Menu

في ذكرى يومِ الأرض: الأرضُ وطنٌ وهُويّة!

م. تيسير محيسن

نشر هذا المقال في العدد 48 من مجلة الهدف الإلكترونية

شكّلت "الأرضُ" في السرديّة الفلسطينيّة نقطةَ ارتكازٍ أساسيّة؛ فهي الوطنُ السليب، والأمُّ الأسيرة، والحبيبةُ المغتصبة. هي عِرْضُنا؛ أي كلّ ما يُوجبُ إراقة الدم ذودًا عنه، وهي "المكانُ" الذي اقتلعنا كرهًا منه، ونسعى للعودة إليه رغم أنف الغاصبين؛ لكلّ ذلك، نحتفل، نحن الأبناء والأحفاد، بيومها النضالي منذ 47 عامًا، تأكيدًا على كلّ المعاني والدلالات التي انطوى عليها ذلك اليوم، وشحذًا لهمم الدفاع عنها، والحفاظ عليها، واسترداد ما سُلب منها.

يصادفُ يوم الثلاثين من آذار من كلّ عامٍ ذكرى "يوم الأرض"، الذي جاء بعد هبّة فلسطينييْ 48، ضد الاستيلاء على الأراضي، والاقتلاع، والتهويد، تأكيدًا على انتمائهم وهويتهم وتشبثهم بوطنهم وأرضهم. بمناسبة الاحتفال بذكرى هذا اليوم، سوف أتوقّف عند بعض معاني الأرضِ ودلالاتها بالنسبة لنا، وموقعها من مجمل مشروعنا الوطني. ولأنّ الحرب علينا ما زالت متّصلة، زمانًا ومكانًا، وغلاة الصهيونيّة، الذين تربّعوا على عرش "كيانها" حكومةً يمينيّةً فاشيّة، يعلنون أنّهم إنّما جاؤوا ليحسموا أمرنا، بالقتل أو الطرد أو السماح بالبقاء أذلّاء مهانين فوق تراب وطننا، ولكن تحت نعالهم.. ولأنّ الأمر كذلك، فالماردُ الفلسطينيُّ يصحو من غفوته، والحصان الأصيل ينهض من كبوته، ويخرج من نفق الوهم طاردًا الجبن والكسل ليعيد للأرض اسمها ومجدها! وليجدد عهد الوفاء والعهد "لن نغفر ولن ننسى"، و"إنا هنا باقون"، و"سنطردهم من هواء الجليل".

ومنذ النكبة، شكّلت الأرض، لفظًا ومعنى، الضلع الثالث في لازمة الخطاب السياسي والعاطفي للفلسطينيين كلّهم: الأرض، العودة، الحريّة! ومعًا شكّلت مضمون هُويّتهم، وجوهر مشروعهم الوطني. الأرض هي الوطن. لأنّ أوّل ما يفعله الاحتلال أو الاستعمار هو سلب الأرض والاستيلاء عليها، علاوةً على قتل سكّانها أو تشريدهم. وعلى عكس التجربة الحداثيّة الغربيّة، فوعي الإنسان بذاته في بلادنا جاء إثر وعيه بوطنه الذي اقتلع منه وشرّد عنه. الأرض، أو الوطن، أو فلسطين كلّها أسماء تحملُ معنًى واحدًا: لحظة وعي الفلسطيني بذاته حينما سُلبت منه ذاته! فظل يبحث عنها، ويحلم بالعودة إليها، ويقسم أن يموت دونها وأن ينتقم من مغتصبيها! ومن شدة طغيان هذا المعنى، ديست إنسانيّة الإنسان، وانتهكت كرامته في كثيرٍ من الأحيان بحجة الكفاح من أجل تحرير الأرض. غاب البعد الإنساني والمجتمعي عن مشروع الفلسطينيين طويلًا، حتى تبدّت عيوبه مع أول سلطةٍ تنشأ على جزءٍ من "الأرض". وربّما هذا ما جعل بعض الفصائل تحملُ شعار "تحرير الأرض والإنسان" الذي قلّما طبّق في الواقع.

 

ويفسّر البعض أنّ الفلسطيني ما بعد النكبة، في مواجهة الشتات والتشتيت، كان في حاجةٍ إلى بعث شخصيّته الوطنيّة ولملمة شتاتها، فكان الوطن، أو الأرض المسلوبة، تمثّل توجّهًا عامًا ومشتركًا، لتعزيز الوقوف في وجه استعمارٍ يهدّدُ بالزوال والإحلال، بما حملته من محتوى ثقافي وتاريخي وديني، وبما تمثّله من فضاءٍ جغرافيٍّ "مكاني" يجسّد بواكير الوعي بالذات الجمعيّة في مواجهة الآخر. هذا الوعي الذي ارتبط عضويًّا بفكرة المشروع الوطني طغى على كل ما عداه من مفاهيم من قبيل الحرية والمواطنة وحقوق الفرد. ولعلنا في حاجة إلى بعض التصويب (بعد 7 عقود على النكبة وإبان خطر داهم بنكبة جديدة): إعادة تركيب الهرم على قاعدته السليمة، إعادة الاعتبار للإنسان الفلسطيني قيمةً في ذاته، تجسد الكيان في سياقه التاريخي والثقافي والسياسي العام. وهنا يصبح مفهوم الوطن متصلًا بالأرض وبالإنسان. وعلى هذا النحو، تحافظ العملية التاريخية المسماة "بناء الأمة" على مجراها ومسيرها النضالي؛ انطلاقًا من تدوير البُنى العضويّة، وإعادة الاعتبار للفرد الحر، وليتحقّق، من ثمَّ، العقد الاجتماعي أساسًا للسيادة وقيام الدولة - الأمّة.    

