Menu

لماذا طرحُ المسألةِ القوميّةِ مجدّدًا؟

ابو علي حسن

نشر في العدد (45) من مجلة الهدف الرقمية

في تصدّينا في هذا العدد الخاصّ من مجلّتنا "الهدف" للمسألةِ القوميّةِ في واقعنا العربيّ - الذي يصدرُ إحياءً للذكرى الخامسة والخمسين لانطلاقةِ الجبهةِ الشعبيّةِ لتحرير فلسطين - وكما عوّدنا قراءنا الأعزّاء - فإنّنا نناقشُ ونتناولُ القضايا والمواضيع الوطنيّة والقوميّة – الاجتماعيّة والاقتصاديّة – والثقافيّة والإعلاميّة... وغيرها، من بوّابة المناسبات التي قد تبدو للبعض أنّها خاصّة، ويرجّحُ أن يتمَّ تناولها فئويًّا. وعليه؛ سيكونُ هذا العدد مكرّسًا، لتناول المسألة القوميّة كما أسلفنا، بعنوان: في المسألةِ القوميّةِ مجدّدًا.. رؤى نقديّة، خاصّةً وأنّنا في أكثر من عددٍ تناولنا هذا الأمر في سياق ملفّات تضمنتها. إنّنا من خلال هذا التكريس؛ نستهدفُ تسليط الضوء على الفكرة القوميّة العربيّة باستفاضة؛ مراجعةً ونقدًا ورؤيةً للمستقبل؛ منطلقين من أنّ الفكرة القوميّة - رغمَ كلّ ما لحق بها من استهدافٍ وتراجعٍ وتشويه - كامنةٌ وحيّة؛ لأنّها انعكاسٌ لواقعٍ تعيشه الأمّة، ولا تُفرضُ عليها فرضًا من قوى أو أحزاب، إنّما هي تكوينٌ أصيلٌ وتاريخيٌّ وثقافيّ؛ لم يزل يشكّلُ قوّةَ دفعٍ للسير في الطريق الآمن لوحدة الأمة ووجودها وتحرّرها الماديّ والإنسانيّ، بل هي قدرُ الأمة وصولًا لتشكّلها النهائي.

إنّ اللحظة السياسيّة الراهنة التي قد تبدو فيها الحركةُ القوميّةُ العربيّةُ في تراجع؛ تقتضي أن يرفع الستار مجدّدًا عن نشأتها ومسارها؛ صعودًا وهبوطًا في الواقع العربيّ، وصولًا إلى أزمتها الراهنة، وفشل/إفشال مشروعها القوميّ؛ لإفساح المجال لمشاريعَ تغريبيّةٍ وإسلامويّةٍ معاديةٍ للشخصيّة العربيّة، وهذا ما سوف يتناوله الكُتَّاب والمُفكّرون في هذا العدد الخاص.

لا شكّ أنّ المسألة القوميّة هي ظاهرةٌ سياسيّةٌ وثقافيّةٌ وأدبيّةٌ ومسارٌ سياسيّ؛ نهضت به البرجوازيّةُ الصاعدةُ في الأمم الأوروبيّة، في محاولةٍ لتوحيد الشتات القوميّ الموزّع على جغرافيا الممالك والإمبراطوريّات كالعثمانيّة والنمساويّة والرومانيّة المقدّسة وغيرها، والسعي إلى مركزة وتوحيد الأسواق لخدمة الصعود الرأسماليّ في تلك البلدان والممالك، وفي محاولة لتركيم رأس المال وتوزيعه وانتشاره وصولًا إلى مرحلةٍ اقتصاديّةٍ اجتماعيّةٍ سياسيّةٍ أكثر استقرارًا وتقدّميّة. وعليه؛ فهي دعوةٌ للتجمّع القوميّ من أجل لم الشمل، وتحقيق الوحدة السياسيّة وإقامة الدولة القوميّة (الأمّة/الدولة). ومن اللافت أن البرجوازيّة الصاعدة في القرن التاسع عشر، وبعد أن استكملت مشروعها القوميّ وجسّدت هُويّتها الوطنيّة والقوميّة ورسّختها دوليًّا؛ حوّلت الدول التي أنشأتها إلى بلدانٍ مستبدّةٍ وعدوانيّةٍ واستعماريّةٍ ناهبةٍ لخيرات الشعوب؛ في مسعى لاستمرار تدفّق الموارد لتقوية تلك الأمم في مواجهة أعدائها وتحقيق الرفاه لشعوبها على حساب الشعوب الأخرى الأضعف، التي تصادفُ أنّها أكثر مواردًا.

