في البحث عن جذور الخلاف السعودي – الإيراني، فهو بالمعنى السياسي خلاف قديم نشأ مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، والتي أطاحت بشرطي الخليج الإمبراطور الشاه محمد رضا بهلوي آنذاك، هذا الخلاف كان ممتداً في حوادثه ومفاعيله عل مدار أكثر من أربعة عقود ونصف من الزمن، وخضع لجولات وسياقات حادة أو هادئة حيث جرت فيها أحداث وتطورات خلافية كانت تعمّق هذه الخلافات وتطيل زمنها...
إن طبيعة هذا الخلاف بالأصل استند إلى "تجربة سياسية" في كلا البلدين، ولم يكن يستند إلى مرجعية أيديولوجية (شيعية – سنية) فالخلاف العقائدي استحضر عنوة مجاراة للسياسة واستحقاقاتها في الصراع، فانتصار الثورة الإسلامية، فتح الباب لخلافات عقائدية (شيعية – سنية) لم تكن حاضرة في السياسة، بيد أن الخلاف السياسي استنطق الماضي واستدعاه، ليكون رديفاً إلى جانب السياسة في الخلاف، وكذلك الحال فإن استخدام السلاح العقائدي في السياسة قد أسهم بدوره في تأجيج الخلاف وتعميق وتوسيع مساحته في المنطقة وأحيا خلافاً ماضوياً منذ ألف وأربعمائة سنة، حيث أن الخلاف السياسي قد أوقد وأحيا الفتنة التاريخية من جديد، وتالياً استحضر حروباً وصراعات لا حصر لها، أنهكت المنطقة، ولم تزل تعاني من آثارها وتداعياتها، وأفسحت المجال إلى أعداء المنطقة أن تعبث في دولها ونسيجها الاجتماعي والسياسي...
وما قبل الثورة الإسلامية الإيرانية، لم تكن هناك "دولة شيعية" في المنطقة، إنما هناك شيعة في المنطقة، داخل الدول السنية في الخليج وغير الخليج، في حين أن الدولة الشيعية قد ظهرت عقائدياً مع انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية...
في ضوء هذا المتغير التاريخي بإنشاء دولة شيعية في المنطقة، بدأ التوجّس والقلق، وظهرت معادلة الصراع والتنافس على قيادة العالم الإسلامي، حيث تجلّى الخلاف إلى أسوأ وأخطر أشكاله السياسية، وأماط اللثام من جديد عن تلك الحقبة التاريخية من الخلافات (الشيعية – السنية) وتشكلها ومساراتها...!!
ولم تكن الحرب (العراقية – الإيرانية) إلا انعكاساً لطبيعة هذا التنافس والتوجّس، والتي بدورها عمّقت حدّة الخلافات، وقسمت المنطقة العربية، حيث تضامنت السعودية ودول الخليج مع العراق في حربه مع إيران، ووقفت دول على الحياد، ولكن الأمور أخذت في التصاعد عبر سلسة من الأحداث ساهمت في استمرارية الخلاف وتسعيره، حيث اقتحمت مجموعة إسلامية متطرفة المسجد الحرام عام 1987، واتهُمت إيران بأنها وراءها، كما قامت مظاهرات الحجاج الإيرانيين في موسم الحج عام 1987، ودارت اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين راح ضحيتها (412) حاجاً من الإيرانيين والشرطة السعودية، وفي عام 2011 جرت مظاهرات شيعية معارضة في البحرين ، على أثرها تحركت القوات السعودية، ودخلت إلى البحرين لحماية النظام من ثورة الشيعة، متهمة إيران بأنها وراء هذه الأحداث تحت منطق تصدير الثورة، مما صعّد الخلاف إلى خطوات أكبر، ولم يتوقف الأمر عند هذه الحدود، فقد أقدمت السعودية على إعدام (47) معارضاً سعودياً من الشيعة على رأسهم نمر النمر، ا لذي كان يحظى بشعبية واسعة في السعودية بين الشيعة، مما جعل الخلاف أكثر تصعيداً في مستوياته السياسية، وعلى إثر ذلك سارت مظاهرات إيرانية أحاطت بالسفارة السعودية في طهران، وتم إضرام النار في مبانيها، مما حدا بالسعودية إلى قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الدولة الإيرانية...