المعنى الآخر للأرض، الذي سوف نتناوله هنا، الطبيعة ومواردها ومناظرها، ومن ثَمَّ التفاعل البشري معها، وما تولد منه، ونجم عنه، من جغرافيا وتراثٍ وثقافةٍ وطقوس، وحضارات تبدلت وتغيرت بتبدل العصور والأزمان. ومع هذا التبدل اختلفت خصائص العلاقة بين الإنسان والأرض. في هذا الصدد، كانت الأرضُ بالنسبة للفلسطيني قاعدة الإنتاج الأساسية، ولما فقدها، كاد أن يفقد ذاته ومصيره، لولا أن استعاض عنها مؤقّتًا بمنظومةٍ قيميّةٍ وثقافيّةٍ ورمزيّةٍ ساعدته على الصمود والنضال، لكنّها بدت تذوي في الآونة الأخيرة مع تشقّق الهُويّة، وطول فترة النضال، وفشل نموذج "الحكم الذاتي" واشتداد الهجمة الصهيونية في آخر تجلياتها الفاشية.

غني عن القول: إنّه مع اغتصاب الأرض بوصفها "طبيعة" يتمُّ مصادرة نمط الحياة السائد بأبعاده الاجتماعية والاقتصاديّة والثقافيّة والتحكّم في "جسد وروح ونفس وعقل" سكانها أو من يتبق منهم إلى أن تندلع شرارة التمرّد. ولذلك تعدُّ سياسة "نزع الملكية" بمثابة نزعٍ للروح بالمعني الأنطولوجي، بما تؤدي إليه من تغييرٍ جوهريٍّ في السمات الاجتماعية والتقليدية والثقافية لمالكيها الأصليين، والاعتداء على عالم المعنى الذي تمثله الأرض وتدميره، وإيجاد واقعٍ يسهل على قوى الاحتلال أو الاستعمار التعامل معه بما يخدم أهدافه ويعزز بقاءه.

ثمّ إنّ الأرض ثقافةٌ وهُويّة؛ حيث الارتباط بها والانتماء إليها يتحققان بالعمل فيها والتفاعل معها وتوليد رموز ومعاني وطقوس شكلت متن الثقافة الفلسطينية ومرتكزاتها عبر أجيال تتوارثها جيلًا بعد جيل. الارتباط بالأرض بالنسبة للفلسطيني شكّل صورته لذاته وعلاقته بالآخرين وكذلك جوهره وتاريخه وذاكرته الجمعية؛ ولهذا قدّر الصهيوني أنّ الاستيلاء على الأرض يضرب الهُويّة والكيانيّة والوجود، ويصبح الفلسطيني مجرّد "كائن" بيولوجي فائضٍ عن الحاجة، منقطع الجذور؛ فيسهل طرده أو التحكّم فيه أو استغلاله. هذا ويعدُّ بعض المهتمين أن استعادة الذات الفلسطينية بما هي عمليّةٌ سياسيّةٌ وثقافيّةٌ لا تكون إلا بالعودة إلى الأرض وثقافتها ومدلولاتها الرمزية والفعلية ومنظومة القيم المرتبطة بها والمنبثقة عن التمسك بها. ولذلك، ليس غريبًا، أن يستند بعث الهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة في جانبه الثقافي على الأقل إلى الرموز والإشارات والقيم المرتبطة بالأرض، التي شكّلت على مدار سنوات النضال مادّة لشحذ الهمم وحماية الرواية الفلسطينيّة وترويجها بالأدب والغناء والشعر والمسرح.

منذ البداية، كانت الأرضُ وما زالت الهدف الأوّل للمشروع الصهيوني، الذي انطوى على عمليتين: اقتلاع وتشريد (نزع ملكية واحلال). اليوم، تواصل سلطات الاحتلال سياسة التجزئة والتفتيت في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وما تنطوي عليه من استيلاءٍ على الأراضي، وتوسيع الاستيطان وتقييد الحركة ومنع الوصول إلى الموارد، وتصاعد عنف المستوطنين، ومواصلة حصار غزة وعزل القدس ، بما يرقّ إلى مستوى "جرائم ضد الإنسانيّة".

