تُعدُّ الحربُ الدائرةُ بين روسيا وأوكرانيا اختبارًا لمستقبل النظام الدولي القائم، حيث سيقرّر الطرفُ المنتصرُ فيها بقاء هذا النظام أو سقوطه، ومن ثَمَّ قيام نظامٍ دوليٍّ جديد، وهذا ما يفسّر سرعة تحرّك الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وحلف الناتو لمواجهة "الغزو الروسي" لأوكرانيا، عبرَ تسليح الجيش الأوكراني بأسلحةٍ متطوّرةٍ وتدريب قوّاته والقوّات الرديفة، وتقديم كلّ أشكال الدعم السخيّ من التكنولوجيا والسلاح والمال والطاقة لحكومة الرئيس زيلنسكي، وتتوخّى واشنطن عبرَ ردّها السريع على "الغزو الروسي" لأوكرانيا بوصفه "فرصةً نادرةً" لتحقيق هدفين في آنٍ معًا:
- فرملة وإجهاض الاندفاعة الروسيّة نحو شرق أوروبا.
- توجيهُ رسالةٍ قويّةٍ إلى القيادة الصينيّة تنذرُها بما ستلاقيه في حال الهجوم على تايوان.
وهذا ما يجعلُ كسب "معركة أوكرانيا" مصيريّةً بالنسبة لجميع الأطراف سواءً موسكو أم واشنطن أم بروكسل... فمستقبلُ النظام الدوليّ القائم واستقرار أوروبا تحدّدهما معركة أوكرانيا... ويترتّب على هذه المراهنة إصرار طرفي الرهان على تحقيق انتصارٍ كامل الأركان:
- القيادةُ الروسيّةُ عبرَ رفع مستوى التحدّي والتلويح باستخدام "السلاح النووي" والانتقال من "عمليّةٍ عسكريّةٍ خاصّة" إلى حرب الشعب الروسي "مرورًا باعتماد سياسة الأرض المحروقة"، وانتهاءً باستسلام العدو الأوكراني وقبوله بالشروط الروسية.
- الإدارة الأمريكية عبر تعزيز الحضور العسكري الأمريكي في أوربا ودول البلطيق على وجه الخصوص وتزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة بعيدة المدى، علاوة على المعلومات الاستخبارية عن التحركات الروسية ومواقع تمركز القوات والقيادة على وجه التحديد، لتسهيل استهدافهم وإرباك المخطط الروسي.
عقيدة الأمن القومي الأمريكي المنقحة
تنطلق الإدارة الأمريكية الحالية من اعتبار روسيا "دولة مارقة تهدد النظام الدولي الحر، وتنتهك العقيدة الأساسية لهذا النظام". فاللحظة السياسية الراهنة تعكس اشتباكاً دولياً على خلفية حصول تحولات جيواستراتيجية اخترقت ركائز النظام الدولي الحالي، وغيّرت في توازن القوى.. وقد شهد الوضع الدولي تحولات عميقة واسعة، عبر نهوض دول متوسطة وتحقيقها إنجازات مهمة في مجالات الصناعة والتقنية المتطورة العسكرية والمدنية والذكاء الاصطناعي والسيبراني، مما مكّنها من لعب دور في النظام الدولي يتناسب مع قدراتها الجديدة ووضعها في حلبة سباق مباشر مع القوة العظمى المسيطرة على النظام الدولي القائم، وهي الولايات المتحدة وبالتالي تحدّيها في أكثر من منطقة وإقليم، وفي أكثر من مجال، خصوصاً بعد أن اهتزت صورتها وتآكلت قدرتها الردعية في ضوء نتائج غزوها لكل من العراق وأفغانستان، وانسحابها – الانكشاري – الفوضوي من الأخيرة، الأمر الذي قرأته وقيّمته مراكز البحث والدراسات الاستراتيجية "كبداية انحسار للقوة العظمى المهيمنة الوحيدة" وفرصة لقفز قوى كبرى أخرى إلى مواقع متقدمة في النظام الدولي والتحول إلى أقطاب منافسة، لكن النتائج غير محسومة حتى اللحظة في ضوء تباين الإمكانات، حيث ما يزال "التفوق الأمريكي" رغم النكسات راجحاً، والتباينات بين موسكو وبكين لا تؤشر إلى أن هدفهما واحد، رغم التقاطعات الكبيرة بينهما!
