إذا كانت الحرب الباردة بين كتلة دول الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وحلفائها قد استغرقت في القرن الماضي أربعة عقود من المواجهات التي قيدت نفسها بحرب باردة لا تشتبك فيها قوات كل طرف ضد الطرف الآخر مباشرة، فإن الحرب التي تشنها الولايات المتحدة وعدد من دول الحلف الأطلسي ضد روسيا في هذا القرن باستخدام أوكرانيا، بدأت تسير وبسرعة نحو التحول إلى حرب باردة وساخنة في الوقت نفسه، أي نحو مواجهة حربية مباشرة بين قوات من دول أوروبية من حلف الأطلسي، وقوات من روسيا الاتحادية وحلفائها في أوروبا، وحرب من هذا القبيل قد لا تستغرق أكثر من سنوات محدودة جداً بسبب عدد من العوامل الموضوعية المتفاعلة في ساحة المواجهة الأوروبية وأهمها: قابلية ألا تشارك فيها قوات أميركية في مراحلها الأولى وهو ما فعلته واشنطن في حربين عالميتين سابقتين، الأولى عام 1914 والثانية عام 1939، ويرى بعض الخبراء في الحروب أن واشنطن في هذا القرن تجد نفسها مرة أخرى أمام حرب مباشرة على جبهتين عالميتين في قارتي أوروبا وآسيا، ففي آسيا اشتبكت مع اليابان عام 1941 أي بعد عامين على الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وفي هذه الحرب العالمية المحتملة بسبب أوكرانيا، ستخوضها واشنطن على جبهة مباشرة مع الصين في آسيا، وعلى جبهة مباشرة مع روسيا في أوروبا، وأمام دولتين نوويتين كبريين، في حين خاضتها في القرن الماضي ضد اليابان وألمانيا بأسلحة تقليدية انتهت باستخدام الولايات المتحدة لقنبلتين نوويتين فجرتهما على مدينتين يابانيتين في آخر شهر من الحرب عام 1945. لكن تطور الأسلحة التقليدية في هذا القرن إلى نوعيات فائقة السرعة وواسعة التدمير بشكل غير مسبوق وبمشاركة «تكنولوجيات سايبرانية» خطيرة الأبعاد قد لا ينهي الحرب الجارية الآن على أرض أوكرانيا إذا تحولت إلى عالمية بمنتصر حاسم وبمهزوم محسوم، على غرار ما انتهت إليه الحرب العالمية الثانية، فالسلاح النووي بين المتحاربين الكبار سيظل جزءاً مهماً في قدرات الطرفين إما للردع، فتنتهي الحرب باتفاق يضمن إيقاف القتال والتفاوض لتصبح نتيجة المجابهة المباشرة نسبية عند الطرفين، وإما يجبر طرفاً على استخدام سلاحه النووي فتقع الكارثة الكبرى حين يرد الطرف الآخر نووياً.
إن استخدام واشنطن لقنبلتين نوويتين ضد اليابان عام 1945 ما كان له أن يحسم الحرب معها بالاستلام، لو كان لدى اليابان سلاح نووي قابل لضرب الولايات المتحدة أو قواتها في آسيا، ولو كان لدى واشنطن أدنى شعور بوجود سلاح نووي ياباني لما فعلت ما فعلته ضد اليابان عام 1945، ولما تحولت نتيجة الحرب إلى استسلام اليابان.
في هذه الحرب الراهنة بين الدول الكبرى من الطبيعي أن يحتل موضوع استخدام السلاح النووي أو عدم استخدامه إلى أهمية مصيرية عند الجميع، ولا شك أن حسابات استخدامه أصبحت متنوعة بين وجود أنواع تكتيكية منه إلى جانب الإستراتيجية، فهذا من شأنه توليد حسابات تفرض على كل طرف تحديد طبيعة رده إن استخدم طرف سلاحاً نووياً تكتيكياً، أي محدودا في سعة التدمير، فهل سيرد عليه الطرف المقابل باستخدام سلاح نووي إستراتيجي أم تكتيكي؟ وهل سيشهد العالم لأول مرة انتقال الأسلحة النووية التكتيكية إلى الاستخدام في ساحات الحروب المباشرة بين الدول الكبرى؟ ففي هذه الحال ستعد هذه العملية وسيلة للدرع المباشر التكتيكي الذي يتيح للطرف المستهدف بها التفاوض احتفاظه بورقة الأسلحة النووية الإستراتيجية، ومع ذلك ستظل مسألة الضربة الأولى الوقائية على طاولة جدول عمل القوى الكبرى النووية وهي بطبيعتها وحساسيتها أهم ما يشغل الجميع ما دام الأقل منها أخطاراً بمضاعفاتها هي القنبلة النووية التكتيكية المحدودة.
أمام كل هذه التساؤلات التي بدأت تفرضها مجريات ومضاعفات الحرب الأميركية الغربية على روسيا وتبادل الحديث بمفردات الأسلحة النووية، من الصعب الاعتقاد بأن حرباً باردة جديدة هي التي ستفرض نفسها في العلاقات بين الدول الكبرى كنتيجة لاستخدام أوكرانيا، لأن واقع استخدام أوكرانيا والاستمرار باستخدامها بكل أشكال الحرب ضد روسيا، نقل العالم ووضعه الدولي إلى أحد خيارين: إما تسليم الولايات المتحدة بعالم نظام متعدد الأقطاب تفقد فيه جزءاً كبيراً من أحاديتها ومصالحها الإمبريالية، وإما أن تتحمل نتائج حربها هذه بالتسبب بدمار أوروبا مرة ثالثة وانتقال هذا الدمار لأول مرة إلى أراضي الولايات المتحدة نفسها حين ستجابهها دولتان نوويتان كبريان في ثلاث قارات هذه المرة، لأنها ستتعرض في قارتها الأميركية للاستهداف بالأسلحة نفسها التي ستستخدمها ضد الآخرين.