Menu

المصالحةُ السعوديّةُ - الإيرانيّةُ في الميزانِ العربيّ

محمد أبو شريفة

نشر في العدد (48) من مجلة الهدف الرقمية

منطقةٌ شائكةٌ تلك التي يقتربُ منها صنّاعُ السياسة الدوليّة، فالموضوعُ الذي اختارته الصين لنسج رواية المصالحة السعودية الإيرانيّة يمسُّ بصورةٍ مباشرةٍ صلبَ تعقيدات المنطقة، ويستعيد الجدل في تاريخها، والتساؤل حول جدوى الريادة والقيادة الخاضعة لمنطق موازين القوى وصراعات النفوذ التي استنزفت الكثير من الأنفس والدماء والأموال والإمكانيّات، فالواضحُ أنّ الصين قد استخدمت أدواتٍ عصريّةً متوازنةً بين مختلف شركائها في الشرق الأوسط  ليتمَّ التمهيد والتعامل مع هذه المصالحة وفقًا لمتطلّبات قواعد السياسة والاقتصاد، وبالرغم من تاريخ العلاقة المركّبة التي تحكم الخصمين، وما تحتويه من تنافرٍ وتلاقٍ وتداخلٍ وتباعدٍ وصداقةٍ وعداوة، إلا أنّ الأمرَ يتّضح من بعيدٍ بشكلٍ مغايرٍ سيّما إذا غصنا في الأعماق، حيث التداخلُ بين الطرفين أقوى وأعمق ويتموضع تارةً هنا، وتارةً هناك، وحيث يتقاسم الطرفان المغنم والمغرم بمستوى من المستويات.

في يوم الجمعة 10 آذار/مارس 2023، وفي العاصمة الصينيّة بكين تصافحت الرياض وطهران بعد خلافٍ استمرَّ أكثرَ من سبعة أعوام، هذه المصافحة التي تمّت بين الأدميرال علي شمخاني، رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، ومساعد بن محمد العيبان، مستشار الأمن القومي السعودي برعاية ووانغ يي وزير الخارجيّة الصيني كانت إيذانًا لإحياء العلاقات الدبلوماسيّة الطبيعيّة، وإعادة فتح سفارتيهما في غضون شهرين وعبّر الاتّفاقُ عن استئناف تبادل المصالح بين البلدين، وعلى كلّ الأصعدة.

فهي علاقةٌ ممتدّةٌ منذ عقود، وتمرحلت وتذبذبت في محطّاتٍ عدّة بين وصلٍ وقطعٍ، لكن تمّت استعادتها واستمرارها عام 1991، وحتى مطلع عام 2016، حينها قطعتها الرياض بعد الهجوم على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران.

إذن، هو اتّفاقٌ ينهي حالة العداء المضنى ويفتح الباب لمقارباتٍ جديدةٍ في العلاقة السعوديّة الإيرانيّة. فالاتّفاق من حيث المكان الذي تمَّ فيه الإعلان عن ولادته يعدُّ صدمةً لجميع المراقبين، فالحكومةُ الصينيّةُ لم يعرف عنها القيام بنشاطات ذات طابعٍ تصالحيٍّ بين الدول، فهي على الدوام ميّالة إلى الهدوء والانطواء، والواضح أنّها سعت دون ضجيجٍ وأضواءٍ ومنابرَ إعلاميّةٍ لإنجاز ذلك عبر مباحثاتٍ سريّةٍ أشار إليها الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال زيارته إلى السعودية في نهاية العام المنصرم، وأيضًا ألمح لها خلال استقباله الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في بكين الشهر الفائت شباط/فبراير2023. وأكّد أنّ الصين باتت قوّةً عظمى أساسيّةً في الشرق الأوسط وفاعلًا دبلوماسيًّا يحسبُ له حساب.

 أما الطرفان المتصالحان السعودي والإيراني فلكلٍّ منهما دوافعُهُ في التقارب ونبذ الخلافات، أبرزها مراقبة مجريات الأحداث في الإقليم وتطوراتها المتسارعة، التي من الممكن أن تسفر عن مغادرة الولايات المتحدة الأميركية لموقعها، وإن كان ذلك بشكلٍ تدريجي، والدافع الآخر يكمن بالحضور الصيني القوي على المسرح الدولي والقدرة على حماية وضمانة المصالحة ضمن رؤيتها الاستراتيجية في استثمار الفراغ الذي قد يحصل نتيجة تراجع النفوذ الأميركي إلا أنّ هذا القول حاليا ووفقًا للظروف الراهنة قد لا يحمل في طياته أي معنى ودلالة فالهيمنة الغربية كانت وما تزال فاعلة ومن هنا يمكن القول بأن الأطراف الثلاثة في بكين أرادوا إرسال رسالة واضحة للجميع مفادها أن الدول الكبرى والإقليمية يمكنها أن تؤسس وحدها لرؤية جامعة خارج النفود الأميركي الغربي فكما هو معلوم فإن الصين معنية بتصالح القطبين السعودي والإيراني لأسباب جيوسياسية فالاستقرار في منطقتنا يعني دوام واستمرار الآلة الصناعية الصينية في أسواقنا العربية والإقليمية وتأتي ضمن رؤية مبادرة "الطريق والحزام" أو طريق الحرير الممتد من بكين ليصل شواطئ المتوسط مرورًا بمياه الخليج ولهذا فإن الصين معنية بترتيب أوضاع كل الدول في المنطقة، وأشارت الحكومة الصينية أن مسعاها جاء تعبيرا عن رغبتها بإنهاء كل النزاعات في المنطقة، وخارج حدود الهيمنة الأميركية.