مكانة الطاقة في الحرب الدائرة
في ضوء استمرار الحرب وفق قواعد الأسلحة التقليدية، فالاستراتيجية المعتمدة حتى الآن لدى واشنطن وبروكسل هي استنزاف روسيا اقتصادياً، حتى لا تهنأ بعوائد الغاز والنفط المرتفعة، ويكون ذلك أحد أسباب احتدام الاضطرابات الداخلية للضغط على إدارة الكرملين بإنهاء الحرب.
لا يمكن احتساب جميع أطراف أزمة الطاقة في سلّة واحدة، فهناك منتجون ومستهلكون ومستفيدون، وممن يصفون أنفسهم بأنهم على الحياد من الحرب الدائرة بين موسكو من جهة، وواشنطن وبروكسل من جهة أخرى، حيث تراهن موسكو في إدارة صراعها مع أوربا على حلول فصل الشتاء، وزيادة معدلات استهلاك الطاقة من أجل التدفئة، وهي في نفس الوقت تمارس ضغوطها لناحية تقنين تدفق الغاز والنفط إلى أوربا. وإلى الآن لم يتوفر "البديل الكُفء" عن الغاز والنفط الروسيين، بسبب تماسك "تحالف أوبك plas " ودوره بعدم زيادة المعروض من الغاز والنفط للمحافظة على الأسعار عند سقفها المرتفع، والذي تعتبره بروكسل وواشنطن سبباً مباشراً لتأجيج معدلات التضخم لديهما، فهل سيكون هذا الشتاء هو رهان موسكو الرابح في إدارة الصراع؟!
ربما الأيام القادمة ستكشف لنا هذه النتيجة، لكن أوربا العجوز ليست غائبة عن هذا الرهان في إطار ترتيباتها الجماعية لمواجهة الأزمة، فاستراتيجية النفط الرخيص، كانت إيران السباقة لها، وذلك منذ فرضت عليها العقوبات الاقتصادية عام 2012، وكان هناك مستفيدون من الدول المعتمدة على الاستهلاك من الطاقة، وبخاصة الصين والهند و تركيا وكوريا الجنوبية، وإن كان الرئيس الأمريكي السابق ترامب قد أمهل هذه الدول ستة أشهر للابتعاد عن هذه السياسة، وإلا طالتها العقوبات، إلا أن الجميع استجاب وانصاع!
أما هذه المرة فإن كلاً من الصين والهند تصرّان على الاستفادة من الحصول على النفط الرخيص من روسيا، حيث قدرت التخفيضات بنحو "30 دولار لكل برميل" عن السعر السائد في الأسواق، ومن مصلحة الصين والهند استمرار الأزمة، والاستفادة من ميزة الغاز والنفط الروسي الرخيص، ولم يعد الأمر مقتصراً على مجرد حصول هذه الدول على الغاز والنفط الرخيص لاستخداماتها المحلية، غير أن وسائل الإعلام كشفت عن أن الهند تقوم بدور التاجر والسمسار للغاز والنفط الروسيين، عبر حصولها عليه بسعر تفضيلي، ثم تعيد هي بيعه في السوق الدولية وفق الأسعار السائدة. قد لا تكون إدارة بايدن في موقف يسمح لها بممارسة نفس دور الرئيس السابق ترامب، بتهديد الدول التي تحصل على الغاز والنفط الرخيص، بسبب شح العرض واختلاف ظروف السوق الدولية، وتأثرها بسبب الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.
