حولَ الميزانِ الحسّاس بين الوطنيّ والقوميّ والأمميّ: ليست العصبيّةُ الإقليميّةُ أو الطائفيّةُ أو القبليّةُ أن يعتزَّ المرءُ بما ينتمي إليه، بل ألّا يرى ما ينتمي إليه ضمنَ السياقِ الأوسع، وأن يجعلَ الهُويّات الصغيرة تطغى على الكبيرة. فاسمُكَ الأخيرُ لا يلغيه اسمُكَ الأوّل، ولا تلغيه القبيلةُ أو القريةُ أو المدينةُ التي يأتي منها اسم أبيك. كذلك لا تلغي هويتَكَ العربيّةَ البلدةُ أو القضاءُ أو الإقليمُ الذي تأتي منه، ولا يلغيها انتماءُ الوطن العربي إلى العالم الإسلاميّ أو قارتي آسيا وإفريقيا، التي تنتمي جميعها في النهايةِ إلى العالمِ بأسره. فالانتماءُ إلى كلّ هذه الدوائر هو الذي يصنعُ هُويّةَ المرءِ ويغنيها، وهو الذي يجمعُ الإنسان مع غيره ويميّزه عنهم في آنٍ واحد، وكذلك الأمر بالنسبة للمهنة والعرق والجنس وغيره مكوناتٍ للهُويّة الفرديّة، ويكمنُ السرُّ في القدرة على الانتماء إلى كلّ ما ينتمي إليه المرءُ هو التوازن: سعة الأفق، والقدرة على استيعاب التناقضات الثانويّة، والوقوف مع المظلوم أينما كان.
ربّما يبدو هذا هيّنًا في القول، لكن في الفعل، تتعرّضُ إحدى هذه الدوائر أحيانًا لانقضاضٍ همجيٍّ يثيرُ فينا كلَّ آلياتِ الدفاعِ الغريزيّة، كما حدث مع الشعب الجزائري إزاءَ الاحتلال الفرنسي، ومع الشعب الفلسطينيّ إزاء الاحتلال الصهيوني. في الحالتين، كان الاحتلالُ استيطانيًّا إحلاليًّا، وكان يستهدفُ شطبَ الهُويّة، بقدر ما كان يستهدفُ احتلالَ الأرض، أي أنّه كان يحملُ بعدًا ثقافيًّا حضاريًّا، لا بعدًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو عسكريًّا فحسب.
في الحالتين، كان جعلُ الجزائرِ فرنسيّةً أو فلسطينَ يهوديّةً يعني اجتثاث عروبة الجزائر وفلسطين أرضًا وشعبًا. في مثل هاتين الحالتين، تصبحُ الهُويّة الجزائريّة أو الفلسطينيّة هُويّةً عربيّةً وإسلاميّةً وأمميّة، وتكون الهُويّة المطلوب اجتثاثها استعماريًّا هُويّةً نضاليّةً لا تعصّبًا قطر يًّا؛ لأنّها هُويّةً معاديةً للظلم والاستعمار، لا هُويّة فصّلها الاستعمار ليحمي بها مصالحه الإقليميّة، ولا هُويّة نقيضة للهُويّات العربيّة الأخرى. وهنا، من المنطقيّ أن تصبحَ الحطّةُ أو الكوفيّةُ الفلسطينيّةُ عنوانًا أمميًّا في التظاهرات المناهضة لحكومة الولايات المتّحدة وسياساتها من أندونيسيا إلى واشنطن، وأن تصبح عنوانًا قوميًّا عربيًّا في سياق تفاعل الجمهور العربيّ مع تقدّم المنتخب المغربي في مباريات كأس العالم عام 2022.
التخلّي عن فلسطين مقدّمةٌ لأي مشروعٍ قُطري: كانت مقدّمةُ الوعي الإقليميّ في الأقطار العربيّة دومًا فكّ ارتباط الأنظمة العربيّة ضمنَ حدود التجزئة بالقضيّة الفلسطينيّة تحت شعار التركيز على الذات القطريّة وبنائها. ومن هنا أتى خطاب "نحن فراعنة لا عرب" مقدّمةً ضروريّةً لاتفاقيّة كامب ديفيد، ويأتي خطابُ تأصيل حدود التجزئة الاستعماريّة استنادًا إلى تاريخٍ قديم، من العراق إلى المغرب، في السياق ذاته، سياق التطبيع والخضوع للهيمنة الغربيّة.
من الواضح طبعًا أنّ مثل هذا الطرح القطري، فضلًا عن عدم دقّته التاريخيّة، بحكم كون الأقوام العربيّة القديمة مثل الآشوريّين والآراميّين والأقباط والأمازيع من أرومةٍ واحدة، يتجاهلُ عن سابق إصرارٍ الروابطَ التي تربطُ العربَ بعضهم بعضًا، الروابط القوميّة والثقافيّة، أي العروبة والإسلام، لكي يصل إلى لاعقلانية اهتمام الإنسان العربي بالقضيّة الفلسطينيّة، فهو يطرحُ هذه الروابط جانبًا بشكلٍ اعتباطي، بالإضافة لتجاهله لاعتبارات التاريخ والجغرافيا السياسيّة والمصالح المشتركة.
