Menu

في التحرّرِ العربيّ... ثُلاثيّةُ التفكّك والتخلّف والتبعيّة

مجدي عبد الهادي

نشر هذا المقال في العدد 45 من مجلة الهدف الإلكترونية

"حيثما ظلّ رأسُ المال التجاري سائدًا؛ وُجدت شروطُ التخلّف"، كارل ماركس

لا يتطلّبُ الأمر عبقريةً خاصّةً لإدراك مدى ضرورة الوحدة العربيّة لأيّ طموحٍ بتحرّر المنطقة أو تقدمّها، ولا معرفةً استثنائية لاستنتاج مدى ما يتكلّفه العرب من خسائرِ بمقاييس تاريخية كنتيجة لحالة التفكّك القومي، فلا ينكرُ ذلك إلا ساذجٌ من مهاويس الحفريات الهوياتيّة أو مُغرض من مُرتزقة الهويات المُستجدَة المُزوّرة.

والواقع أنه بعيدًا عن التصوّرات الأنطولوجيّة عن الهُويّة، فالمسألة في عمقها المادي مسألةُ اقتصاد، قبل أن تكون سياسة أو اجتماع أو ثقافة، فهى في مُبتدأها حتمية إجرائية ولوجستية للسيادة الذاتية على الموارد والسياسات في نظام عالمي تصوغ القوة الصلبة شبكات عمله والإمكانات التاريخية لمكوّناته ومواقعها الإنتاجية منه، وفي منتهاها مُحدّد جوهري لكامل الأداء الاقتصادي والكفاءة الاجتماعية، كليًا وجزئيًا، للكيانات القومية.

وتكمن القانونية العامة للتطوّر المادي للهويات في أن التكنولوجيا هي ما تدفع لنمو الأسواق؛ ليضاهي الطلب الاجتماعي، ويدعم، إمكانات المعروض الإنتاجي، في جدلهما للنمو المُتبادل؛ ما تكون نتيجته، وبشكل شديد التجريدية، تطوّر "وحدات الانتماء" الرمزية، ومعها أحجام المجتمعات البشرية، وتلحقها هوياتها الضرورية، بدءًا من المجموعات شبه العائلية الصغيرة المُعتاشة على الصيد والالتقاط، إلى القبائل الضخمة المسيطرة على مراعي ثابتة نسبيًا بمساحات ضخمة، فالقري متنوّعة الأنشطة الإنتاجية، لكن المُتمحورة حول زراعة مساحة شبه ثابتة من الأراضي الخصبة؛ فالمدن الصغيرة ثم الكبيرة، المسيطرة على مراكز عسكرية وخطوط تجارية لممالك ضخمة، ثم المشتغلة لاحقًا بأنشطة تصنيعية كقلب الجهاز الإنتاجي للمجتمعات الحديثة شديدة الضخامة إنتاجيًا واستهلاكيًا، وجغرافيًا وديموغرافيًا بالتبعية.

وبالنظر في حال العرب، فإنهم يمثّلون اليوم حوالي 5% من سكان العالم، فيما لا تتجاوز حصّتهم 3% من الاقتصاد العالمي، يأتي معظمها من النفط والغاز وما شابه، واللذيّن باتجاههما للنضوب المادي والتقادم التكنولوجي؛ ومن ثم تراجع العوائد، فضلًا عن كونهما أساسًا لا يقيمان نموذجًا اقتصاديًا قابلاً للتطوّر أو الاستدامة؛، إن لم يكن العكس بالضبط؛ ما يتجلّى في التخلّف النوعي الغالب على الاقتصادات العربية، كما يظهر بمحدودية التنويع القطاعي والتعقيد الاقتصادي.

وعلى هذا الصعيد، فإن حصّة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي العربي لا تتجاوز 11% عام 2020م، ولا تشغل الزراعة أكثر من 6% منه، فيما تنتفخ الخدمات إلى حوالي 55% من الناتج، بما يتجاوز كثيرًا مستوى التطوّر الهيكلي للاقتصادات العربية في مجموعها، وعلى المستوى القطري، فإن أكبر الاقتصادات العربية، وما يقرب من ثُلثها عددًا، هي اقتصادات نفطية بالأساس، باستثناء اقتصاد مصر الكبير نسبيًا لأسباب ديموغرافية مفهومة، وهكذا فوفقًا لأرقام 2021م، تتصدّر اقتصادات السعودية والإمارات والعراق وقطر والجزائر والكويت الاقتصادات العربية، وتمثل بمجموعها حوالي 73% من إجمالي الناتج الإجمالي العربي لنفس العام، وجميعها اقتصادات متأخرة على مؤشر التعقيد الاقتصادي بدرجات متفاوتة، بدءًا من السعودية التي تحسّنت كثيرًا إلى المرتبة 42 (من إجمالي 133 غطّاها المؤشر) عام 2020م، ومرورًا بمصر في المرتبة 69، وقطر في المرتبة 71، والكويت في المرتبة 86، إلى الإمارات التي تدهورت إلى المرتبة 99، وصولاً إلى الجزائر في المرتبة 108 المتأخرة جدًا على غير المُتوقع، والعراق الذي بلغ من التدهور والانهيار حدّ غياب البيانات.

