ليس بغريبٍ العودة مجدّدًا لمسألة القبول بالقرار رقم 242 أساسًا للحلّ السياسيّ للصراع العربيّ الصهيونيّ ففي ذلك الزمن اعتقدت القوى الوطنيّةُ المقاومةُ أنّ قبول القيادة الفلسطينيّة المتنفّذة بالقرار هو في حقيقته كمين؛ إذ إنه يقودُ لجعل العامل الخارجي عاملًا مقرّرًا يتراجع لصالحه العامل الذاتي، والتاريخ يعيدُ نفسه، لكن هذه المرة بشكلٍ أكثرَ بشاعةٍ وغلو، فقد اعتقدت السلطةُ الفلسطينيةُ والعديد من الحكومات العربية التي ما زالت رغم التعافي النسبي للحالة العالمية ببزوغ نجم أقطابٍ جديدةٍ قد تسدل الستار مستقبلًا على العالم أحادي القطبية الذي ساد في العقود الماضية؛ أنه بإمكانها سحب البساط كليًّا من العامل الداخلي العربي رغم فشلها النسبي في الحالة السابقة، لتجعل العامل الخارجي في الصراع عاملًا مقرّرًا، معتقدةً بذلك أنها قادرةٌ على إنهاء العامل الذاتي وبعض الأمثلة الحديثة في العامين الماضيين يمكن لها أن تبين ذلك.
إنّ ما حدث في المؤتمر الاقتصادي الذي أقيم في مملكة البحرين بعنوان السلام من أجل الازدهار كأحد أوضح المقدّمات لإعلان التطبيع كان واضحًا، إذ إنّه في الوقت الذي أعلنت فيه حكومة مملكة البحرين التمسك بالموقف المبدئي من القضية الفلسطينية، على الهامش صيغ قرار وفق الرغبة الأمريكية يتمثّلُ في استبدال مسألة الحقوق التاريخيّة بالاقتصاد والرخاء والرفاهية المالية للشعب الفلسطيني، وقد استجابت الحكوماتُ العربيّةُ لكلّ كلمةٍ نقلها جاريد كوشنر بإعلان الشق الاقتصادي من صفقة القرن.
وقد اقترن هذا المشهدُ بلقاءاتٍ من مستوى عالٍ بشكلٍ علنيٍّ بين قياداتٍ حكوميّةٍ عربيّةٍ مع قيادات الصهاينة سواءً بالظهور في وسائل الإعلام الصهيونية أو بغيرها من الطرق، ولم تكن تلك اللقاءات خارجةً عن الإرادة الأمريكيّة والصهيونيّة، كل ذلك بهدف تخفيض الوتيرة الوطنية الفلسطينية والعربية التي رفعتها العمليات البطولية التي قادها وأنجزها أبناء الشعب الفلسطيني البطل بالإضافة للرفض القاطع لمجموع الشعبي العربي للتطبيع مع المحتلّ، والسير بها باتجاه التطبيع، محاولين إسقاط شحنة العداء العربي مع المحتلّ، ذلك إعدادًا لوجبةٍ أخرى شبيهة بتلك التي طبخت في الأفران الأمريكية على إثر القبول بالقرار 242.
ثم توجت هذه المرحلة بمحاولة تحويل مسألة الصراع العربي الصهيوني والحقوق التاريخية للشعب العربي الفلسطيني التي لا يملكُ أحدٌ أو حتى جيلٌ كاملٌ حق التنازل عنها إلى تعريفٍ بائدٍ أو مصطلحات قديمة مهجورة وليست معضلةً أن نحدد من هو المستفيد ولخدمة من تأتي هذه المحاولة.
وحتى بدايات الحرب الأوكرانية كان من الممكن القول: التباس حجم التأثير الخارجي على الصراع العربي الصهيوني؛ بسبب وحدانية القطب المزعومة بعد انهيار الاشتراكية وأثر ذلك الحدث على حركات التحرّر في العالم بأسره، أما من الجهة الثانية فهو الربيعُ العربيُّ الذي تركّزت فصوله الأعنف عام 2011، الذي بدوره أدّى تدمير قدرات أو على أقلّ تقديرٍ إشغال ساحاتٍ بأسرها في الخاص ال قطر ي عن العام القومي، ناهيكم عن الرسالة التي أسّست لها الأنظمة التي انهارت بفعل الربيع العربيّ بأنّها قادرةٌ على العودة للحكم بوسائل وطرق مختلفة طالما كانت مرضيًّا عليها من القطب الأوحد في وجهة نظرهم، وهذا بدوره جعل القضية الفلسطينية لأعوام ربما تتراجع في سلم الأولويات وجعل الوضع الفلسطيني صعبًا ولا يستطيع مخالفة المجرى الذي ترتب على حالة الإحباط والهزيمة والإنهاك الذي أصيبت به الأمة العربية.