ومع اشتعال الأزمة اليمنية، لجأ الطرفين إلى استخدام الأزمة في تعزيز النفوذ والحضور في الأزمة، وأقدمت السعودية على شن حربها على اليمن متحالفة مع دول الخليج وغيرها، بالمقابل دعمت إيران ثورة الحوثيين في مواجهة هذه الحرب الظالمة، وانقسم اليمن، وتآكلت السلطة، واستولت الفوضى على مساحة اليمن، وتعددت السلطات، ولا زالت الحرب مستعرة صعوداً وهبوطاً، دون أن تحقق السعودية أياً من أهدافها، وفي سياق هذه الحرب جرت سلسلة من الحوادث في البحر الأحمر، طالت السفن وبعض المرافق في الخليج والسعودية، كانت استمراراً للأزمة التي أنهكت المنطقة، وسهلت الحضور الأجنبي فيها...
تلك كانت بعضاً من جذور الخلافات السياسية – السعودية – الإيرانية، والتي جاء الاتفاق الإيراني – السعودي الأخير ليوقف هذا الصراع، ويبشّر بإمكانية عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما بما تحمله من آمال لصالح المنطقة وشعوبها...
الاتفــاق وبعدُه الدولــي
ما الذي استجدّ بعد كل هذه الخلافات والحروب، وما هي موجبات وأسباب هذه العودة الميمونة، وترميم هذا القدر من الخلافات التاريخية...؟ وهل يمكن تجاوز هذه الخلافات العميقة والتاريخية التي أساءت إلى الوعي الإسلامي والقومي...؟؟
إن السياسة وموجباتها ونواميسها وحدها التي تجيب على هذه الأسئلة الشائكة، فالسياسية (كمصالح) لا تعرف العناد الإيديولوجي، ولا تعرف جمود المواقف، إنما تعرف الممكن لتحقيق تلك المصالح...
هذه هي المعادلة السياسية الجديدة التي أدركها الطرفين للعودة إلى الوضع الطبيعي في العلاقات بين دول المنطقة... فالعناد والمواقف الصلبة، لا تصمد أمام المتغيرات والتطورات المتسارعة أو البطيئة مما يجعل السياسة تلوي عنقها وتستجيب إلى تلك التحولات المحلية والإقليمية والدولية، بمعزل عن طبيعة هذه الاستجابة، هل هي إيجابية أم سلبية، إلا أنها بالمضمون بحثاً عن المصالح...
وما من شك أن هذا الاتفاق لم يكن ابن لحظته، فقد سبقه جولات خمس بالعراق وعُمان، ولكن إتمامه كان نتاج عدة عوامل، فهذا الاتفاق هو ( ابن ونتاج الجديد من التحولات بالعالم) ونتاج التراكمات من البحث عن حلول لهذه الخلافات...
أولاً: إن هذا الاتفاق ليس معزولاً عن المتغيرات الدولية التي لم تزل تضرب بعمق في بنية النظام العالمي الذي شاخ بحدود كبيرة، فالحرب الروسية – الأوكرانية، والذي تحولت إلى حرب روسية – غربية، قد أحدثت قلقاً عالمياً من تداعياتها على كل الصعد، مما يفرض على كل دول العالم بأن تبحث عن تموضع لها في لوحة الصراع القائمة، وتحدد المسافة بينها وبين الدول المتصارعة حيث يعيش العالم على وقع هذه الحرب مع أزمة بنيوية على كل المستويات السياسية والاقتصادية وغيرها، ولا مكان للدول الضعيفة أو الغائبة أو التي لا تستطيع أن تحدد بوصلتها، على خارطة العالم الجديد الذي بدأ يتشكل جراء هذه الحرب الكونية...
هذا الصراع العالمي وتجلياته السياسية والاقتصادية "الطاقة مثال" والتجارية، من الطبيعي أن تدفع البلدين الإيراني والسعودي إلى البحث عن مكان للتموضع المناسب في لوحة الصراع القائمة، ليس عسكرياً، وإنما سياسياً واقتصادياً وتجارياً، وأن يحدد كل منها المسافة اللازمة "المصالح المشتركة" مع قوى الصراع العالمية، حيث أدرك الطرفين أن مصالحهما تقتضي تسوية الخلافات للدخول إلى الحقبة العالمية الجديدة...
وحين تقوم الصين بدور الوسيط الفاعل والناجح والمؤثّر في إنجاز هذا الاتفاق، فهي تثبت جدارتها كقوّة عالمية صاعدة في مواجهة النظام العالمي الجديد، وتثبت أنها حاضرة في المنطقة والشرق الأوسط ولا أحد يستطيع عزلها أو حصارها...