غير أنّ نشأة الحركة القوميّة العربيّة في الواقع العربيّ "المسألة القوميّة"، أتت بعيدةً في أسبابها وواقعها عن نشأة القوميّة الأوروبيّة وأحداثها؛ إذ إنّ المنطقة العربيّة كانت ترزحُ تحت نير الاستعمار العثماني ومظلّة الخلافة الإسلاميّة من جهة، والاستعمار الغربيّ من جهةٍ أخرى، حيث بدأ الشعور القوميّ لدى الشعوب العربيّة؛ يأخذ مسارًا عاطفيًّا وثقافيًّا مع منتصف عصر القوميّات، وتبلور حقوقها، في "القرن التاسع عشر" مع ازدياد معاناة العرب من الاستلاب الإنساني والاقتصاديّ والعبوديّة؛ عبر سياسات الدولة العثمانيّة وسياسة التتريك، وسياسات الغرب الاستعماريّة في الضمّ والسلب والنهب؛ هذا الواقع الاستعماري كان سببًا موضوعيًّا لانبعاث الهُويّة العربيّة، وتفجّر المسألة القوميّة، والبحث والتأصيل للشخصيّة العربيّة، مما جعل المسألة القوميّة العربيّة؛ مسارًا سياسيًّا وثقافيًّا ومرتبطة بالتحرّر الوطنيّ من الاستعمار أكثر منها ارتباطًا بخلفيّة المسألة القوميّة في أوروبا وعلاقتها بغايات التوسّع الرأسمالي وصعود البرجوازيّة الأوروبيّة، حيث لم تكن البرجوازياتُ العربيّة قد استكملت بناءها الرأسمالي والتوسّعي.

وفي سياق النضال من أجلِ التحرّر من ربقة الاستعمار؛ تفجّرت "اليقظة العربيّة" التي أحدثت نقلةً نوعيّةً في مجال الحياة الأدبيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، التي أسهمت في تبلّور فكرة القوميّة العربيّة وخصائصها، وكانت إرهاصاتها الأولى مع عبد الرحمن الكواكبي وجمال الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم من رواد اليقظة العربيّة، وانتشار الجمعيّات السياسيّة العربيّة كجمعيّة الفتاة، والإخاء العربي – العثماني، والقحطانية، وجمعية العهد في مصر بزعامة عزيز المصري، وغيرها. بيدَ أنّ هذه البدايات وحواملها من رواد وجمعيات لم تحدد مفاهيميًّا وتطبيقيًّا المسألة القوميّة، بقدر ما دعت إلى نهضةٍ عربيّةٍ متأثّرةٍ بالحداثة الأوروبيّة، وكانت من نتيجة هذه البدايات في اليقظة العربيّة أن عقد المؤتمر العربي الأوّل الذي عقد في مارس عام 1913 من مندوبين لمعظم البلدان العربيّة، وهنا أصبح الوعي العربيّ القوميّ يأخذ أبعادًا وأشكالًا عمليّةً سياسيّةً وكفاحيّةً. وكان من ثمرة هذا الوعي أن بدأت بالتوازي؛ تفجُّر حركةٍ أدبيّةٍ عربيّةٍ في الغرب وأمريكا، أسهمت في إحداث ثورةٍ أدبيّةٍ وشعريّةٍ وتأسيس صالوناتٍ ثقافيّةٍ عربيّة، كما اضطلع مفكّرون وأدباء مسيحيّون بدورٍ محوريٍّ في رفع لواء القوميّة العربيّة، عبر الارتقاء بالأدب العربي واللغة العربية، مثال: الإقدام على تأليف قواميس اللغة العربية، كقاموس محيط المحيط لبطرس البستاني وخلافه.

وفي المرحلةِ الثانيةِ لمرحلة اليقظة العربيّة بدأت الحركةُ القوميّة؛ عبرَ روّادها بتطوير المفاهيم النظريّة والسياسيّة للمسألة القوميّة، مثال: ساطع الحصري، وزكي الأرسوزي وقسطنطين زريق، ورواد آخرين، حيث آثروا المسألة القوميّة العربيّة مفاهيميًّا ونظريًّا وتطبيقيًّا، وتحديد العلاقة بين الدين والعروبة؛ مؤكّدين على أنّ العرب يشكّلون أمّةً واحدةً قائمةً بذاتها، ويشكّلون جماعةً مستقرّةً تاريخيًّا، وذات لغةٍ واحدة، وجغرافيا واحدة، وتكوين نفسي مشترك تجسّده الثقافة المشتركة، وأنّ الأمم تقومُ قبل كلّ شيءٍ على لغاتها، وتشعر بذاتها، وتكوّن شخصيّتها بواسطة تاريخها.

