إنّ قضيّةَ العلاقةِ بين الوطني والاجتماعي في تاريخ الحركة النسوية الفلسطينية وتناوُلَها، وما أثير حولها من نقاش من قبل العديد من الباحثين والكتاب في دراستهم للتغيرات التي أصابت الحركة النسوية ما بعد اتفاقيات أوسلو ونشوء سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود على أقل 22% من فلسطين التاريخية؛ ما تزال قضيّةً راهنةً وحاضرةً باستمرار، خاصةً أنّنا لم ننجز بعدُ أيًّا من القضيّتين المرتبطتين بها، وأقصد التحرّر الوطنيّ والتحرّر الاجتماعي، حيث يحتاج الأمرُ من كل المهتمين: باحثين – سياسيّين – كتّاب وطنيّين تقديميّين جذريّين أن يقفوا أمامها بالنقاش الفكري والسياسي الذي يستحق، وهنا ارتأيت أن أسهم في هذا النقاش من خلال، مادة مستلّة من كتابي المعنون: (المرأة الفلسطينية والرواية بين زمنين: أوسلو والمقاومة)*، الصادر عام 2017، حيث ما تزال تحتفظ بجوهرية ما جاء بها حول الموضوع المحدّد، قيد النقاش.
في العلاقة بين الوطني والاجتماعي:
مثلّما تطوّرت الحركة النسويّة من الدور الإغاثي- باعتباره دورًا اجتماعيًّا بالأساس- إلى الدور الوطني، حدث تطوّرٌ على فهم المرأة لدورها الاجتماعي أيضًا في المرحلة ما بعد عام 1967 والمرحلة ما بعد اتفاق أوسلو.
يقدم غازي الخليلي وصفًا واقعيًّا مؤثّرًا لدور المرأة في العمل المسلّح دفاعًا عن المقاومة الفلسطينيّة في لبنان، خاصّةً في تل الزعتر، ويقرّر أن "الخط العام للثورة الفلسطينية كما تبلور في السنوات الأخيرة - يعني أواسط السبعينات - يؤكّد على اشتراك المرأة في جميع المجالات النضاليّة والسياسيّة والتعبويّة، وتجنيد طاقتهن لخدمة المعركة."[1] ويضيف أن هذا الدور ارتبط بكفاءة المرأة وجدارتها. ويعدد الخليلي "مهام المرأة" ابتداءً من القتال والقيام بالعمليّات العسكريّة وتعبئة الرجال والنساء وتنظيمهما، مرورًا بإعداد الطعام للمقاتلين والإسعاف، وصولًا لإدارة المكاتب والمؤسّسات؛ دون أن يتجاهل على أية حال واقع التجريبيّة في سلوك فتح فيما يتعلّق بالمرأة، أو التناقض القائم بين الطرح النظري الرسمي للجبهة الشعبيّة لقضيّة المرأة والممارسة الفعليّة[2].
فالطرحُ الاجتماعيُّ كما يشير الخليلي، كان نظريًّا أكثر منه برنامجًا اجتماعيًّا، رغم ما يؤكّده من أن هذا الطرح كان مبكرًا، مشيرًا لثلاث مقالاتٍ فتحاويّةٍ مبكّرةٍ طرحت المسألة الاجتماعيّة [3].
وما يمكنُ استنتاجُهُ من رصد الخليلي المبكّر للوطنيّ والاجتماعيّ هو الآتي:
- طغيان الاعتبار الوطني على الاعتبار الاجتماعي في مشاركة المرأة في المقاومة الفلسطينيّة، على قاعدة الرغبة بتعبئة الشعب بفئاته كافةً في المعركة المسلّحة ضدّ الاحتلال الصهيوني، دفاعًا عن المقاومة في وجه الاعتداءات على حقّها بالوجود والقتال عبر الدول العربيّة (لبنان والأردن تحديدًا)؛ دون نسيان حقيقة أن هذه المشاركة الوطنيّة عزَّزت الطابع الشعبيّ - الديموقراطيّ للمقاومة، وطرحت النساء قوّةً اجتماعيّة.
- دور المرأة الاجتماعي تحديدًا كان يتأتى من المشاركة ذاتها في المقاومة المسلّحة ونتيجةً لها، باعتبار أن تلك المشاركة كانت توسّع من الحيّز العام للمرأة - حيّزًا مقاومًا - على حساب الحيّز الخاص، وتطرحها قوّةً اجتماعيّةً في المقاومة، إضافةً للقوى الأخرى المشكلة للحركة.
- كانت مكانة المرأة ودورها - قوةً اجتماعيّة ذات خصائص محددة - تطرح نظريًّا في برامج القوى دون أن يعنى هذا تلازم الطرح النظري البرنامجي مع الممارسة الفعليّة أو مع القناعات السائدة.
- التوجّه نحو تعزيز مكانة المرأة كان براغماتيًّا تتطلبه المعركة أكثر منه قناعة أيديولوجية - على الأقل بالنسبة لحركة فتح - (الخليلي، مرجع سابق).