غيرَ أنّ ما تقدّم من أسباب وحجم المتغيرات الدولية، لا يجب أن يجعلنا نربط سوء السياسة للإجمالي العربي الرسمي؛ بسبب هذه المتغيرات، بل إن ما يدلل عليه هو حجم الاستجابة لفعل القرار الخارجي في القرار العربيّ عمومًا قبل فعل المتغيّرين الراهن واللاحق.
عمومًا جاءت الحالةُ العربيّةُ مع اتفاقيات التطبيع ورد فعل الساحة الفلسطينيّة وآيات البطولة والشجاعة التي تقرع آذاننا وأعيينا كلَّ يومٍ في الضفة و غزة ومجموع الأراضي الفلسطينيّة من البحر إلى النهر بشموخ بالتأثير على العامل الشعبي العربي لتلجم المطبعين حجرًا من الطراز الثقيل، غير أنّ كلّ هذه المفاعيل حتى اللحظة فشلت في التأثير على البنية الرسميّة للنظام الرسميّ العربيّ.
إنّ الرفضَ العربيّ شاملًا الفعل الفلسطيني جزءًا من صد الهجمة على المستوى القومي؛ يجب أن يعطى مكانته، فهذا الفعلُ المقاومُ هو عنوان المسؤوليّة؛ إذ لا يجوز أن نكتفي بالقول: إنّ بطش العدو الصهيوني والأنظمة المرتبطة به هو ما أضعف الفعل المقاوم، فقد مورست من قبل الأنظمة المطبّعة والمجموع الرسمي العربي جملة من الأفعال في إطار سياسة تحجيم الفعل المقاوم في كلّ الساحات العربية، ولا أقصدُ هنا فعل المقاومة المسلحة فحسب، بل كل فعل يصب في اتجاه تحصين الفرد العربي من خطر الاختراق الصهيوني في سبيل إسقاط مجموع العداء تجاهه.
لذلك أقول: إن عدم ارتقاء الفعل المقاوم حتى هذه اللحظة للمستوى المطلوب ليس وليد متغيراتٍ دوليةٍ فحسب، فقد حوصر هذا الفعل على امتداد عقودٍ من المجموع الرسمي العربي لتصبح درجة الاستجابة السياسية للتنازلات متجانسةً مع أفعال التطبيع وخطوات السلطة الفلسطينية، في سبيل إيجاد سببٍ يبرّرُ احتلال الدبلوماسيّة (التطبيع) مركزًا مرموقًا.
من هنا نعودُ مجدّدًا لإرادة الإدارة الأمريكية التي كلّما وضعت خطة على طاولة التداول السياسي أوجدت لنفسها سبيلًا في تركيم العملية المستهدفة وصولًا للنتائج المحددة، ومن هذه الخلفية نجحت في فرض القرار رقم 242 سابقًا، واليوم نجحت في فرض التطبيع الرسمي وهي تعد نفسها لجولةٍ أو جولاتٍ جديدة. وقد يثورُ تساؤل هنا ماذا خسرنا من تطبيع الأنظمة العربية الأخير؛ إذ إنه لا يعدو كونه إعلانًا ما كان يتم في السر في العقود الماضية، والحقيقية انه يبين أن الإدارة الأمريكية تلمست استعداد الطرف الرسمي العربي لنقاش الحقوق الأساسية.
لتطرح على الأرض مجددًا بالتزامن مع التطبيع الأخير التخاطب مع البديل الذي سبقه الانقسام الفلسطيني لسنواتٍ طوال، أي بمعنى أنه لم تعد هناك حاجة حتى للحوار مع بديل منظمة التحرير فقد وجد بديل عربي للتحاور معه من أجل القبول والتعايش، ومن هنا تكون الإدارة الأمريكية حققت منجزات أخرى، أولها إدخال القرار العربي في دائرة مصيدة التطبيع أساسًا للحل السلمي للصراع العربي الصهيوني - ذلك بافتراض بعض حسن النية.
