري هو الموقف الذي لا يمكن أن يجامل أو يساوم أو يميع الرؤية الواضحة للأمور التي من خلالها فقط نستطيع فهم هزيمة حزيران أو تحليلها وبالتالي رؤية الإستراتيجية السياسية والعسكرية التي من خلالها نضمن الصمود والانتصار في المعركة .
إن الجماهير الفلسطينية والعربية، وكذلك الأحزاب والتنظيمات الوطنية العربية، كانت ترى في هذه الأنظمة أنظمة تقدمية ثورية يمكن الوصول عبرها إلى تحرير فلسطين وأهداف الجماهير. وعندما بدأت بوادر حرب حزيران لم تكن هذه الجماهير، وهذه القوى تتوارى عن هزيمة من نمط ما حدث في حزيران. ولقد أتت هزيمة حزيران لتؤكد الخطأ الكبير الذي كان قائماً في رؤية الأمور. ولقد كان هناك خطأ في معرفة الخصم وتحديده بوضوح وتقييم مخططاته وتحديد كافة فصائله وقدرات كل فصيل من هذه الفصائل. كما كان هناك خطأ في تحديد المرحلة، وخطأ أكبر في تقييم كل الوجود الثوري الذي مثلته هذه الأنظمة الوطنية والتنظيمات والمؤسسات الوطنية العربية .
على ضوء كل ذلك، كما تستخلص الوثيقة، يمكننا علمياً تقييم هذه الأنظمة ودورها في معركة التحرير الوطني الفلسطينية والعربية وبالتالي تحديد صيغة العلاقات بينها وبين حركة التحرير الوطني الفلسطينية الثورية:
- إن هذه الأنظمة معادية للإمبريالية والصهيونية وإسرائيل والرجعية العربية متمثلة بالإقطاع والرأسمالية.
- لقد حققت هذه الأنظمة مجموعة إنجازات ثورية على طريق الثورة الوطنية الديمقراطية التي تشابكت - كما هو الحال في مصر- مع بداية التحول في بنية المجتمع الاقتصادي بالاتجاه الاشتراكي.
- إن هذه الأنظمة لم تعد قادرة- بحكم التكوين الطبقي الذي نتج عن تجربتها - على مواصلة السير في طريق الثورة والارتفاع بها إلى المستوى الذي يمكنها من مواجهة حالة الاستنفار التي ولدتها في معسكر الامبريالية وإسرائيل والرجعية العربية.
- إن برامج هذه الأنظمة في مواجهة المعركة هي برامج الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تحتل قمة الهرم وموقع القيادة فيها والتي أثبتت حرب حزيران وما تلا حرب حزيران عجزها عن أحداث التعبئة الإيديولوجية والسياسية والعسكرية والاقتصادية القادرة على الصمود وإنهاك العدو وتحقيق الانتصار. إن هذه الأنظمة ما زالت تطرح إستراتيجية الحرب التقليدية وبرامج الإصلاحات التي تحاول من خلالها سد الثغرات الفادحة في هذه التجارب دون أن تحدث تغييراً جذرياً تاماً في مجمل بنيانها.
- على ضوء كون هذه الأنظمة معادية للاستعمار وإسرائيل من ناحية، وكونها تطرح برامج وسطية غير جذرية في مواجهة العدو من ناحية ثانية، فإن العلاقة مع هذه الأنظمة يجب أن تكون علاقة تحالف وصراع في الوقت نفسه، التحالف معها لأنها معادية للإمبريالية وإسرائيل، والتناقض معها حول إستراتيجيتها في مواجهة المعركة .
- سيكون هناك إستراتيجيتان في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وخوض معركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية الإستراتيجية البرجوازية الصغيرة التي تطرح نظرياً وتتجه عملياً نحو إستراتيجية الحرب التقليدية من خلال إعادة بناء المؤسسة العسكرية إذا تعذر الوصول لحل سلمي، مقابل إستراتيجية الطبقة العاملة التي تطرح نظرياً وتتجه عملياً نجو إستراتيجية الحرب التقليدية من خلال إعادة بناء المؤسسة العسكرية إذا تعذر الوصول لحل سلمي، مقابل إستراتيجية الطبقة العاملة التي تطرح نظرياً وتتجه عملياً نحو حرب العصابات، وحرب التحرير الشعبية التي تخوضها الجماهير بقيادة الطبقة العالمة، وبأوسع جبهة وطنية معادية للإمبريالية، وبرامج تعبوية ثورية ترتفع بعملية الحشد الجماهيرية الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والعسكرية على أعلى مستوى .
- ستتعايش هاتان الإستراتيجيتان وكذلك القوى الممثلة لهما لفترة من الزمن في ظل علاقات تحالف وصراع على أن تتغلب في نهاية الأمر إستراتيجية الطبقة العاملة في الساحة الفلسطينية والعربية معاً بحيث تواجه العدو بتحالف طبقي واسع يضم العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة، بقيادة الطبقة العاملة وفي ظل إيديولوجيتها وبرامجها وحربها الشعبية التحررية المصممة على الانتصار والقادرة عليه.
- بهذا تتحدد صيغة العلاقات بين الثورة الوطنية الفلسطينية وكافة القوى العربية.
إن الثورة الفلسطينية ستكون في المدى الاستراتيجي متصادمة مع القوى الرجعية العربية والأنظمة التي تمثلها، وستحكمها علاقات تحالف وصراع مع الأنظمة الوطنية، التي تعتلي البرجوازية الصغيرة قمة الهرم فيها، وستقيم علاقات تحالف متجهة نحو الالتحام مع قوى الثورة العربية- المتمثلة بالعمال والفلاحين- وتعبيراتها السياسية والتي ستتولد في الساحة العربية بوجه عام، والأقطار العربية المحيطة بإسرائيل بوجه خاص، بحكم طبيعة المعركة وطبيعة الإستراتيجية الثورية التي ستفرزها.
ومن خلال هذه الصورة - صورة الثورة الفلسطينية العربية، تقودها الطبقة العاملة والتي تضم كافة القوى المعادية للاستعمار،وأن تعتمد أسلوب حرب العصابات وحرب التحرير الشعبية والتي تطرح البرامج الثورية الكفيلة بحشد قوى الجماهير إيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً إلى أعلى مستوى - ومن خلال هذه الصورة تكتمل رؤيتنا الإستراتيجية لمعركة تحرير فلسطين على الصعيد الفلسطيني أولاً، والصعيد العربي ثانياً.
حرب التحرير الفلسطينية
أهدافها ومعانيها
إن كون إسرائيل وجوداً عدوانياً ضد شعبنا من الأساس أمر لا يقبل المناقشة. إن قيام إسرائيل كان بالنسبة لشعبنا، طرده من وطنه وأراضيه، والاستيلاء على كل ما بناه شعبنا بجده وكدحه، وتشريده في مختلف أجزاء الوطن العربي والعالم، وحشر غالبيته في مخيمات البؤس والشقاء الموزعة في الأردن وسورية ولبنان وقطاع غزة بدون أمل ودون مستقبل.