توصّل البريطانيّون إلى فكرة "إنشاء وطن لليهود في فلسطين" عام 1840 لمنع تمدّد النفوذ المصري شرقًا تجاهَ الجزيرة العربيّة وبلدان الهلال الخصيب بعد جهود محمد علي باشا التوحيديّة، وما تزال "إسرائيل" منذ تأسّست جزءًا من منظومةٍ إقليميّةٍ تحمي المصالح الاستعماريّة في بلادنا وجهها الآخر أنظمة التجزئة القطريّة المصطنعة التي تنتج البطالة والقمع والمهانة الوطنيّة، وبهذا المعنى، باتت تلك المنظومةُ تنتج يوميًّا كلّ ما يربط المواطن العربيّ بفلسطين.
وبهذه الأنظمةِ القطريّة، تمدّدت فلسطين من المحيط إلى الخليج، وبها أصبح الوطن العربيّ بأسره أراضيَ محتلّةً، ولا معنى للحديث عن حريّة الفرد في الأوطان المحتلّة. ولا مستقبلًا اقتصاديًّا أو حلًّا لمشكلات البطالة أو التنمية الاقتصاديّة أو المشكلات الاجتماعيّة المستعصية، خاصّةً في عصر العولمة والوحدات الاقتصاديّة الكبيرة، إلا بالسوق العربيّة المشتركة التي تقف القطريّات العربيّة عائقًا في طريقها. لا يدعو الطرح القُطري، من ثَمَّ، العرب إلى عدم الاهتمام بفلسطين فحسب، بل يدعوهم للتمحور حول الذات المبتسرة، أي أن دعوته بالأساس هي دعوةٌ للتمسّك بالحسّ الإقليميّ والاهتمام المحلّي والفردي في ظلّ أنظمة التجزئة، في الوقت الذي يعلن فيه أنّه يؤيّد استكمال الفسيفساء القُطرية بدويلةٍ فلسطينيّة، لا تتعارض مع هذه المنظومة الإقليميّة، عاصمتها ب القدس الشرقيّة، وحدودها ما زالت تنتظر الترسيم مع "إسرائيل"!
القُطريّةُ الفلسطينيّةُ مدخلًا للتسوية مع العدو الصهيوني: لكنْ، حين تصبح الهُويّةُ الفلسطينيّةُ أداةً بيد البعض لمعاداة العروبة لتبرير التسويات المنفردة مع العدو الصهيوني تحت يافطة "القرار الفلسطيني المستقل"، أي حين تستخدمُ تلك الهُويّةُ في سياق توسيع المخطّط الصهيونيّ في الوطن العربي، فإنّها تكفُّ كونها هُويّةً نضاليّة، وتصبح من ثَمَّ أسوأ وأكثر تخلّفًا من أشدّ القطريّات العربيّة انغلاقًا وإغراقًا في خدمة المخطّط المعادي؛ لأنّها تكون آنذاك موجّهةً ضدّ العرب الآخرين لا ضدّ الاحتلال الخارجي.
نلاحظُ في هذا السياق أنّ حكومة الولايات المتّحدة والكيان الصهيوني لم تعترفا رسميًّا بهُويّةٍ فلسطينيّةٍ ما إلا بعد الحصول على ضماناتٍ كافيّةٍ لانخراط "الممثّل الشرعيّ الوحيد" الكامل بعمليّة التسوية، والتأكّد من تحوّل شرائح من الفلسطينيين للاعتراف بحقّ دولةِ العدو بالوجود، واستعداد سلطة أوسلو لتعهد أمن الاحتلال بالنيابة، وبعد تحوّل الهدف المعلن من التحرير إلى "الاستقلال" في دولةٍ ما على أجزاء من فلسطين، أي بعد تلمّس استعداد قيادات "م.ت.ف" الجدي للتفاوض على موقعٍ ضمنَ المنظومةِ الإقليميّة.
والحقيقة، إنّ مشروع الدولة الفلسطينيّة بحدّ ذاته لا يتناقض مع مشروع "الشرق الأوسط الجديد" إذا تمَّ على قاعدة "اندماج" الدولة الصهيونيّة في المحيط العربيّ، لا بل إنّ الدولةَ الفلسطينيّة ضمنَ سياق مشروع "الشرق الأوسط الجديد" تصبحُ مجرّدَ جزءٍ من لوحةٍ فسيفسائيّة، وموطئ قدم للتغلغل الصهيوني في المنطقة العربيّة. ويسجّلُ في هذا السياق أنّ اتفاق أوسلو الفلسطيني-"الإسرائيلي" تضمن بنودًا كاملةً عن حريّة وصول الدولة الصهيونيّة إلى الأسواق العربيّة.