في أعقاب تشكيل حكومة اليمين الفاشي بزعامة بنيامين نتنياهو، تفاقمت الأوضاع وتسارعت وتائر التصعيد وتزايدت حدة الاعتداءات: تقييد حرية تنقل الأفراد والسلع عبر الحواجز ونقاط التفتيش الثابتة والمتحرّكة، مواصلة بناء جدار الفصل العنصري الذي يفصل آلاف الفلسطينيين عن أراضيهم الزراعية؛ ويعزل 11 ألف مواطن يعيشون على الجانب الغربي منه، كما تواصل سلطات الاحتلال تقييد حرية البناء في القدس ومناطق "ج" وتهدم عشرات ومئات البيوت والمنشآت بحجة عدم الترخيص.

إلى ذلك، واصلت سلطاتُ الاحتلال توفير الأمن، والبنية التحتية، والخدمات لنحو 700 ألف مستوطن في الضفة الغربية (179 مستوطنة)، بما في ذلك شرقي القدس. هذا وتنتشر هناك 220 بؤرةً استيطانيّةً بالإضافة إلى 20 بؤرةً رعويّةً؛ بهدف السيطرة على أوسع مساحة من الأراضي، وتحويل الضفة إلى معازل. هذا وتتعرض القدس لعملية تهويدٍ ممنهجةٍ ومتسارعة. حين انتخب أرييل شارون رئيسًا للوزراء (2001) أعلن: جئت لاستكمل المرحلة الثانية من المشروع الصهيوني، كان يقصد ضم الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها، وهو ما انطوت عليه خطة الفصل والانطواء. بالمقابل، ظل الفلسطيني على موقفه: لا شيء يعادل، عنده، الأرض والعودة إليها سوى الموت في سبيلها فكان الرد على شارون ومن تلاه، بالرغم من الوهن والانقسام، ما نراه اليوم من تضحية وفداء. وهذا ما يؤكده سنويًّا إحياء ذكرى يوم الأرض، حدثًا كفاحيًّا ودلالةً رمزيّة، رفضًا للتذويب والتفتيت والإنكار!

منذ 67، بذلت جميع حكومات إسرائيل جهودًا كبيرةً في مشروع الاستيطان وتوسيعه، سواءً من حيث مساحة الأرض أو من حيث عدد السكان، معتمدةً أسلوب العنف المباشر وغير المباشر، الرسميّ وغير الرسميّ، وهو ما مكّنها من التملّص من الإدانة الواسعة: احتفظت بمساحةٍ معتبرةٍ من الإنكار والادّعاء بأنّ المستوطنين وليس الجيش وليس أي مؤسسة رسمية تابعة للدولة (تؤكد الوقائع أن دولة الاحتلال هي ذاتها دولة المستوطنين، وأن عنفهم هو عنفٌ منظّمٌ وممأسس، وتتم ممارسته وفقًا لاستراتيجيّةٍ محدّدةٍ وموجهةٍ نحو هدف: الاستيلاء على أكبر قدر من الأرض دون سكانها).

تصرفت دولة الاحتلال مباشرة بعد حزيران 67، وفق "خطة ألون"، التي أوصت بإقامة مستوطنات في مناطق ذات "أهمية أمنية" وحيث كان السكان الفلسطينيون متناثرون (الغور، جبل الخليل والقدس الموسعة)، ومع وصول الليكود إلى السلطة 1977، أقيمت مستوطنات في جميع أنحاء الضفة الغربية، بالاستناد إلى اعتبارات أمنية وأيديولوجية. هذا ولم توقف مسيرة "التسوية" مشروع الاستيطان بل شكلت غطاء له.

المرحلة الثانية من المشروع الصهيوني تعني ضم أجزاء واسعة من الضفة لأسباب توراتية مزعومة وأخرى جيوسياسية واستراتيجية وأمنية وبالطبع للحصول على مصالح اقتصادية مؤكدة، وفي سبيل ذلك: يستمر مشروع الاستيطان بغض النظر عن الانتهاك الفظ والواسع لحقوق الفلسطينيين (تقرير المصير، الحق في المساواةـ، الحق في الملكية، حرية التنقل..). تطور إسرائيل آلية قانونية بيروقراطية معقدة لتسهيل السيطرة والاستيلاء ونزع الملكيات، التحكم في منظومة تخطيط وإدارة الأراضي حتى تغيرت خارطة الضفة في غضون بضعة سنوات فقط. إن التغيير المتطرف الذي أدخلته إسرائيل على هذه الخارطة يمنع أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ومستدامة في إطار ممارسة حق تقرير المصير.

وحين اعتقد العالم أن مشروع الانطواء قد انطوى مع صاحبه "شارون"، وأن مشروع الضم قد أسقط بمقايضة مع التطبيع، تقول الوقائع اليومية أن الحرب على الأرض (بوصفها وطنا وطبيعة وثقافة وهوية) مستمرة وتزداد ضراوة في الضفة الغربية تحديدا، فعملية نزع الملكية تتواصل وعملية نزع الشرعية (إسكاتنا وكتم أصواتنا)، تجد آذانا صاغية من مجتمع دولي متواطئ أو منشغل بقضاياها المعقدة والمستجدة، علما أن إسرائيل ترتكب جرائم ضد الإنسانية في رابعة النهار، ودون خشية من عقاب أو حتى مجرد إدانة!