إن كون إسرائيل وجوداً توسعياً استعمارياً على حساب الأرض العربية وأهلها، أمر لا يقبل النقاش. إنه بالنسبة لنا التجربة الحسية الملموسة التي تتبدد أمامها كل الإدعاءات الزائفة. إن"الوطن القومي الذي نص عليه وعد بلفور في عام 1917 أصبح"الدولة اليهودية" التي يشكل 54% من فلسطين بموجب قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1947، وتحول إلى "دولة إسرائيل" بحدود ما قبل حزيران 1967(أي 78% من أراضي فلسطين)، على أن اتسع أخيراً فشمل فلسطين بأكملها بالإضافة على سيناء ومرتفعات الجولان السورية.
إن كون إسرائيل قاعدة للامبريالية والاستعمار في أرضنا يستخدمها لضرب حركة الثورة والإبقاء على خضوعنا، واستمرار نهبه واستغلاله لثرواتنا وجهودنا، أمر واضح لنا، ولا يقبل النقاش. وليس ذلك بالنسبة لنا مجرد استنتاج نظري، وإنما هو الواقع الذي عشناه خلال العدوان الثلاثي عام 56، وخلال حرب حزيران عام 67، وطيلة وجود إسرائيل في أرضنا.
إلا أن ارتباط نشوء الحركة الصهيونية بالاضطهاد الأوروبي ضد اليهود، وارتباط نشوء إسرائيل بالاضطهاد النازي لهم خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك سيطرة النفوذ الامبريالي والصهيوني على قطاعات كبيرة من الرأي العام العالمي، بالإضافة على وجود قوى سياسية تدعي التقدمية والاشتراكية، مضافاً لهذه الصورة تأييد الاتحاد السوفيتي وبعض الدول الاشتراكية لقيام دولة إسرائيل زائد خطأ بعض القيادات الفلسطينية والعربية في طريقة طرحها لطبيعة المعركة ضد إسرائيل... كل ذلك أدى إلى تشويه حقيقة حربنا التحررية وما زال يهدد بتشويه الرؤية السليمة لحقيقة هذه الحرب في نظر الكثيرين.
إن حركة التحرير الفلسطينية ليست حركة عنصرية عدوانية ضد اليهود. إنها لا تستهدف اليهود، وإنما هدفها تحطيم دولة إسرائيل ككيان عسكري سياسي اقتصادي قائم على العدوان والتوسع والارتباط العضوي بمصالح الاستعمار في وطننا. إنها ضد الصهيونية كحركة عنصرية عدوانية، ترتبط مع الاستعمار، وتتخذ من آلام العالم الغني لخدمة مصالحها ومصالح الامبريالية في هذا الجزء من العالم الغني بالثروات والذي يشكل مدخلاً لبلدان إفريقيا وآسيا.
إن هدف حركة التحرر الفلسطينية هو إنشاء دولة وطنية ديمقراطية يعيش فيها العرب واليهود كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وتشكل جزءاً لا يتجزأ من الوجود الوطني العربي الديمقراطي التقدمي المتعايش بسلام مع كل قوى التقدم في العالم .
لقد حرصت إسرائيل على تصوير حربنا ضدها كحرب عنصرية تستهدف القضاء على مواطن يهودي وإلقائه في البحر. وهدفها وراء ذلك حشد كافة المواطنين اليهود وتعبئتهم لحرب حياة أو موت، وبالتالي فإن خطأ استراتيجياً أساسيا في حربنا ضد إسرائيل يجب أن يستهدف فضح هذا التزييف ومخاطبة الجماهير اليهودية المستغلة (بفتح الغين) والمضللة وتبيان التناقض بين مصلحة هذه الجماهير في العيش بسلام وبين الحركة الصهيونية والقوى المتحكمة في دولة إسرائيل.
إن هذا الخط الاستراتيجي هو الذي يكفل لنا عزل الطغمة الفاشية في إسرائيل عن كافة قوى التقدم في العالم. وهو الذي يكفل لنا كذلك، خاصة مع نمو الكفاح المسلح التحرري وتوضيحه هويته، توسيع شقة التناقض القائم موضوعياً بين إسرائيل والحركة الصهيونية من ناحية وملايين اليهود المضللين والمستغلين (بفتح الغين) من ناحية ثانية .
إن حركة التحرر الفلسطينية حركة وطنية تقدمية ضد قوى العدوان والامبريالية. وإن ترابط مصالح الامبريالية مع بقاء إسرائيل، سيجعل من معركتنا ضد إسرائيل معركة ضد الامبريالية في الأساس. كما إن ترابط حركة التحرر الفلسطينية مع حركة التحرر العربية سيجعل من معركتنا ضد إسرائيل معركة مائة مليون عربي في كفاحهم التحرري القومي الوحدوي. إن معركة فلسطين اليوم، وكافة الظروف الموضوعية التي تحيط بها، ستجعل من هذه المعركة مدخلاً لتحقيق كافة أهداف الثورة العربية المترابطة مع بعضها البعض. إنها حركة تاريخية واسعة وكبيرة يخوضها مائة مليون عربي في رقعة واسعة من العالم ضد قوى الشر والعدوان والاستغلال المتمثلة بالاستعمار الجديد في هذه الحقبة من تاريخ البشرية.
وأخيراً فإن معركة فلسطين ستكون بالنسبة للجماهير الفلسطينية والعربية مدخلاً نحو حضارة العصر وانتقالاً من حالة التخلف إلى الحياة العصرية الحديثة. إننا من خلال المعركة سنكتب الوعي السياسي لحقائق العصر. ومن خلال المعركة سنلقي بالأوهام ونتعلم قيمة الحقائق. إن عادات التخلف، المتمثلة بالاستسلام والاتكالية والفردية، والعشائرية والكسل والفوضى، والارتجال، ستتحول من خلال المعركة إلى إدراك لقيمة الوقت والنظام والدقة والطريقة الموضوعية في التفكير، وأهمية العمل الجماعي، والتخطيط، والتعبئة الشاملة، والإقبال على العلم واكتساب كافة أسلحته، ومعرفة قيمة الإنسان، وانعتاق المرأة - نصف المجتمع- من عبودية العادات والتقاليد البالية، وأساسية الترابط القومي في مواجهة الأخطار وسيادة هذه الرابطة على الروابط العشائرية والقبلية والإقليمية .
إن معركتنا التحررية، القومية، الطويلة الأمد ستعني انصهارنا في نمط جديد من الحياة، هو مدخلنا نحو التقدم والحضارة .
أما تناول الوثيقة للاستراتيجية التنظيمية، فقد أكدت على أن الثورة الفلسطينية تتطلب بالضرورة حزباً ثورياً فلسطينياً، انطلاقاً من المقولة التالي:
لا حزب ثوري بدون نظرية ثورية
إن الأساس في بناء الحزب الثوري هو النظرية الثورية التي يلتزمها. بدون هذه النظرية يكون الحزب مجرد تجمع يتحرك بالعفوية أو بالتجربة، على التحكم بالأحداث. إن النظرية الثورية معناها الرؤية الواضحة والنهج العلمي في فهم وتحليل الأحداث والظواهر، وبالتالي القدرة على القيادة .