منذ شهر آب عام 2021 لجأ الرئيس الأمريكي بايدن إلى التلويح بورقة استخدام المخزونات الاستراتيجية من الطاقة لتخفيف وطأة قرار "أوبك plas" التي حددت زيادة كميات الإنتاج، فطالب بايدن الصين والهند وكوريا الجنوبية، بضخ كميات متفق عليها من مخزونها الاستراتيجي، وبالتالي ستقوم الولايات المتحدة بنفس الشيء، لكن ذلك كان قبل اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية. أما هذه المرة فالجميع يلجأ إلى المخزون الاستراتيجي من الطاقة، ويتم انتهاز بعض الفرص عند هبوط الأسعار لتعويض النقص من ذلك المخزون جزئياً، لكن الدول التي لديها مخزون استراتيجي، تتمنى انتهاء الحرب، وتقليص أمد أزمة الطاقة، حتى تستطيع العودة إلى الأسعار المناسبة لصالحها، وبالتالي المحافظة على مخزونها الاستراتيجي.
توازن القوى وسياسة الاحتواء
تتحدد العلاقة بين الصين والولايات المتحدة عبر اتجاه رياح الصراع بين قوتين – صاعدة ومهيمنة – ففي الوقت الذي تحاول فيه الثانية عرقلة صعود الأولى واحتوائها، تسعى الأولى إلى تقديم نفسها بديلاً أو دولة أكثر مسؤولية وتمتلك قوتها ميزات لا تمتلكها الثانية، وتسعى الصين إلى تعزيز هذه الصورة عبر التقاط واستثمار نقاط الضعف للدولة المهيمنة، فعندما تتحدث الصين عن "الحمائية"، فإنها تقدم نفسها بديلاً وشريكاً وطرفاً مسؤولاً لا يمكن له أن يتخلى عن المجتمع الدولي في فترة الأزمات – كما تفعل واشنطن – وعندما تركز بكين على رفضها الهيمنة والأحادية القطبية، فهي من جهة تشير إلى التفرد والسلطة المطلقة لواشنطن وشن الحروب، وعدم احترام سيادة الدول، ومن جهة أخرى تقدم نفسها كنموذج لدولة تحترم سيادة الدول الأخرى وأن سياستها الخارجية قائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإنها لا تتبنى علاقات دولية محصلتها "صفرية"، بل تقوم على نظرية "الكسب الجماعي" رابح – رابح!
وبعيداً عن التصريحات المصاغة بدقة، والتدرج في إعلان التحدي للهيمنة الأمريكية، علينا أن نتذكر أن الصين نفسها وبحسب استراتيجيتها منذ عام 2015، وضعت هدفاً نهائياً تعمل للوصول إليه مع حلول منتصف القرن الحالي، وهو أن تصبح "الأمة الأعظم في العالم" بعد تمكنها من امتلاك جميع العناصر الاقتصادية والحضارية للقوة.
يؤشر هذا التوجه إلى الرغبة في الهيمنة، ولكن عبر استخدام وسائل أكثر نعومة، فالهيمنة عند المفكر الأمريكي وليم ولفورث تعني: "امتلاك الدولة عناصر القوة الأربعة الحاسمة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والناعمة"، وهي المجالات التي تعمل الصين على تطويرها منذ تبنيها لسياسة "الإصلاح والانفتاح" من عام 1980. فهل سيتخلص العالم من الهيمنة الأمريكية ليستقبل هيمنة صينية بعد ما يقارب نصف قرن؟!
وجاء الجواب من رئيس وزراء سنغافورة الأسبق لي كوان يو أحد أبرز القادة الآسيويين في عصره، على سؤال شبيه بشأن إمكانية احتلال الصين مكان الولايات المتحدة وتحولها إلى القوة المهيمنة في المستقبل القريب "من حقهم أن يطمحوا ليكونوا الرقم واحد في آسيا والعالم كله..".