كما أنها تبحث عن تموضع سياسي ومركزي في المنطقة، تدور في فلكه العديد من الدول بالشرق الأوسط والمنطقة، كما أنها ترى أن مشروع "الحزام الطريق" المشروع الأكبر والأضخم في العالم، والذي أطلقته منذ عام 2013 يحتاج إلى بيئة متوافقة ومتحالفة كي تفوز بإنجاز هذا المشروع الذي يربط آسيا بأوروبا وأفريقيا، ويحقق أكبر طريق تجاري بالعالم، بما يجعل الصين القوة الأولى عالمياً، ولما كانت السعودية وإيران دولتان مركزيتان في المنطقة ولهما نفوذها وإمكانياتهما المالية والاستثمارية، فمن الطبيعي أن ترى الصين فيهما مصلحة صافية لدورهما المستقبلي، بالإضافة إلى أن مبادرة "الحزام الطريق" تحتاج استقرار في دول المنطقة، كي يمر هذا المشروع بدعم من هذه الدول، وعليه فإن دور الصين لم يكن وسيطاً، بقدر ما كان رؤية ودور استراتيجي نرى فيه المصلحة العليا للصين...
ثانياً: إن الحرب التي شنتها السعودية على اليمن منذ عام 2016، برغم كل الترسانة العسكرية من طائرات قاذفة وصواريخ، لم تفضي إلى نصر يمكن الاعتداد به في مواجهة الحوثيين، ومع مرور الزمن تحولت إلى عبء سياسي وعسكري وأمني ومالي، غير قادرة على تحمّله أكثر من ذلك، فضلاً عن انصراف دول التحالف العربي عن هذه الحرب عملياً، وتجاهل المجتمع الدولي لها من جهة أخرى، كما وأنها أهدرت طاقات وإمكانيات لدى السعودية واليمن، هذه النتيجة على الأرض قد أوصلت النظام السعودي إلى أن هذه الحرب لا طائل منها، ولن تحقق ما توخته منها حين توهّمت على أنها قادرة على الحسم خلال أيام...
وعلى العكس من ذلك فإن مساراتها ونتائجها قد وضعت السعودية في مربعات الخطر وعدم الأمان، مما يدفعها إلى التفكير بمغادرة هذه الحرب مع حفظ ماء الوجه عبر اتفاق مع اللاعب الإيراني في معادلة الحرب، وعبر اتفاق فيه نكهة دولية برعاية الصين، ومن جهة أيضاً فقد ازداد النظام السعودي قناعة بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست الحليف الموثوق الذي يعطي كل شيء، حيث لم تتدخل لنصرته حين تعرضت المنشآت السعودية إلى القصف الصاروخي من قبل الحوثيين، مما أسهم في تعميق التوجّس والقناعة بأن الحليف الاستراتيجي ضرورة، لكن له حساباته المختلفة مع حسابات السعودية وسياساتها، حيث أصبح الأمريكان يتصرفون على قاعدة أن ولاء السعودية ولاءً مطلقاً ومضموناً في كل الظروف، وليس بالضرورة أن تستجيب أمريكا على كل مطالب السعودية ما دام ولاءها مضمون...
هذه القناعات المتولدة من طبيعة العلاقة مع الأمريكان والتبعية التاريخية، دفعت السعودية بأن تحدث خرقاً محسوباً ومحدوداً في علاقاتها مع أمريكا لجهة الانفتاح مع روسيا والصين دون المس "بالاستراتيجي" الذي يحكم العلاقة مع الأمريكان...
وهذا دفع السعودية لقبول الوساطة الصينية وإتمام الاتفاق مع إيران على العودة إلى العلاقات الطبيعية، وفي هذا ما يزعج الولايات المتحدة التي تعتبر أن إيران عدوها الأول في المنطقة، ولا يجب فك الحصار عنه تحت أي ظرف...
ثالثاً: من نافل القول أن السعودية قد فشلت سياستها في لبنان على الرغم من كل محاولاتها لمناصرة فريق على حساب فريق، وتنصيب نفسها حامية السنة في لبنان، وأنها عامل مقرر في السياسة الداخلية اللبنانية، كل هذا الحضور الطاغي لها في لبنان، لم يخلق لها قاعدة شعبية مؤثرة، ولا نخب سياسية فاعلة ومقررة، إنما كانت مشروع معرقل لنهوض لبنان ليس إلا، هذا الفشل دفعها إلى إعادة حساباتها في لبنان، وترتيب الأوراق من جديد، ولا يمكن أن يحدث اختراق في لبنان بدون اللاعب الآخر هناك وهي إيران...
تلك كانت أسباب دفعت السعودية إلى إعادة حساباتها والقبول بعودة العلاقات مع الدولة الإيرانية التي يصعب تجاوز دورها في المنطقة...