أما ثانيها فكان استبدال الاهتمام بتطوير سبل المقاومة الشاملة برنامجَ عملٍ وخطّةً كفاحيةً في اللعبة الدبلوماسية، أما الثالث وهو الأشد خطورة هو تطويع الموقف الفلسطيني البديل (السلطة) لمراحل لم يصل لها من قبل، إضافة لتجزيء التمثيل والانقسام.
لم تكتفِ الإدارة الأمريكية الساعية لتسوية الصراع العربي الصهيوني وفق مقاييسها بهذه العناصر، بل شنت حملة عداء سياسي إعلامي وحصار اقتصادي للفعل المقاوم وقواه، بالإضافة لتصفية التجمعات الفلسطينية في دول الطوق مستغلين حالة الغليان في الربيع العربي، وخاصة باستهداف الجالية الفلسطينية في سوريا ولبنان ذبحًا وتهجيرًا.
إنّ المشهد المؤلم أن الإدارة الأمريكية حصلت على ما تريد من خلال توظيف دول عربية، مع ذلك ورغم كل ما تحقق من نتائج لصالح الإدارة الأمريكية، فإن ذلك لم يولد حالة الاستجابة الشعبية العربية للاشتراطات الأمريكية، فغدا أمر القبول باتفاقيات التطبيع المهمة الأكثر إلحاحاً، والاهم كان وجوب الاستجابة الرسمية العربية وهي المهمة التي تفوق فيها جاريد كوشنر.
والمحصلة وفق الوقائع اليوم تقول: إن الموقف الرسمي العربي انهار وانحدر عن أساسيات كان يقول بها والمخزي أنّ
ه ما زال يرددها، من مقولة تحرير كامل التراب الى أن وصلنا اليوم لانهيار المشهد العربي والتطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي بدوره شارك في مؤتمر السلام مقابل الازدهار تحت شعار (ذاهبون شارك الفلسطينيون أم لم يشاركوا) ووقع اتفاقيات التطبيع أو في قل تقدير لم يكن له حتى رد فعل من الأنظمة المطبعة وفتحت السماء العربية للطيران الصهيوني والأسواق، وهنا تحضرني مقولة الشهيد القائد أبوعلي مصطفى الذي قال: (إن الجهلة وحدهم الذين لا يعرفون أن الحرب النفسية جزء ومكون رئيسي من الحرب السياسية، بهدف خلق مفاهيم إيحائية تفرض نفسها على الطرف الآخر وتؤثر بقراره السياسي وهذا ما حصل).
فعلًا هذا ما حصل فقد تحوّلَ الدور العربي الرسمي ليكون مساعدًا فاعلًا ومهمًّا في توليف القرار الفلسطيني للاستجابة للشروط الصهيو-أمريكية.
عمومًا منعًا للإطالة، فإنّه وإن نجحت الإرادة الأمريكية في تهيئة قطار الاتفاقيات الإبراهيمية بركابه من الأنظمة العربيّة وممثّليها، فإنّ الشهور القليلة الماضية كفيلةٌ للجزم بأنه لم تندحر حالة العداء العربي الشعبي للصهاينة والتي يجب علينا المحافظة عليها، فالعمليات التي نشهدها في الضفة الغربية وعموم الأراضي الفلسطينية، وشعارات رفض التطبيع والعداء للكيان المحتل وقطعان المستوطنين، وما شهدنها من حالة عربية شعبية في مونديال قطر تجاه القضية الفلسطينية، تبين أن العقبة الأساسية في وجه كل مشاريع التصفية هي الشعب العربي، ومن ثَمّ لا يجب أن نخضع للابتزاز والتخويف الرسمي العربي أو الأمريكي؛ لأنه ببساطةٍ لا سلام ولا استقرار في العالم بأسره دون حلٍّ عادلٍ يقوم على تحرير كل الأرض من دنس الصهاينة.
معنى ما تقدّم أنّ كلّ ما مرّ ويمرّ وسيمر على هذه الأمة العربية، يظل شعبنا العربي حارساً لورد الشهداء وأمينًا على دمائهم، وفي ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، عنوان اليسار العربي المقاتل، الرسالة التي عمدها شعبنا العربي بالدماء، تقول لرفاق النار.. لأبناء أبا علي معلم الثوار... ظلوا كما أنتم رأس حربتنا حتى دحر الاحتلال.