والنظرية الثورية التي تطرح كل قضايا الإنسان والعصر بشكل علمي وثوري هي الماركسية. فالماركسية تمثل في تاريخ الجهد الإنساني لاكتساب المعرفة محاولة فذة في فهم الطبيعة والحياة والمجتمع والتاريخ. فقد طرحت الماركسية نظرية تحلل وتفسر الطبيعة وحركتها والقوانين التي تتحكم بهذه الحركة من خلال نهج مادي علمي محسوس (المادية الديالكتيكية)، بعيد عن الأوهام والخرافات الذاتية، والاستخراجات اللفظية أو المنطقية المجردة، ثم طبقت النهج ذاته - المادي العلمي المحسوس- على دراسة المجتمع، وحركة المجتمع، وسير التاريخ (المادية التاريخية)، ووقفت بشكل خاص أمام بنية المجتمع الرأسمالي الحديث وتركيبه وتناقضاته وحركته (نظرية فائض القيمة والاشتراكية العلمية). ومن خلال ذلك كله قدمت الماركسية نهجاً علمياً جدلياً ارتقى بدراسة التاريخ والمجتمع والظواهر السياسية إلى مستوى العلم. وكما أن العلوم الطبيعية هي وسيلة الإنسان للتحكم بظواهر الطبيعة وتسخيرها لمصلحته، كذلك فإن الماركسية هي العلم الذي يمكن الإنسان من فهم سير المجتمعات والتاريخ والقدرة على تسييرها والتأثير بها. وقد أكمل لينين جهود ماركس العلمية بتطبيقه النهج الماركسي ذاته على دراسة الرأسمالية في تطورها نحو مرحلة التمركز والاحتكار والاستعمار، مفسراً بذلك كافة الظواهر والأحداث السياسي التي رافقت بداية القرن العشرين، كما أنه استطاع بالاستناد إلى الماركسية، والنهج العلمي الاشتراكي، أن يقود بنجاح أول ثورة اشتراكية في التاريخ ويرسم إستراتيجيتها ويواجه مشكلاتها ويحدد معالم رأس التنظيم الثوري الذي قادها في طريق النصر. وبذلك أعطى لينين النظرية الماركسية تطبيقاتها العصرية الثورية، بحيث أصبحت الماركسية -اللينينية هي علم الثورة في هذه الحقبة من تاريخ الإنسانية. وقد اجتازت هذه النظرية، مثل كل النظريات العلمية الأخرى، اختبار صحتها على أرض الواقع والممارسة، فاكتسبت بالتالي، خلال هذا القرن، كافة مقوماتها كعلم. إن الاختبار النهائي لأية نظرية من النظريات أو قانون من القوانين هو مجيء التجربة متطابقة مع النظرية والقوانين. وهذا ما حدث بالنسبة للماركسية. إن ثورة أكتوبر، وثورة الصين، وكوبا وفيتنام، وكل الوجود الثوري على الصعيد العالمي، قام أساساً استناداً على هذه النظرية. يقابل هذه الصورة تعثر وتبلبل وانهيار كافة المحاولات الثورية التي لم تستند إلى هذه الرؤية وهذه النظرية وهذا الدليل. إذ أنه ليس من باب الصدفة نجاح وثبات ثورة أكتوبر والصين وكوريا الشمالية وفيتنام ودول أوروبا الاشتراكية، في الصمود في وجه الامبريالية ونجاحها في تجاوز أو بداية تجاوز حالة التخلف مقابل ما يشبه الشلل والتعثر التي تعيشها بلدان العالم الثالث، غير الملتزمة علمياً بالنظرية الاشتراكية العلمية كدليل لها في رسم كافة سياساتها وتحديد برامجها.
إن التتبع العلمي المادي الملموس لأحداث وثورات هذا القرن هو البرهان الحسي على صحة النظرية الماركسية.
إن الماركسية كسلاح نظري ثوري رهن بكيفية فهمها من ناحية وبصحة تطبيقها على واقع معين ومرحلة معينة من ناحية أخرى.
إن جوهر الماركسية هو النهج الذي تمثله في رؤية الأمور وتحليلها وتحديد اتجاه حركتها. وبالتالي فإن الفهم الثوري للماركسية هو فهمها كدليل للعمل وليس كعقيدة ثابتة جامدة. إن لينين وماوتسي تونغ، وقبلهما ماركس وانجلر، سجلوا في أكثر من مناسبة ضرورة النظر للماركسية كدليل للعمل وليس كعقيدة جامدة .
إن جوهر النظرة الماركسية للمجتمع البشري حركة متصلة، وتغيير متصل، وبالتالي فإن أي تحليل قدمته الماركسية لمرحلة معينة وواقع معين، لا يمكن أن يبقى هو التحليل ذاته لمرحلة أخرى، ولواقع جديد ينشأ باستمرار عن الواقع القديم. إن الثابت في الماركسية هو نهجها العلمي الجدلي في رؤية الأمور وهي في حالة المعركة والتغيير المتصل. وإن هذا النهج هو الماركسية وهو جوهرها، وهو السلاح النظري الثوري الذي يمكننا من رؤية الأمور علمياً وهي في حالة الحركة والتطور والتبدل المستمرين. الرأسمالية المعاصرة ليست هي الرأسمالية ذاتها في عصر ماركس، دون أي تبديل أو تغيير، وإن التكوين الطبقي في مجتمع متخلف ليس التكوين الطبقي ذاته في مجتمع صناعي وإن الظاهرة القومية التي حاولت البرجوازية الأوروبية استغلالها لخدمه مصالحها، ليست الظاهرة القومية نفسها في البلدان المتخلفة، حيث تكتسب القومية هنا مضموناً ثورياً باعتبارها الإطار الذي يعبئ الشعوب المستعبدة ضد الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية.
إن فهم الماركسية بشكل يمكننا من استيعاب هذه الفوارق، ومن الإفادة من الثروة النظرية التي قدمتها ثورات هذا القرن، ومن الإفادة أيضاً من كافة الجهود النظرية التي انطلقت من اعتماد الماركسية وعملت على إغنائها بدلاً من أن تقف وتتحجر عند حدودها، إن مثل هذا الفهم للماركسية هو واقع الأمر الفهم العلمي الماركسي لهذه النظرية. وعكس ذلك كل موقف ينظر للماركسية كعقيدة ثابتة.
إن النظرية في المفهوم الماركسي هي باستمرار على علاقة جدلية متصلة مع الواقع والممارسة، وكونها على علاقة جدلية متصلة مع الواقع والممارسة. وكونها على علاقة جدلية مع الممارسة معناه أنها في حالة نمو وارتقاء وتعديل وليس في حالة جامدة .