في ضوء هذا الاتفاق، تنتصب الأسئلة تباعاً أمام المحللين والسياسيين والإعلاميين، باحثة عن أجوبة لها، هل هناك ما يؤكد أن هذا الاتفاق سيأخذ طريقه إلى التطبيق...وتعود العلاقات الدبلوماسية بين البلدين؟
إن أغلب المحللين يميلون إلى التأكيد بأن هذا الاتفاق سيلقى قبولاً سياسياً وشعبياً بين البلدين، وفي دول المنطقة، وقد عكس الإعلام العربي بشكل عام هذه الرغبة في عودة العلاقات بين بلدين اسلاميين، بما يمكن أن يحمله هذا الاتفاق من انعكاسات إيجابية على دول المنطقة، لا سيما في لبنان، واليمن، والانفتاح على سوريا عربياً، وإفساح المجال لانتخاب رئيس لبناني متوافق عليه، وانفتاح سعودي خليجي على لبنان يخفف من أزمته الاقتصادية والمالية، وتحقيق مصالحه يمنية – يمنية تفضي إلى عودة اليمن دولة مستقلة ذات سيادة، أو البحث عن صيغة سياسية تنهي بداية الحرب القائمة...
وما من شك أن هذا الأزمات في لبنان، واليمن، وسوريا، من التعقيد بما يجعل حلها أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، ولكن عودة العلاقات بين إيران والسعودية، سيسهم بقدر ما على حلحلة هذه الأزمات وتعقيداتها، دون أن يكون هناك حلاً جذرياً بمدايات قصيرة...
ومن الطبيعي أن نلحظ، ويجب أن نلحظ أن العراقيل في مواجهة هذا الاتفاق ستوضع أمام تنفيذه، وأمام استحقاقه حتى حال تنفيذه فالولايات المتحدة لن تألوا جهداً لإفشاله وخلق كل العراقيل لوقف تنفيذه، وستحاول أن تجد لها دور معرقل في لبنان، وفي اليمن وسوريا وإيران...
وكذلك الأمر فإن هناك جهات سياسية وحزبية متضررة من هذا الاتفاق وستستخدم أسلحتها الإعلامية المتعددة، لا سميا فضائيات الفتنة التي ما زالت تبث سمومها ومواقفها الرافضة لأي تقارب بين البلدين...
وإذا ما أخذ هذا الاتفاق طريقه إلى التنفيذ، فإنه سيفتح الباب واسعاً لترميم العلاقات العربية – الإيرانية على أكثر من صعيد سياسياً واقتصادياً وتجارياً، وسيمهد الطريق لولوج المنطقة مرحلة من الهدوء النسبي، غير أنه لن يفضي على تغيير جذري من مواقف ثابتة إلى حدٍ كبير لدى إيران والسعودية، فلا إيران بصدد تغيير مواقفها من الولايات المتحدة، فموقفها العدائي المستمر من إيران والحصار المفروض عليها منذ عقود، لن يسهم بأي شكل من الأشكال بتغيير المواقف، والأمر ذاته فإن الكيان الصهيوني لا زال يعتبر أن الخطر والتحدي الأول يتمثل في الدولة الإيرانية ومسعاها في تطوير برامجها النووية، ودورها المحوري في تعزيز محور المقاومة، وعليه فإن هذا الاتفاق لن يحدث أي تغيير من الكيان الصهيوني، أو من حور المقاومة أو حزب الله بالتحديد، فهما يشكلان القوة السياسية والميدانية لإيران التي تتحرك بواستطهما في المنطقة، فضلاً من أن تلك المواقف أخذت طابعها السياسي والاستراتيجي والعقائدي لا سيما الموقف من القضية الفلسطينية، فلا مجال لممارسة أي تغيير عليها...
كذلك الحال ليس هناك أي احتمال بتغيير الموقف الإيراني من العلاقة التحالفية مع سوريا، فالتفكير الجيوسياسي لدى إيران، لا يضحّي بالساحة السورية لمجرّد اتفاق تعود فيه العلاقات الدبلوماسية...
والأمر ذاته فإن السعودية، لن تغير مواقفها بالمطلق من إيران، واستشعارها بالخطر أو التوجّس، المستمر من النفوذ الإيراني، لكنها ستسعى إلى ترميم علاقاتها مع إيران قدر الإمكان لتخفيف هذا الخطر، سيما في منطقة الخليج حيث حاجتها إلى الأمن في منطقة البحر الأحمر والخليج العربي.