وبعد هذا التحديد لمقومات القوميّة العربيّة؛ أضحت التيّاراتُ القوميّةُ أداةً نضاليّةً لمواجهة أزمات الأمة وتفكّكها ومواجهة الغرب الإمبريالي وغزوه الصهيوني الذي قسم ومن ثم احتل الوطن العربي وقلبه: فلسطين، حيث شُكّلت أحزابٌ قوميّةٌ كحزب البعث العربي، والحزب القومي السوري، وحركة القوميين العرب التي أدّت دورًا محوريًّا في إيقاظ الحالة العربيّة على مستوى الوطن العربي؛ بيد أن ثورة 23 يوليو 1952، شكلت أهم تجسيد للحركة القومية العربية، حيث وحدت الوجدان العربي من المحيط إلى الخليج، وعززت مفهوم العروبة والقومية وتصدت للاستعمار والإمبريالية والأحلاف المرتبطة بها... كما حدثت انقلابات وتحولات في أكثر من بلد عربي؛ تأثّرًا بغايات وأهداف الحركة القوميّة العربيّة؛ غير أن الحركات والأحزاب القوميّة لم تكن على مساحةٍ واحدةٍ أو مشتركةٍ ولا وفاق على السياسات والشعارات وتطبيقات المفاهيم القومية، حيث اختلفت مساراتها ورؤاها؛ الأمر الذي أضعفها، وحولها إلى كياناتٍ قطر يّةٍ استهوتها السلطة على حساب مفاهيم وغايات الحركة القومية. فانقسم حزب البعث الذي استلم السلطة في العراق وسوريا على نفسه، وامتد الخلافُ والقطيعةُ لأكثر من ثلاثة عقود... وتكالب الأعداء على الناصرية عبر الاستعمار والرجعيات العربية، وأسهمت القوى المعادية والرجعيات العربية في هزيمة مشروعها القومي؛ فكانت هزيمة حزيران عام 1967 التي أسهمت في تراجع الحركة القومية.

لقد عاشت الحركةُ القوميّةُ العربيّةُ صراعاتها الحادة التي أدّت إلى فشل المشروع القومي الذي رفع الشعارات البراقة "الحرية والوحدة والاشتراكية"؛ دون أن يحقّق أيًّا منها، مما أفسح المجال لتكريس القُطريّات العربيّة ونشوء الهُويّات القطرية والطائفيّة والإثنيّة التي ضربت مفاهيم الحركة القومية. إن تراجع الحركة القومية العربية، وتاليًا تعبيراتها الدولتية لا يستند إلى الحملات المعادية فحسب، إنما يستند إلى مفاهيمَ نظريّةٍ أو تغييب لمفاهيم الحياة السياسية والحداثة؛ فأزمة الحركة القومية العربية تنطلق نظريًّا وبالممارسة من تغييب الجانب الطبقي ودور الطبقة العاملة في عملية التغيير.

وكذلك الأمر؛ فالحركةُ القوميّةُ قد أهملت في تعريفها لمقومات الأمة وتشكلها الجوانب المادية والعوامل الاقتصادية ودورها الحاسم أيضًا في تشكل القوميّة العربيّة، واكتفت بالتركيز على الجوانب المعنوية والنفسية والتراثية.

ومن عوامل أزمتها أيضًا التغييب العملي للممارسة للديمقراطيّة في الحياة السياسيّة على صعيد الأحزاب القومية أو الدولة القومية، مما أوجد المركزيّات الحادة في إدارة الحزب أو الدولة وتعظيم الدكتاتورية في الحياة السياسية، وإهمال الدور الجماهيري ودور المثقفين والمفكرين في الإسهام في بناء الدولة والحكم.

وفي السياق الأزمويّ جاءت تلك الممارسة لما يسمى "الاشتراكية العربية" في بناء الدولة، أو الاشتراكيات المتعددة كمفاهيم مختلفة الممارسة والبناء والتي لم تتجاوز التهويمات النظرية أو الممارسات التجريبية التي أفضت بالنهاية إلى أسوأ أشكال الفوضى الرأسمالية وضرب القطاع العام في كل القطريات العربية.

أخيرًا: تناول المسألة القومية، من خلال هذا العدد الخاص؛ ينطلق من فتح نقاشٍ متجدّدٍ في مسألةٍ حيويّة، بل مصيريّةٌ لوجود وحريّة وحقوق ووحدة الأرض والأمة العربية التي بات حجم وطبيعة الاستهداف لها أوضح وأكثر شراسةً من قبل المشروع المعادي؛ من أية مرحلةٍ أخرى، قد يكون تكثيفه في محاولات تحرير فلسطين من العرب والعكس... في حين الحقيقة هي أن معضلة الوجود القومي ومواجهة المشروع المعادي، كانت وستبقى في إبقاء البوصلة العربية نحو فلسطين، على طريق تحقيق أهداف وآمال الأمة العربية ومنها الشعب الفلسطيني.