إن أخطر ما يواجهنا في التزامنا بالنظرية الماركسية هو فهمها بشكل مثالي ميكانيكي يفقدها قدرتها على تفسير الواقع الحي. إن الفائدة التي نحصل عليها من قراءة وفهم ما كتبه ماركس ولينين هي فائدة محدودة بحدود المعارف التي تطرحها هذه الكتابات. أما الفائدة الحقيقة فهي التي تحصل عندما نمتلك من خلال استيعابنا العميق لهذه الكتابات النهج الذي تطرحه الماركسية- اللينينية في فهم وتفسير ومواجهة قضايا المجتمع والتاريخ والعمل الثوري. إن الماركسية كأداة في التحليل وكدليل للعمل هي السلاح الذي يستهدف من امتلاك النظرية. وعلى هذا الأساس فإن الالتزام بالماركسية- اللينينية لا يقدم ولا يؤخر ما لم ينتج عن هذا الالتزام استعمال هذه النظرية وتطبيقها في فهم الواقع واستخراج إستراتيجية العمل التي تحدد طبيعة المرحلة وطبيعة المعركة وتحديد القوى المتصارعة، ورؤية حركة هذا الصراع، والإحاطة بالظروف الموضوعية التي نتحرك من خلالها. بهذا فقط، أي تطبيق الماركسية- اللينينية على الواقع الذي نعيشه والمعركة التي نخوضها، يصبح التزامنا بالنظرية الماركسية - اللينينية التزاماً له معناه وله ترجماته ونتائجه. إننا نخطئ كثيراً إذا توهمنا أن مجرد إعلاننا الالتزام بالنظرية الماركسية -اللينينية سيشكل عصا سحرية تشق لنا طريق النصر. فبقدر ما هنالك من أمثلة على ما مثلته الماركسية - اللينينية بالنسبة لبعض الثورات، كثورة الصين وفيتنام مثلاً، هنالك بالمقابل أمثلة لم يؤد بها الالتزام بالماركسية- اللينينية إلى أي شيء. إن الأحزاب الشيوعية العربية الملتزمة شكلاً ولفظاً بالماركسية - اللينينية لم تستطع قيادة الثورة في وطننا لأن التزامها كان التزاماً لفظياً، أو لأنها فهمت النظرية بشكل جامد متحجر أو لأنها لم تستطع تطبيق هذا السلاح النظري على الواقع الذي نعيشه بحيث تستخرج بواسطته الرؤية الواضحة للمعركة والإستراتيجية السليمة لقيادتها.
إن التزامنا النظرية الاشتراكية العلمية يكون مجرد فذلكة لفظية، ومجرد وهم وهروب من الواقع، ما لم يعن هذا الالتزام استيعاباً ناضجاً لهذه النظرية من قبل كوادرنا القيادية بالدرجة الأولى. وقواعدنا الحزبية بشكل عام. إن هذا الاستيعاب لا يمكن ان يتم جهد دراسي كبير لا بد من بذله لفترة طويلة من الوقت، هذا من ناحية. أما من ناحية ثانية، فإن قيمة هذا الالتزام، بهذه المعاني وهذه النتائج، هو الذي سيمهد لانتشار الفكر الثوري اليساري بين جماهير شعبنا، وهو الذي يمكن لهذا الفكر من تخطي العراقيل التي تنتصب في طريقه. إن جماهير شعبنا لن تحدد موقفها من الفكر الاشتراكي العلمي على ضوء محاكمة نظرية مجردة لهذا الفكر. إن موقفها سيتحدد على ضوء النتائج الملموسة التي سيفرزها هذا الفكر بالنسبة لمعركتها ضد أعدائها ومستغليها. وعندما يستطيع هذا الفكر أن يجعل من الساحة الفلسطينية - العربية ساحة حرب تحرير شعبية صاعدة تهز الوجود الإسرائيلي-الصهيوني- الامبريالي- الرجعي في وطننا، على نمط ما هو حصل في فيتنام، فإن الجماهير ستدرك أن هذه النظرية كانت أقوى أسلحتها في حربها ضد أعدائها. وبهذا تتلاشى كافة العراقيل، الموضوعية والمتوهمة، التي تنتصب في وجه هذه النظرية الآن.
إن الفكر السائد الآن بين جماهيرنا هو الفكر اليميني بحكم سيادة الرجعية والاستعمار. كما إن فشل الأحزاب الشيوعية ومواقفها من قضايا الجماهير- كقضية الوحدة والقومية وإسرائيل- أدى إلى تشابك في أذهان الجماهير بين هذه المواقف والفكر الماركسي. يضاف لذلك كله محاولات الرجعية والاستعمار المتصلة لتشويه هذا الفكر، وإظهاره بمظهر المعادي لقوميتهم وتراثهم. وأخيراً هناك الصورة المشوهة عن هذا الفكر التي تقدمها المراهقة اليسارية الفجة التي تتحدث عن هذا الفكر بلغة لا تفهمها الجماهير حيث تبدو وكأنها غريبة عنهم وعن تناول قضاياهم الملحة. غير أن النتائج الإيجابية التي سيفرزها الفهم والتطبيق السليم للماركسية - اللينينية ستكون كفيلة لهذا الفكر بأن يشق طريقه في وطننا بحيث نستطيع أن نبني عليه حياتنا الجديدة وفهمنا العلمي للحياة، وقيمنا العصرية الحديثة.
بهذا المحتوى تتبنى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين النظرية الماركسية- اللينينية كخط استراتيجي أساسي لبناء الحزب الثوري بناء نظرياً صلباً يوحد فكرها ورؤيتها للمعركة ويمكنها من تعبئة الجماهير لتصب جهودها باتجاه موحد يخلق منها القوة الصلبة القادرة على تحقيق الانتصار.
البنية الطبقية للحزب الثوري :
لا يكفي أن نضمن البنية النظرية الثورية للحزب. إن هذه البنية يجب أن تكون متطابقة مع البنية الطبقية. إن الحزب الثوري في الساحة الفلسطينية هو حزب طبقات الثورة: العمال والفلاحون بالدرجة الأولى. وعندما يكون أساس بنية الحزب من هذه الطبقات فعلاً، عندها نضمن صلابة هذا الحزب وصموده وقدراته الثورية، وصحة مواقفه. أما إذا كانت بنية الحزب وبنية كوادره الأساسية من الطبقة البرجوازية الصغيرة، فإن هذا الحزب، بغض النظر عن التزامه بالاشتراكية العلمية، سيعكس مواصفات هذه الطبقة بتذبذبها وترددها وميوعة مواقفها وإمكانية تراخيها وعدم صمودها أمام التحديات. إن أساس الاطمئنان الحقيقي لثورية التنظيم هو الاستيعاب العميق للاشتراكية العالمية والالتزام بها، وكون بنية الحزب من العمال والفلاحين بالدرجة الأولى ثانياً.
إن مثل هذه البنية الطبقية للحزب لا يمكن أن تتم بشكل عفوي. وإنما تتطلب الرؤية الواضحة والجهد الهادف المتجه وفق هذه الرؤية. إن العفوية التنظيمية ستؤدي عملياً إلى طغيان البرجوازية الصغيرة بحكم فعالية هذه الطبقة وإقبالها على العمل السياسي في هذه المرحلة مقابل ضعف وعدم فعالية العمال والفلاحين وعدم تبلور وعيهم السياسي والطبقي.
إن التنظيم السياسي للجبهة الشعبية حالياً لا يطابق تماماً البنية الطبقية الكادحة والمسحوقة التي تشكل الضمان المادي الموضوعي لثورية التنظيم وصلابته وقدرته على الاستمرار بالثورة. إن التنظيم السياسي للجبهة يشكل، إجمالاً، امتداداً عفوياً لتنظيم حركة القوميين العرب، وبالتالي تغلب عليه بنية البرجوازية الصغيرة وستكون نتيجة الاستمرار بالنمو العفوي دون جهد مخطط، بقاء تنظيمنا أساساً في عمان والمدن مع بعض الامتدادات الفرعية في الريف والمخيمات.