هذا التخلّف الاقتصادي العام لا يرجع حصرًا إلى النمط الريعي ورأسمالية المحاسيب والدولة الكوربوراتية، على كل ما في هذه المفهومات والتفسيرات من صحة ومصداقية، فضلاً عن تقاطعاتها الجوهرية وتفارقاتها الثانوية، بل تكمن بعض جذوره التكوينية الأساسية في حالة التفكّك الجيوسياسي العربي نفسها ابتداءً، تلك الحالة التي تخلق ثنائية من، أولاً، ضعف السيادة؛ ومن ثم استشراء التبعية وغياب السياسات المستقلة، وثانيًا، غلبة الوحدات الاجتماعية/القطرية الصغيرة والقزمية على المنطقة؛ بشكل يستحيل معه، كشرط شديد الاوّلية، بناء أسواق نشطة واقتصادات قادرة على التجديد الذاتي وصناعات نامية قادرة على التطوّر بالإنتاج الكبير.

ومما يُزيد الطين بلّة، ضعف التعاون الاقتصادي العربي بشكل يعوّض هذا التفكّك ولو جزئيًا، سواء بالتجارة البينية أو بالاستثمارات الإنتاجية؛ فلا تتجاوز التجارة البينية العربية 10% تقريبًا من إجمالي التجارة العربية، ولا يختلف حال الاستثمار كثيرًا؛ ما يتسق وغلبة التشابه على الهياكل الاقتصادية العربية؛ الناتج منطقيًا عن تخلّفها النوعي المُشترك وضعف تنوّعها السلعي والقطاعي، مع سيطرة تجارة الموارد الطبيعية "تصديرًا"، والمواد الغذائية ومُستلزمات الإنتاج الأساسية "استيرادًا"، على أكبر ومعظم اقتصاداتها.

ولا ينفصل هذا التخلّف النوعي وضعف التعاون عن سيطرة رأس المال التجاري على الاقتصادات العربية التي بالكاد تعرف التصنيع، حتى في أكثر مراكزها تقدمًا، كمصر، التي شهدت عملية تراجع ضخمة للتصنيع منذ رفعت راية الاستسلام السياسي والاقتصادي، المعروفة بالانفتاح أواسط السبعينيات؛ لتعيد لذلك القطاع المتخلّف من رأس المال دفّة القيادة الاقتصادية؛ لتتكوّن رأسمالية محاسيب في ظل دولة كوربوراتية، ينضوي تحت لوائها قطاعيّ البورجوازية المصرية التابعة الأساسيين، البيروقراطية ورأس المال التجاري.

ورغم وضعها المالي الأفضل كثيرًا، فربما يكون الوضع أسوأ نوعيًا في أغلب الاقتصادات العربية النفطية، التي لم تعرف التصنيع يومًا، بل ولا يملك معظمها أصلاً إمكانات التنويع الاقتصادي المأمول؛ بحكم صِغر الأسواق وقلة عدد السكان ومحدودية المساحة الجغرافية والتنوّع المواردي؛ بشكل لا يسمح لمعظمها سوى بوضعية "دول الترانزيت" التجارية والخدمية، أو في أفضل الأحوال، التكامل الإنتاجي، من موقع طَرفي تابع، مع أسواق أكبر واقتصادات أكثر تطورًا.

ولا يختلف الأمر كثيرًا حتى في الاقتصادات والدول العربية الأكبر؛ فكلها دون الخمسين مليون نسمة؛ وهى أحجام غير كافية إستراتيجيًا لبناء وإدامة صناعات كبيرة تنافسية مُستقلة بالمعنى الحديث، وحتى أكبر بلد عربي سكانيًا، وهو مصر، نجده مُختنق جغرافيًا ببيئة صحراوية غير فعّالة اجتماعيًا، اللهم إلا بتكاليف ضخمة وبجدوى محدودة ضمن الإطار الاقتصادي القائم وضارة بمنظور المركزية السياسية المسيطرة، وهكذا تعيش الغالبية العظمى من سكانه في مساحة أقل فعليًا من الإمارات أو الأردن، فيشغل ما يجاوز 98% من السكان أقل من 6% من الأرض؛ ما يخلق كثيرًا من الاختناقات الاقتصادية والأورام الريعية وعوائق الانتشار الاستثماري والصناعي؛ ويقزّم بالجُملة من الحجم الاقتصادي المُفترض للدولة العربية الوحيدة المنتمية لنادي المئة مليون.

