تصعيد سريع في إيقاع الحرب بين روسيا وحلف الناتو، وخلال أقل من أسبوعين حشدت الولايات المتحدة الآلاف من قواتها في بولندا، وافتتحت أول قاعدة عسكرية دائمة، وصدر قرار من قضاة المحكمة الدولية بإلقاء القبض على الرئيس الروسي بوتين، وصرح دبلوماسي بولندي بأن بلاده مستعدة لخوض الحرب ضد روسيا إذا فشلت القوات الأوكرانية في حماية أراضيها، وأعلنت الولايات المتحدة أن طائرات التجسس ستواصل التحليق فوق البحر الأسود، لتساعد أوكرانيا في الحرب، ونقلت سلوفاكيا طائراتها من طراز ميج 29 إلى أوكرانيا، وقالت بريطانيا إنها ستمد أوكرانيا بذخائر اليورانيوم المنضب، وجمع الاتحاد الأوروبي حزمة مساعدات مالية لإمداد أوكرانيا بنحو 250 ألف قذيفة مدفعية شهريا، وسحبت الولايات المتحدة الطائرات الحديثة من قواعدها في الشرق الأوسط لترسلها إلى قواعد في أوروبا وشرق آسيا، وكأن الحرب العالمية الثالثة ستندلع قريبا.
لماذا كل هذا التصعيد والحشد في هذا الوقت القصير؟ لا يمكن تفسير ما يحدث إلا بارتباطه بحدثين رئيسيين، الأول هو الوضع المتردي للقوات الأوكرانية، التي تواجه أوضاعا صعبة للغاية، وتوضح استغاثات الرئيس الأوكراني مدى خطورة ما يحدث على الجبهة الأوكرانية، وتلويحه بأن الانهيار وشيك إذا لم تسرع أوروبا والولايات المتحدة لإنقاذ قواته المحتشدة على جبهة باخموت، وتنتظر مصيرا مخيفا، وكذلك باقي الجبهات التي تستميت فيها القوات الأوكرانية، للتمسك بمواقعها على أمل وصول إمدادات غربية سريعة وكثيفة قبل أن تنهار القوات الأوكرانية على طول الجبهة.
وكان الاكتشاف المذهل أن حلف الناتو بكل قوته لا تملك دوله توفير ذخائر للقوات الأوكرانية، وأن المخزونات تكاد تنفد، والقدرة على التصنيع السريع تحتاج بنية صناعية عسكرية أوسع، ونقص ذخائر المدفعية ليس المشكلة الوحيدة، فما وعدت به الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا بتوفير دبابات وعربات مدرعة تقلص إلى بضع عشرات، لا يتوافر منها حتى الآن أكثر من 11 دبابة، بينما أعلنت روسيا أنها أنجزت تصنيع 1500 دبابة حديثة في أقل من عام في مجمعها للصناعات العسكرية، وتضاعف إنتاج ذخيرة المدفعية والصواريخ بالغة الدقة وفرط الصوتية.
وهو ما يزعج الغرب من العجز عن تحمل تكلفة حرب استنزاف طويلة، ولهذا لجأت إلى كل هذا الضجيج والحشد غير المسبوق في محاولة لتخويف روسيا من المضي في الحرب، وردع هجوم الربيع الذى استعدت له بحشد 300 ألف مقاتل، جاهزين للاندفاع في عمق الأراضي الأوكرانية. أما السبب الثاني للانزعاج الأمريكي والأوروبي فكانت نتائج زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج، التي تجسدت في شراكة إستراتيجية دائمة، تفوق التحالف، رغم أنها تركزت على التكامل الاقتصادي، فإنها أكدت أن الصين وروسيا تواجهان خصما مشتركا، وأنهما تقفان «ظهرا بظهر»، وأثارت جملة الوداع التي قالها الرئيس الصيني وهو يصافح نظيره الروسي الكثير من القلق عندما قال بينج: «إن هناك تغييرات لم يشهدها العالم منذ مائة عام، وعندما نكون معا سنقود هذه التغييرات»، فتلك الكلمات القليلة للرئيس الصيني تحمل في طياتها معانى كثيرة، وتتوقع انهيار الهيمنة الغربية على العالم، وأن ما يحدث في الساحة الدولية يفوق في تداعياته نتائج الحرب العالمية الثانية، وأن التحالف الروسي الصيني ستكون له الكلمة العليا عقب تلك المتغيرات، ولا تخفى الولايات المتحدة صدمتها من العلاقة الحميمة بين الدولتين الأكثر خطرا على مكانة الولايات المتحدة، وإذا كانت كل قدرات حلف الناتو لم تتمكن من ردع روسيا، فالمؤكد أنها ستعجز عن مواجهة الصين وروسيا معا، وبدلا من استيعاب الوضع العالمي الجديد تتجه الولايات المتحدة وأوروبا إلى تصعيد لا يمكن أن تحتمل نتائجه، لكنها أيضا لا تبدو قادرة على تجنبه، وكأن الغرب يسير نحو مصير محتوم لا فكاك منه، فالاعتراف بتراجع القوة الأمريكية والأوروبية سيعنى أن تتخلى طوعا أو كرها عن سلوك وخطاب الهيمنة، وأن تعترف بأنها لم تعد قادرة على تحدى القوى الصاعدة، لا على المستوى الاقتصادي، ولا العسكري، ولن تكفى قوتها في الدعاية والسيطرة على المؤسسات الأممية لإنهاء الصراع لمصلحتها، فهل تختار الولايات المتحدة وحلفاؤها المجازفة بما تبقى لديها من أوراق قوة، حتى لو بلغت حد الصدام المباشر، الذى سيشرع السلاح النووي؟ أم ترضخ لحقيقة أن الأوضاع تغيرت، وتجنح إلى حوار تعترف فيه بنهاية عالم القطب الواحد؟ وحتى الآن لا يبدو أن الولايات المتحدة وأوروبا مستعدتان للإذعان، والتعايش مع عالم جديد تشكل بالفعل، ولم يعد بالإمكان إنكاره.