ان برامجنا التنظيمية يجب أن تستهدف وضع أكفأ عناصرنا القيادية في المخيمات والقرى. ولابد من عملية مسح شاملة للريف والمخيمات ثم التركيز الشديد في هذه المناطق. كذلك يجب التقاط العناصر الشابة والناهضة في هذه الأماكن وبناؤها نظرياً وتنظيمياً، بناء صلباً بحيث تصبح غالبية كوادرنا القيادية ذات انتماء طبقي ثوري.
إن وجود المئات من الأعضاء والكوادر في المدن في الوقت الذي لا تقوم فيه أية صلة بيننا وبين كثير من القرى وبعض المخيمات وأماكن التجمعات العمالية مهما كانت هذه التجمعات قليلة، دليل على استمرار العضوية في نمونا التنظيمي، ودليل على عدم رؤيتنا الثورية الواضحة للأمور، ودليل، أخيراً، على عدم وجود مخططات ثورية فعالة موجهة تنبثق من هذه الرؤية إن هذه المئات من الأعضاء والكوادر يجب ان تنتشر بفعالية - وفق مخطط منظم- لتغزو أماكن التجمعات الثورية الحقيقية بحيث نجد أنفسنا بعد فترة أمام تنظيم سياسي صلب قوامه الفقراء والكادحين والمسحوقين المصممين على الثورة والاستمرار بها والصمود أمام كافة التحديات. بهذا يمكن أن نطمئن لثورية تنظيمنا، وبهذا يصبح التنظيم السياسي سنداً حقيقياً للقتال يوفر له متطلباته من الثوار المقاتلين، ويشكل حماية حقيقة له، ويلتحم معه التحاماً كاملاً. إن التنظيم السياسي المستند إلى البرجوازية الصغيرة والمثقفين، والذي لا تمتد جذوره إلى القرى والمخيمات والأحياء الفقيرة من المدن، لا يمكن أن يوفر للقتال متطلباته من الرجال، ولا يشكل سنداً حامياً للمقاتلين. ليس هذا فحسب، بل قد يصبح هذا التنظيم السياسي، في واقع الأمر، عبئاً على القتال يستهدف من وراء علاقته بالكفاح المسلح الحصول على الامتيازات المعنوية والشكليات والمواقع القيادية الفوقية بالإضافة إلى زج الكفاح المسلح في ظاهرة الصراعات والتناقضات الشخصية والتكتيكية المستترة أحياناً وراء صراعات كلامية لا علاقة لها بقضايا القتال الحقيقية.
إننا لا نقصد بطبيعة الحال ان يكون تنظيمنا السياسي مغلقاً في وجه البرجوازية الصغيرة، وإنما نعني ان تكون المادة الأساسية للتنظيم من العمال والفلاحين الفقراء حتى نضمن للتنظيم صلابته وصموده وانضباطه وتوجهه العلمي الواعي للمعركة وقضايا القتال. وفي هذه الحالة يستطيع هذا التنظيم أن يعبئ ويجند ضمن صفوفه القطاعات الثورية من البرجوازية الصغيرة، دون أن يقع ضحية ترددها وتذبذبها وميوعتها وقصر نفسها.
إن المثقفين الثوريين مادة أساسية وضرورية لبناء الحزب والثورة. والفكر الاشتراكي الحديث في تحديده لقوى الثورة في البلدان المتخلفة يعدد العمال والفلاحين والجنود والمثقفين الثوريين. فالمثقفون هم الذين يوفرون للثورة الرؤية الواضحة، وهم بطبيعة الحال المادة التي من خلالها ينتقل الوعي السياسي إلى الطبقات الكادحة وكذلك يوفر القدرة على الإدارة وتنظيم الأمور والتخطيط لمختلف جوانب العمل. وبالتالي فإن وجود المثقفين الثوريين والتحامهم في بنية الحزب أمر أساسي. ولكن دور المثقفين في بناء الحزب وخدمة الثورة رهن بالتحامهم الحقيقي مع الجماهير والمقاتلين والعمل الثوري، واكتسابهم من خلال الممارسة القدرة على الصمود والثقافة المرتبطة بقضايا العمل.
إن وجود المثقفين بالحزب بمعزل عن الممارسة وعن الجماهير والقتال، قد يعرض الحزب لظاهرة الثرثرة المتناقضة مع قضايا العمل الحقيقية. إن عيش المثقفين بين الجماهير المسحوقة والمقاتلين، واستعدادهم للتعلم منهم بقدر ما يعلموهم، وقدرتهم على مشاركتهم ظروف حياتهم نفسها، وتواضعهم العلمي، وإقامتهم علاقات رفاقية مع المقاتلين والفقراء، وتجنب العلاقات الفوقية والامتيازات المادية والمعنوية، هو الطريق لتأدية المثقفين لدورهم في الثورة. إن عدم مراعاة أو عدم ممارسة هذه الأمور، سيفقد المثقفين كل قدرة على الفعل الثوري. فالمقاتل الثوري ليس مستعداً لإقامة علاقات فوقية مع أي إنسان. إن من أهداف الثورة المساواة وكرامة الإنسان، والتعاون والعلاقات الرفاقية الإنسانية، ومن المفروض في التنظيم الذي يعد نفسه لقيادة الثورة، أن يجسد هذه الصورة داخل صفوفه.
إن خطنا الاستراتيجي الثاني في بناء الحزب الثوري هو أن تكون مادة الحزب من العمال والفلاحين والكادحين والمثقفين الثوريين. وبطبيعة الحال لا يكفي هذا التسجيل حتى نضمن تحقيق هذه الصورة. إن جهداً شاقاً وطويلاً ينتظرنا حتى ننجح في هذا الاتجاه. وعندما يصبح تنظيمنا فعلاً تنظيماً من العمال والفلاحين الفقراء والكادحين، عندما يصبح تنظيمنا فعلاً هو تنظيم المخيمات والقرى والاحياء الفقيرة في المدن، عندها يمكن الاطمئنان إلى أننا أوجدنا التنظيم الصلب الذي يمد الثورة بمتطلباتها ويوفر لها الحماية والقدرة على الاستمرار والصمود.
وبالنسبة لعلاقة الحزب مع الجماهير، تؤكد الوثيقة على أن الحزب هو قيادة الجماهير. وبالتالي فإن أعضاء الحزب وكوادره يجب أن تكون من العناصر الواعية، والمتحمسة للعمل، والمستعدة للتضحية، والانضباط والتقيد بالنظام و مبادئ التنظيم.
إن الحزب يجب أن يحرص على أن يكون أعضاؤه إجمالاً قدوة وطليعة في الوعي، والنشاط، والتضحية، والانضباط. وإذا فقد الحزب وأعضاؤه هذه المواصفات، فإنه يفقد تلقائياً دوره كتنظيم سياسي ثوري. ولكن، بقدر ما يجب أن يحرص الحزب الثوري على أن يكون تنظيماً للعناصر الواعية والمخلصة والنشيطة والمتقيدة بالنظام، فإنه يجب أن يحرص في الوقت نفسه على أن يكون تنظيماً من اجل الجماهير، ينبثق منها ويعيش بينها، ويقاتل من أجل قضاياها، ويستند إليها، ويحقق أهدافه من خلالها وبها ومن أجل مصلحتها.