هذه القِزامة المُزدوجة، اقتصاديًا وسياسيًا، الناتجة عن حالة التفكّك العربي، لا تسمح بنمو وتعميق صناعي؛ مُعزّزة استمرار هيمنة رأس المال التجاري، الذي يعيد بدوره تعزيزها بمصالحه التي يتعارض ضمنها تكامل التجار عديم المعنى اقتصاديًا؛ كونهم متنافسين بالتعريف، دونما أرضية للتعاون الإنتاجي المتبادل، بل وبمصلحة مباشرة في السمسرة والوكالة البالغة حدّ التبعية المباشرة للأسواق المركزية، تصديرًا للموارد الطبيعية، واستيرادًا للسلع المُصنّعة.

وهذه التبعية هي الوجه الآخر للتخلّف المذكور، كما المكوّن الثاني في استمرار حالة التفكّك؛ حيث تُديم، سياسيًا واقتصاديًا، استمرار هيمنة رأس المال التجاري كمفصل الاتصال الاقتصادي الأساسي بالاقتصاد العالمي، فضلاً عن مصلحته بالتكامل مع المراكز الرأسمالية على حساب، وبإعاقة، النمو الذاتي المحلي، صناعيًا وإنتاجيًا بالعموم؛ الذي كان بذاته ليدفع باتجاه نمو قوى اجتماعية إنتاجية ذات مصالح في استقلال وتوسّع الأسواق المحلية، فضلاً عن التبادل التجاري الإقليمي بما ينمو بها جميعًا؛ ومن ثم اتجاه تلك الأسواق المُجزّاة لمزيد من التكامل والتشابك، الذي يوفّر الأرضية الملائمة والضرورية لنمو بنية فوقية مؤسسية، نقدية ومالية مبدئيًا وعلى الأقل؛ توفّر للمنطقة بعضًا من مُعطيات النمو الذاتي والاستقلال النسبي في مواجهة الخارج.

هذه التبعية، وذلك التفكّك، وفي خلفيتهما التخلّف الصناعي، ومن ورائهم ومن أمامهم، رأسمالية المحاسيب التجارية/البيروقراطية كغِراء رابط لإدامتهم جميعًا، يلعبون مجتمعين دورًا مركزيًا في دينامية عمل واستمرار المنظومة الكلّية للهيمنة الإمبريالية الأمريكية، من خلال سيطرتها على المنطقة العربية ذات الموارد المحورية لعمل الاقتصاد العالمي والموقع الجغرافي المركزي لكافة المنافذ الإستراتيجية للتجارة الدولية، تلك السيطرة السياسية والعسكرية التي تخوّلها إدامة استمرار هيمنتها المالية الدولارية المدعومة بالنفط والغاز العربيين؛ ومن ثم استمرار تدفّق الريع الإمبريالي والقدرة على هيكلة القيم الاقتصادية والعمليات الإنتاجية والتدفقات المالية والنقدية عالميًا من جهة، وتعزيز وضعها الاقتصادي والسياسي، قبل العسكري، في مواجهة منافسيها وخصومها المُحتملين، وعلى رأسهم الصين بالطبع، من جهة أخرى.

يضعنا كلُ هذا أمام ثلاثية مترابطة من التفكّك والتخلّف والتبعية، هي ما تُديم العجز العربي، كشرط لاستمرار تلك الهيمنة ذاتها، كما تجعل محاولة الخروج منه والتمرّد عليه تحديًا جوهريًا لها، واضعةً أمامنا، بمنطق المخالفة البسيط، وفي إعادة تأكيد تاريخية لما نعرفه ونخشى مواجهته، ثلاثية التحرّر والنهوض العربي المناقضة لثلاثية العبودية هذه، وهى ثلاثية "الوحدة والتصنيع والاستقلال"، المُتكاملة فيما بينها ديناميًا، والمشروطة ببعضها تاريخيًا، والتي تبدأ جميعًا بتنّحية رأسمالية المحاسيب، بمكوّنيها البيروقراطية ورأس المال التجاري، عن السلطة السياسية والاقتصادية معًا، في سياق المعركة الأشمل لتحرير المنطقة من الهيمنة الخارجية، وتصّفية بقايا الاستعمار المباشر، ورأس جسره الأساسي، الكيان الصهيوني في فلسطين.