يؤكّدُ هذا الأمر أيضًا تصريح السفير الصهيونيّ الأسبق في الأردن ديفيد دادون، قبل أكثر من عشرين عامًا، حسب وكالة الصحافة الفرنسيّة يوم 26 تشرين الأول/أوكتوبر 2001: "فقط في اليوم الذي تخلق فيه دولةٌ فلسطينيّةٌ مستقلّةٌ ذات سيادة سوف تنفتح عقول وقلوب كلّ الشعوب العربيّة لإعطاء المشروعيّة لحقّ الشعب اليهوديّ بدولةٍ خاصّةٍ به... وإذا أردنا هذه المشروعيّة، فإنّ علينا أن نعترف بأن ذلك يرتبط بخلقِ دولةٍ فلسطينيّة".
تصبحُ القُطريّة الفلسطينيّة، في هذا السياق، غطاءً للمشروع الصهيوني، وتتمّةً للقطريّات العربيّة الأخرى، وعندها فقط يستعدُّ الطرف الأمريكي- الصهيوني أن يعترف بها عن طيب خاطر. وهنا يدور التفاوض حولَ دورٍ فلسطينيٍّ ما في المشروع الصهيونيّ- الأمريكيّ الموجّه ضدَّ الأمّةِ العربيّةِ وأمم جنوب الكرة الأرضيّة وشرقها، لا حول تحريرٍ من أيّ نوع.
ولنلاحظ أنّ أنور السادات كان البادئ بطرح فكرة "م.ت.ف ممثّلًا شرعيًّا وحيدًا" للشعب الفلسطيني في بداية السبعينات؛ كي يعفي نفسه من المسؤوليّة العربيّة الجماعيّة تجاهَ القضيّة الفلسطينيّة، ليجعل فلسطين بهذا الشعار مسؤوليّةً قطريّةً أو فرديّةً فلسطينيّةً في السلسلة التي تتكوّن من الأنظمة العربيّة. وقد ترافق ذلك بالطبع مع قيامه بتعزيز القطريّة المصريّة ومحاولة شطب الدور العربيّ لمصر. وكانت تلك بداية التبريرات الرسميّة العربيّة في العلاقة مع العدوّ تحت مبدأ: "نقبل بما يقبل به الفلسطينيّون"!
والحقيقةُ أن تحويل القضيّة الفلسطينيّة إلى مسؤوليّةٍ فلسطينيّةٍ محضةٍ هو المقدّمةُ الضروريّةُ لتصفيتها؛ لأنّ القُطريين حين يطلبون من الشارع العربي أن ينسى فلسطين، أو حين يطلبون من الأنظمة العربيّة أن تفرض على الشارع العربي أن ينسى فلسطين، فإنّهم ومن يمثّلون يطلبون من الفلسطينيين أن ينسوا احتياطاتهم الاستراتيجيّة العربيّة والإسلاميّة والعالميّة بحجة أن الجميع تخلّى عنهم، ولم يعد أمامهم إلا الارتماء في المخطّطات "الواقعيّة"، أي البحث عن دورٍ ضمن مشروع الاحتلال-التجزئة.
الخلاصةُ أنّ أيّ فلسطينيٍّ يعنى جديًّا بتحرير فلسطين، لا بدَّ له أن يفكّر كلّ لحظةٍ بكيفيّة تعبئة احتياطاته الاستراتيجيّة العربيّة والإسلاميّة والعالميّة لمواجهة الطرف الأمريكي - الصهيوني، فهو لا يتمتّعُ برفاهيّة الغرق في الإقليميّة الفلسطينيّة بأيّ شكلٍ من الأشكال، لا بل إنّ مصلحته أكثر من أيّ عربيٍّ آخرَ تكمن في تجاوز كلّ التناقضات الثانوية ضمن معسكر الأصدقاء. وإذا نظر الفلسطيني لنفسه فلسطينيًّا فقط، فإنّه لا يمكن أن يبقى مناضلًا؛ لأنّه سيجد نفسه ريشةً في مهبّ الريح في مواجهة القوى العاتية في المعسكر المعادي الذي يلتئم ضده، وسيقول آنذاك: لا خيار لي إلا قبول شروط الأعداء للتسوية "السلمية".
فالفلسطينيُّ القُطريّ هو تسوويٌّ بالمحصّلة، والفلسطينيُّ المناضلُ غيرُ قطريٍّ بالضرورة، فلو لم تكن هناك أمّةٌ عربيّةٌ لاختلقها، فما بالكم وحقيقة الوجود القومي لا يرقى إليها الشك! والفلسطيني المناضل لا يتعب من تذكير العرب والمسلمين وأحرار العالم بأنّ تأسيس دولة العدوّ هي مؤامرةٌ ضدهم بالأساس، ولو دفع هو الثمن الأكبر لنشوئها، ويعرف أنّ الأنظمة والشعب العربي ليسا شيئًا واحدًا، وأنّ الشعوب لم تبخل عليه يومًا بموقفٍ أو بتضحية، وأن الخلاص يكمن بإعمال الفكر والعمل لتحرير طاقات الأمّة العربيّة من أغلالها وعلى رأسها التعصّب القُطريّ أينما وجد، حتى تقوم القوّة المنظّمة التي سيولد على يدها النصر الأكيد: المشروع القومي.