يقول ماوتسي تونغ في مقاله "حول بعض المسائل الخاصة بأساليب القيادة" ما يلي:
"إذا كانت الجماعة القيادية تعمل وحدها بحماس دون أن تجمع بين حماسها وحماس الجماهير الغفيرة، فإن حماسها سوف يتلاشى في جهود عابثة تبذلها قلة من الناس، أما إذا كانت الجماهير الغفيرة متحمسة دون أن تجد جماعة قيادية قوية تنظم جهودها بصورة ملائمة، فإن هذا الحماس لا يمكن أن يدوم ولا يمكن أن يتجه الاتجاه الصحيح أو يرتفع إلى مستوى أعلى."
سيكون مفيد جداً بالنسبة لنا أن نتذكر دائماً هذا الكلام في عملنا، فمن خلال فهم العلاقة الجدلية بين الحزب والجماهير، نستطيع أن نفهم بشكل سليم دور الحزب من ناحية ودور الجماهير من ناحية أخرى. إن الخط الجماهيري هو خطنا الاستراتيجي الثالث في بناء الجبهة الشعبية.
وحتى ننجح في بناء الجبهة الشعبية كتنظيم للجماهير، يجب أن تتعمق في رؤوس أعضاء التنظيم الغاية وراء كل عمل سياسي ثوري. إن الغاية النهائية وراء عملنا هي الجماهير: حرية الجماهير، كرامة الجماهير، حياة الجماهير، تأمين حاجاتها وضمان مستقبلها.
إن بقاء هذه الغاية ماثلة في أذهاننا، وتعميق وعي الأعضاء بها، والتذكير دائماً بأهميتها، هو الذي يساعدنا على التوجه دائماً الاتجاه الصحيح في عملنا، وهو الذي يحدد مقياس تقييمنا لعملنا وكوادرنا وقيادتنا وفروع عملنا. وهو الذي يحمينا من أخطار الانغلاق، والانعزال والبيروقراطية، والفوقية والانتهازية، والانشغال بالجزئيات الداخلية وهو الذي يحدد طبيعة نشاطاتنا واتجاه فعاليتنا.
إن تنظيمنا أحياناً، أو بعض فروعه ومجالاته، يحصر نفسه في نشاطات داخلية بحتة - اجتماعات وتثقيف ومناقشات وانتقادات، الخ- وفي ظل غياب قضية الجماهير يتوجه التنظيم لها، وفي ظل عزلة يعيشها التنظيم عن الجماهير ومشكلاتها وقضاياها، تصبح حياة التنظيم مغلقة منعزلة لا تلبث أن تغرق في مشكلات التنظيم وتناقضاته الجزئية، فيفقد التنظيم كل قدرة على الفعل الثوري.
إن التوجه دائماً للجماهير، وتناول قضاياها والعمل من أجلها، ومساعدتها في فهم مشكلاتها وتحليلها واتخاذ موقف منها، ومساعدتها في تنظيم نفسها، وقيادتها للعمل في مواجهة مشكلاتها، هو أولى مهماتنا، وهو الغاية من وجودنا، وهو طريقنا الوحيد لتجميع القوة الثورية القادرة على تحقيق أهدافنا .
بدون هذا المناخ، وهذا الوعي وهذا التوجه، نقع في دائرة الانغلاق والانعزال. وهذا معناه أولاً طغيان المشكلات الثانوية للتنظيم نفسه، ومعناه ثانياً قدرة القوى المعادية على محاصرته وضربه.
إن مدى نجاحنا في تجسيد الخط الجماهيري يشكل مقياساً أساسيا من مقاييس ثورية الأعضاء وفروع التنظيم وبالتالي التنظيم السياسي ككل .
إن العضو الذي يقيم أحسن العلاقات مع الجماهير المحيطة به، والذي يفتش عن أية خدمة يمكن أن يقدمها لها، والذي يكون بالنسبة للناس المحيطين به عنصر توعية وعون، هو العضو الثوري. ولا مجال للعضو الذي يسيء للجماهير أو ينعزل عنها ان يدعي الثورية. إن فرع التنظيم الذي يقيم الندوات السياسية، ويتفاعل مع الجماهير في المشكلات والقضايا التي تواجهها، ويضع إمكانياته في خدمتها سواء كان ذلك عن طريق فتح مدرسة لمكافحة الأمية، أو مساعدتها في جني الحصاد، أو ارشادها نحو تأسيس تعاونية، أو قيادتها للمطالبة بمشروع مياه أو كهرباء أو شق طريق، هو فرع ناجح في تجسيد الخط الجماهيري. وبالمقابل لا يمكن أن يدعى النجاح أو الثورية أي فرع للتنظيم منغلق على نفسه، يحصر كل وقته وجهده في حياته التنظيمية الداخلية، ولا يحس بالجماهير ولا تحس هي بوجوده.
إن الحزب الذي يعبئ للثورة كل رجل وكل امرأة وكل عامل كل فلاح، وكل طالب، وكل شاب، ويوجههم باستمرار نحو المعركة والثورة، ويقودهم في مختلف نشاطاتهم السياسية والجماهيرية، والحزب الذي تحيط تنظيمه الأساسي اتحادات للطلاب والعمال والفلاحين ومنظمات للنساء والشباب والأشبال، هو التنظيم السياسي الجماهيري الثوري، ولا مجال لادعاء الثورية بالنسبة لحزب منغلق على نفسه يعيش في واد غير وادي الجماهير.
إن مثل هذه الصورة بطبيعة الحال لا تتحقق في وقت قصير، كما إن عملية تعبئة الجماهير يجب أن تسير ضمن السرعة التي يستطيع من خلالها التنظيم أن يجعل عملية التعبئة، عملية واعية ومنضبطة، غير عفوية وغير فوضوية. غير أن المهم أن نبقى متوجهين مثل هذا التوجه، نسير باتجاهه بخطوات ثابتة ومتصلة ومتينة، مدركين بعمق أن الغاية الأساسية والنهائية لوجودنا هي الجماهير وإننا بخير طالما أن الجماهير معنا، وطالما أن جسوراً إيجابية عديدة تربط بيننا وبين الجماهير، وأن أي انعزال أو انفضاض للجماهير من حولنا يجب أن يشكل إنذاراً وإشارة خطر تفرض علينا القيام بعملية مراجعة نقدية لمواقفنا وأساليبنا.
إن قيادة الحزب للجماهير ليست بالمهمة البسيطة. لا يكفي أن تتوفر النية، ولا يكفي أن يؤكد الحزب على أهمية الخط الجماهيري حتى تتأكد في الواقع قيادته للجماهير. إن قدرة الحزب على تحليل المواقف، والشعارات التي يطرحها، وطبيعة المشكلات الجماهيرية التي يلتقطها، والأسلوب الذي يطرح به كل هذه القضايا، ونمط العلاقات التي يقيمها مع الناس، والصيغ التعبوية والتنظيمية التي يعمل وفقها، كل هذه العوامل هي التي تحدد نجاح الحزب أو فشله في قيادة الجماهير. إن الحزب لن يستطيع ان يقود الجماهير إنما طرح القضايا غير النابعة من وسطها،أو طرحها بطريقة لا تفهمها الجماهير،أو تخلف عن طرح بعض القضايا أو تلكأ في طرحها.