ريادة دور المرأة قبل أوسلو ولوثة الأجندات والتمويل بعده:
أما داخل فلسطين فكانت الصورة مختلفةً بعض الشيء؛ فالتأطير الواسع للنساء في الأحزاب والمؤسسات واللجان الشعبية، والمشاركة الميدانية في فعاليات النضال الشعبي، والانخراط في تشكيل التعاونيات الإنتاجية، وتشكيل الفروع الريفية للمنظمات النسائية، والتضحيات النسوية، إن كانت اعتقالًا أو جرحًا أو استشهادًا أو معاناة يومية... كل ذلك نقل دور المرأة الاجتماعي والسياسي نقلة نوعية، وتعمقت أكثر الصلة بين الدور السياسي بالمفهوم الحصري (مقاومة الاحتلال) والدور الاجتماعي (الإنتاجي والاقتصادي)[4].
وتؤكد آيلين كتَّاب في دراستها هذه حول المرأة والانتفاضة الأولى على الأهمية الكبيرة للتعاونيات الإنتاجية التي شكلتها النساء بمبادرة من القوى اليسارية، ناقدة بذلك تحليل من أسمتهم "بعض الأكاديميات" اللواتي يشككن في تأثير الأفق التقدمي على المضمون الاجتماعي لهذه التعاونيات[5].
لذلك يصح وصف الانتفاضة الأولى نقطةَ تحوّلٍ مهمّة على صعيد دور المرأة الاجتماعي ومكانتها. ففي هذه المرحلة تبلورت الكادرات والقيادات النسوية، وتعمّقت خبرة العديد من النساء في الحقول الاجتماعيّة والسياسيّة والتنظيميّة، وتحوّلت إلى قوّةٍ اجتماعيّةٍ ذات حضورٍ في الحركة الشعبيّة الفلسطينيّة ببعديها الوطني والاجتماعي. وكان لا بدَّ لكلّ ذلك أن يترك تأثيره على وعي النساء للمسألة الاجتماعية (بالمعنى الحصري)؛ فنشطت النساء في التثقيف الاجتماعي التقدمي الذي يطرح قضايا المرأة ببعديها الوطني والطبقي.
إنّ كل هذا لم ينتج فقط من تأثير الانتفاضة، بل ومن طابع عمل وبرامج وتعبئة المنظمات النسوية منذ مطلع الثمانينات، ومن حقيقة "تشكيلها على قاعدةٍ فكريّةٍ ديموقراطيّةٍ تنطلقُ من الفهم الجدلي للتحرر الوطني والديموقراطي وما يترتب عليه من ترسيخٍ للمساواة والعدالة الاجتماعيّة"[6].
نستنتجُ من كل ما سبق أن الانتفاضة الفلسطينية، قد أرست بداية التوازن المطلوب بين الدور الاجتماعي والوطني للمرأة[7]. ولكن هذا التوازن سرعان ما تضعضع بفعل التطور الحاصل في الحركة النسوية ما بعد أوسلو ونشوء السلطة الفلسطينية كما مرّ سابقًا؛ إذ جرى التركيز على المسألة الاجتماعية بمفردات جديدة (النوع الاجتماعي، حقوق النساء، القوانين، الأحوال الشخصية، المشاركة في مواقع القرار...) بمعزل عن البعد الوطني - الديموقراطي، فيما بدأ يترنح أكثر فأكثر الطابع الشعبي للحركة، وتهتكت العلاقة بينها وبين الحزب، وتأسست المنظمات ذات الطابع النخبوي المعتمدة على التمويل الخارجي، وتراجع كثيراً دور النساء السياسي في مقاومة الاحتلال. وقد عرَّجت آيلين كتَّاب ونداء عواد على هذه المظاهر بالتفصيل[8]، وإن كانت "كتَّاب" افتقدت القدرة على التقاط ما للتمويل الخارجي من أثرٍ على بنية وبرامج المؤسسات النسوية الجديدة ما بعد أوسلو[9]. وكل هذا عنى طغيان الطابع الاجتماعي بشكل مشوه، وعبر أجندات لا تتفق دائمًا ومتطلبات إعادة بناء حركة نسوية فاعلة اجتماعيًّا ووطنيًّا.
* كتاب (المرأة الفلسطينية والرواية بين زمنين: أوسلو والمقاومة) الصادر عن دار الفارابي في بيروت في العام 2018 للباحث وسام رفيدي، وهو بالأساس رسالة ماجستير في علم اجتماع الرواية من جامعة بيرزيت.
[1] - الخليلي، غازي. المرأة الفلسطينية والثورة - دراسة اجتماعية ميدانية تحليلية. بيروت-لبنان. 1977. ص 111
[2] - مرجع سابق: 115-130
3- مرجع سابق: 117
[4] مشاكل المرأة الفلسطينية في الانتفاضة. في الانتفاضة مبادرة شعبية- دراسة لأدوار القوى الاجتماعية (إعداد) مجموعة من الباحثين. دون دار نشر.1990.
[5] Hiltermann, Joost R. Behind the Intifada. Princeton University Press.USA. 1991.
[6] - كتاب، آيلين وعواد، نداء. الحركة النسوية الفلسطينية: إشكاليات وقضايا جدلية. معهد دراسات المرأة- جامعة بيرزيت. فلسطين. 2003. ص 99
[7](Hiltremann215 ص مرجع سابق
[8] - استندت كتاب وعواد في بحثيهما المشترك في الوصول للاستنتاجات أعلاه على منهجيتين: تحليل مضمون البرامج النسوية للمؤسسات ومقابلات موسعة مع قيادات العمل النسوي في فلسطين.
[9] كتاب وعواد مرجع سابق