يقول ماوتسي تونغ في مقاله حول "الجبهة المتحدة في العمل الثقافي" ما يلي:
"إذا أردنا أن نرتبط بالجماهير فلا بد أن نعمل وفق حاجاتها ورغباتها. فكل ما نقوم به لأجل مصلحة الجماهير من عمل لا بد أن ينبعث عن حاجة الجماهير ذاتهم، لا عن رغباتنا الشخصية الطيبة. وإننا لنجد الجماهير في كثير من الأحيان تحتاج موضوعياً إلى إجراء إصلاح معين، ولكنها لا تعي هذه الحاجة، فلا تصمم على إجراء الإصلاح ولا ترغب فيه، وفي مثل هذه الحال علينا أن نتحلى بالصبر وننتظر ريثما تعي معظم الجماهير بعد أن نبذل مجهودات في نشر الوعي بينها، ويصح عزمها على الإصلاح وترغب فيه، وحينئذ فقط نستطيع أن نقدم على الإصلاح، وإلا فسننفصل عن الجماهير. وهكذا فإن كل عمل يستدعي مشاركة الجماهير سيتحول إلى مجرد شكل يؤول أمره إلى الإخفاق إذا لم تشارك فيه عن وعي وبمحض إرادتها... وهناك مبدآن يجب مراعاتهما:
أولاً: يجب أن تكون هناك حاجة الجماهير الفعلية، وليست حاجة وهمية نتخيلها نحن.
ثانياً: لا بد من وجود إرادة جماهيرية، فالجماهير هي التي تصمم وليس نحن الذين ننوب عنها في التصميم."
وبقدر ما يجب أن نتجنب مرض التسرع أو الانتهازية اليسارية في قيادة الجماهير، كذلك يجب أن نتجنب مرض التخلف والتلكؤ أي الانتهازية اليمينية.
وحول هذا الموضوع يقول ماوتسي تونغ في "حديث إلى أعضاء هيئة تحرير جريدة شانسي "ما يلي:
"إذا عزمنا على شن هجوم قبل أن تعي الجماهير ضرورة الهجوم كان ذلك مغامرة، وإذا جررنا الجماهير عنوة إلى أمر يخالف رغبتها فشلنا حتماً، وإذا أرادت الجماهير التقدم فامتنعنا نحن، كان ذلك انتهازية يمينية" .
إن تأكيدنا على الخط الجماهيري وعلى الدور الأساسي للجماهير لا يجوز ان يفهم فهماً مثالياً خاطئاً بحيث يتحول إلى نظرة تقديس عاطفية للجماهير تحجب عنا الرؤية الموضوعية للأمور، وتؤدي إلى الانقياد العفوي وراء الجماهير بدلاً من الالتحام معها بهدف قيادتها.
إن جماهيرنا مثلها مثل جماهير البلدان المتخلفة، هي ضحية كثير من المفاهيم البالية، والارتباطات القبلية العشائرية والطائفية والعادات والتقاليد الفاسدة والفوضوية والبعيدة عن روح العصر، وبمثل هذا الوضع لا تستطيع جماهيرنا أن تكون القوة القادرة على تحقيق الانتصار على العدو الذي حددناه. إن إقبال هذه الجماهير على الانتظام أو الالتفاف حول الحزب، دون أن يرافق عملية الانتظام والالتفاف هذه، جهود توعية سياسية ثورية وتوعية تنظيمية مسلكية، فإن النتيجة تكون نقل كل أمراض الواقع إلى التنظيم. وهذا خطأ كبير. إن الحزب الثوري هو المدرسة التي تتعلم فيها الجماهير وتغير الكثير من عاداتها وتقاليدها ومفاهيمها، فتستبدل كل ما هو بال وعتيق بما هو عصري وحديث وثوري.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن جماهيرنا الكادحة، بحكم أوضاعها الحياتية المادية، وبحكم معاناتها لعملية الاستغلال والإذلال التي تمارسها القوى المضادة للثورة، تشكل دون شك، وفي المدى الاستراتيجي، الحماية الحقيقية للثورة من كل تذبذب أو ضعف أو تخاذل، ولكن ذلك لا يجوز أن يعني أن الجماهير هي دائماً على صواب في تقدير المواقف السياسية التكتيكية وتحديد البرامج لها. إن الجماهير أحياناً تمثل في موقفها حالات انفعالية عاطفية غير علمية في حساباتها، وغير موضوعية في تقديرها لكل الظروف، وبالتالي فإنه من الخطأ ان يساير الحزب حالة الجماهير دائماً دون أي فعل أو تأثير. يجب أن يتذكر الحزب دائماً خطورة"العفوية" في العمل السياسي، وأن يدرك أن دوره هو أن يكون قيادة للجماهير وليس تابعاً لها، وإلا فقد مبررات وجوده كتنظيم سياسي ثوي.
إن العلاقة بين الحزب والجماهير هي علاقة جدلية، يعلمها ويتعلم منها، يؤثر ويتأثر بها، هي التي تقدم له الوقائع، وهو الذي يقدم لها، على ضوء استيعابه وتحليله لهذه الوقائع، التقدير السليم للموقف وبالتالي برامج العمل.
بناء الحزب المقاتل :
إن إستراتيجية الكفاح المسلح يجب ان تنعكس بطبيعة الحال على إستراتيجية بناء الحزب بحيث يتم هذا البناء على ضوء مصلحة القتال ومتطلباته وبشكل يعكس نفسه على بنية الحزب والعلاقات داخل التنظيم وطبيعة تكويناته القيادية، ومادته التثقيفية ونظامه الداخلي .
إن الهدف السياسي للحركة الوطنية الفلسطينية هو تحرير فلسطين .
وهذا الهدف لا يمكن أن يتم إلا من خلال الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد. وإذا غابت هذه الحقيقة عن أذهاننا فإن انحرافاً كبيراً سيحدث في عملنا الحزبي والسياسي. لن يكون هناك مجال لبناء حركة وطنية فلسطينية جماهيرية إلا من خلال القتال ومن خلال إدراك الجماهير أن مطالبتها بالانتظام والتعبئة والنشاط السياسي تستهدف تصعيد القتال - طريقها الوحيد نحو التحرير- كما أنه بالمقابل لن يكون هناك تصعيد متواصل للقتال إلا من خلال تعبئة الجماهير لتوفير متطلبات القتال وحمايته ومده بالصفوف المتتالية من المواطنين التي تضمن صموده واستمراره وتصعيد فعاليته. إن هذه العلاقة الجدلية المتلاحمة بين القتال والعمل السياسي هي التي تشكل الدليل السليم لعملنا.
إن ترجمة هذا الفهم للحركة الوطنية الفلسطينية بوجهيها المتشابكين والمتلاحمين- القتال والعمل السياسي - تعني على الصعيد التنظيمي تأكيد النقاط التالية:
- إن الجهاز العسكري الذي يخوض القتال يجب أن يبنى بناء سياسياً ناضجاً. وإن حصر اهتمامنا بعملية البناء العسكري بشكل ميكانيكي يحمل كثيراً من الأخطار. إن المقاتل الذي يحمل السلاح يجب أن يعرف لماذا يحمل السلاح، وضد من يحمله، ومن أجل من؟ إن الرؤية السياسية السليمة للعلاقة مع الجماهير هي التي تحمي المقاتلين من أية أخطاء تؤدي إلى عزلتهم عن قوى الثورة، وهي التي تغرس فيهم القدرة على الصمود وتجنبهم السياسات القصيرة النفس، وهي التي توفر لهم الحماية من كل عمليات التخريب السياسي التي يمكن أن يقوم بها العدو، وهي التي تحدد لهم خط علاقاتهم مع كل قوة تحمل السلاح، وهي التي تجندهم في فترات معينة نحو نشاط جماهيري سياسي يفيدهم في القتال ويشد من أزرهم. إن المقاتل السياسي هو وحده الذي يستطيع الصمود في معركة طويلة قاسية كالمعركة التي يخوضها شعبنا اليوم.
إن اكتساب الجهاز المقاتل للرؤية السياسية الثورية للأمور هو الذي يضمن للقتال صموده واستمراره وعدم انحرافه. - إن الجهاز السياسي يجب أن يبنى بناء عسكرياً. ويجب أن يبقى ماثلاً في أذهاننا إن هذا الجهاز هو الاحتياطي للجهاز المقاتل، منه نغرف باستمرار أعداد متتالية تنضم للجهاز العسكري وتبدأ القتال، وإن أكبر انحراف يمكن أن يحدث هو أن يبنى التنظيم السياسي بشكل عفوي، ودون أن يكون مثل هذا الهدف واضحاً تماماً فتكون النتيجة أن نجد أنفسنا أمام تنظيم يريد أن ينتفع معنوياً أو سياسياً من خلال ارتباطه الشكلي بالقتال دون أن يكون هذا الجهاز جزءاً لا يتجزأ من الجهاز المقاتل. إن مثل هذا الانحراف يخلق تناقضاً كبيراً بين الجهاز المقاتل والجهاز السياسي مما يؤثر سلباً على مسيرة الثورة ويجعل من التنظيم السياسي الذي يستهدف من وراء ارتباطه بالقتال الحصول على هوية الانتساب للعمل الفدائي وبدلة القتال، وكافة الشكليات الأخرى دون أن يكون مستعداً استعداداً حقيقياً للالتحاق بالقتال، يجعل من هذا التنظيم عقبة في طريق النمو الثوري، ويجعل الحزب يعيش باستمرار حالة تناقض بين جهازه المقاتل وجهازه السياسي. إن التنظيم السياسي يجب أن يبنى للالتحاق المتواصل بالقتال ويجب أن تكون مهمته الحماية العسكرية لقتال (المقاومة الشعبية) وعيش أوضاع الجهاز المقاتل نفسها، كما يجب أن تكون مهمته اليومية المتواصلة بذل الجهود المستمرة والمضنية لخدمة القتال والجهاز المقاتل. فبهذه الطريقة يبني الحزب الموحد المقاتل ونمنع أي تناقض خطير بين العمل القتال والعمل السياسي.
- إن قيادات الحزب يجب أن تكون بالتالي قيادات سياسية عسكرية تمتلك الوعي السياسي من ناحية والقدرة على قيادة القتال من ناحية ثانية. كما يجب بين وقت وآخر إجراء تبادل في المواقع القيادية بحيث يكون الكادر السياسي ملماً بشكل ملموس بكل قضايا وأحوال المقاتلين والقتال فتأتي أحكامه مصيبة ويكون متفهماً لكل مشكلات العمل في القطاع العسكري، كما يكون الكادر العسكري ملماً بكل مشكلات العمل على الصعيد التنظيمي والسياسي.
- إن التثقيف الداخلي للحزب يجب أن يستهدف البناء السياسي والعسكري معاً. ويجب أن تكون الثقافة العسكرية بالنسبة للتنظيم السياسي أمراً أساسياً كالثقافة السياسية، وكذلك تكون الثقافة السياسية بالنسبة للجهاز المقاتل بنفس أهمية الثقافة العسكرية. وإن دورات الكوادر يجب أن تكون في الوقت نفسه دورات عسكرية وسياسي.
- إن الجهد القيادي الأساسي يجب أن يتوجه لقضايا القتال وحل معضلاته وتوفير متطلبات تصعيده واستمرار نموه. إن كل الجهود التنظيمية والسياسية والإعلامية والمالية يجب أن تكون مرتبطة بمصلحة القتال ومن أجل القتال وليس على حساب القتال، وإنه من المفروض أن يترجم ذلك نفسه على صعيد توزيع الكوادر وكافة برامج الحزب وموازناته وكل نمط فعاليته.
- إن النظام الداخلي للحزب يجب أن يوضع على أساس تلاحم ووحدة الجهاز المقاتل والجهاز السياسي وعلى أساس وجود المقاتلين ووجود قضايا القتال في صلب حياة الحزب وكادره القيادي الأساسي .
إن الصورة التنظيمية التي نتجه نحوها هي صورة الحزب الواحد المقاتل. قسم من أعضاء هذا الحزب يخوضون القتال، وقسم آخر يستعد له، وقسم ثالث يشكل المقاومة الشعبية التي تحمي القتال وتسنده وقسم رابع يعمل يومياً بين الجماهير يشرح لها قضايا القتال، ويحركها لخدمته، وقسم خامس يقوم بالمهمات المالية والإدارية والإعلامية التي تخدم القتال. كل هذه الأقسام والفروع هي تنظيم واحد تقوده مراتب قيادية واحدة هي المسؤولة في الوقت نفسه عن القتال والتنظيم والعمل السياسي بشكل مترابط موحد.
إن شعار كل مقاتل سياسي وكل سياسي مقاتل يرسم أمامنا خطاً استراتيجياً أساسياً لبناء الحزب المقاتل المتطابق مع طبيعة رؤيتنا للحركة الوطنية الفلسطينية، ورؤيتها لمعركة التحرير.
هذه هي إستراتيجية الجبهة الشعبية من الزاوية التنظيمية:
ومن خلال هذه الخطوط واستيعابها جيداً، واعتمادها دليلاً لنا في بناء التنظيم، نستطيع أن نجعل من الجبهة الحزب الثوري، حزب الكادحين الملتصق بالجماهير والموجه لحركتها، القادر على ممارسة الكفاح المسلح، الديمقراطي، والمنضبط والمتجدد الحيوية دائماً.
ولا شك أن الكثير من متاعبنا التنظيمية في هذه الفترة سببه عدم بناء الجبهة في الأساس على ضوء هذه الإستراتيجية وهديها.
إننا نقع في خطأ كبير إذا كنا في تحليلنا لأمراضنا التنظيمية القائمة مشدودين إلى تفسيرات جزئية وشخصية. إن الوضوح التام لإستراتيجيتنا التنظيمية والجهود الطويلة المضنية التي سنبذلها داخل التنظيم لدفع حياتنا التنظيمية باتجاه هذه الخطوط، هو الحل لمعضلاتنا التنظيمية، التي هي في حقيقة الأمر معضلات مشتركة وعامة بدرجات متفاوتة، بين كافة التنظيمات السياسية الملتفة حالياً حول العمل الفدائي. إن ذلك لا يعني أنه قد يجيء وقت يعيش فيه الحزب الثوري دون أية مشكلات، إن مثل هذا التفكير مثالي وغير علمي.
إن طموحنا هو أن نتجاوز مشكلات هذه المرحلة من حياة التنظيم لنواجه مشكلات مرحلة أرقى وأكثر ثورية.