وكان إعلانُ بكين عن المصالحة السعودية الإيرانية قد احتل مكانة بارزة في التحليلات العالمية لأنها المرة الأولى التي تتدخل فيها بشكل مباشر وفاعل في اتفاق إقليمي في الشرق الأوسط تنافس به دور الولايات المتحدة الأميركية التقليدي. وضمن هذا السياق الجيوسياسي الجديد والتحديات الماثلة أمام الجميع ترى عديد الدول والحكومات في المنطقة إلى مراجعة سياستها الخارجية والاستدارة من سياسة العداء والتنافر إلى سياسة التعاون والتقارب وتبادل المصالح والمنفعة.

ومن المفيد التذكيرُ أن هناك ملفاتٍ مثقلةً بالجراح وما تزال عالقة بين قطبي النزاع الإيراني والسعودي ابتداء من الملف اليمني ومرورا بالملف العراقي والسوري وانتهاء بالملف اللبناني ومن الملاحظ أن معظم المراقبين ينتظرون مفاعيل هذا الاتفاق على كل الملفات الساخنة في المنطقة، ورحبت به مختلف الدول العربية والإقليمية والعالمية وكذلك القوى والأحزاب وتترقب مدى انعكاساته إيجابا على إمكانية تسوية وتبريد الصراعات الدامية وإنهائها سواء في اليمن أو غيرها كما يرى البعض إمكانية فتح الباب أمام عودة العلاقات السياسية السعودية - السورية، ويضع حدا للتوتر السياسي في لبنان والمساهمة في حل أزماته الاقتصادية والسياسية، وفيما يتعلق بالعراق التي استضافت عدة جولات للحوار السعودي الإيراني خلال السنتين الماضيتين فمن المرجح أن تؤدي ثمار الاتفاق إلى ضبط ايقاع النفوذ والتنافس على أراضيها بين هاتين القوتين. ويعتقد البعض لدى استشراف مفاعيل وتأثيرات الاتفاق على ملف إيران النووي بأنه قد يتيح المجال أمام استئناف المفاوضات بين طهران وواشنطن والعودة من جديد إلى طاولة فيينا والخوض بالبرنامج النووي. أما على صعيد الملف الفلسطيني فمن الواضح أن هذا الاتفاق قد شكل صدمة وصفعة في وجه كيان الاحتلال والذي كان يروج قبل أيام من إعلان هذا الاتفاق بأنه على مسافة مرمى حجر من إقامة علاقات ديبلوماسية وتطبيع مع السعودية وإذ بهذا الاتفاق يظهر للعلن ما يعني بالنسبة للاحتلال أن خطتها لتطويق إيران منذ سنوات قد ذهبت هباءً منثورًا في حين أفادت وسائلُ إعلامٍ سعوديّةٌ مؤخّرًا أن رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل أكد أن لا سلام مع دولة الاحتلال دون الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية وقال: "الشروط معروفة، وهي إيجاد دولة فلسطينية ذات سيادة وذات حدود معترف بها وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين، هذه هي شروط المملكة التي وضعت في المبادرة العربية التي أطلقها الملك الراحل عبدالله". ووصفت دوائر سياسية صهيونية الاتفاق بأنه "فشل كبير وخطير للسياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية"، وقال رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت إن "تجديد العلاقات بين السعودية وإيران هو تطور خطير لإسرائيل وانتصار سياسي لإيران وفشل ذريع لتراخي نتنياهو وعجزه، ويوجه ضربة قاتلة لجهود بناء تحالف إقليمي ضد إيران".

بكل الأحوال يبدو من الظاهر أن مفاعيل هذا الاتفاق سيأخذ من الوقت ما يكفيه؛ لكي ترتسم صورة جديدة للمنطقة بعيدا عن ثنائيات الحروب التدميرية العبثية والمغانم الغربية الخالصة. فالطرفان؛ الرياض وطهران لديهما نظرةٌ استراتيجيّةٌ إلى المنطقة تتمثل في تشابك المصالح وخفض التوترات والنزاعات، صحيح أن الاتفاق جاء تحت عنوان سياسي إلا أنه بالمضمون مبني على مصالح اقتصادية كبرى مشتركة للبلدان الثلاثة، وأهمها الزيادة في النمو الاقتصادي وانعكاسه على مختلف المجالات الاقتصادية خاصة انفتاح الأسواق أمام تبادل البضائع بين هذه الدول وانتعاش سوق الطاقة وإتاحة الفرصة للسعودية لمواصلة المشاريع التنموية كمشروع "رؤية 2030" الذي أطلقه ولي العهد السعودي ومن البديهي أن مثل هذه المشاريع بحاجة إلى استقرار سياسي واقتصادي فقد حقق حجم التبادل التجاري بين الصين والسعودية 320 مليار دولار في الخمس سنوات الماضية فهي أكبر شريك تجاري للسعودية، إذ وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 87.3 مليار دولار في 2021. وبلغت قيمة الصادرات الصينية للسعودية 30.3 مليار دولار، فيما بلغت واردات الصين من المملكة 57 مليار دولار، وبلغت واردات الصين من النفط الخام من السعودية 43.9 مليار دولار في عام 2021، وهو ما يمثل 77% من إجمالي وارداتها السلعية من السعودية. وكذلك حقق حجم التبادل التجاري بين طهران وبكين زيادة بنسبة 18٪ في الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي متجاوزا 12 مليار دولار. وأظهرت بيانات "آرغوس" أن واردات الصين من النفط الإيراني عبر ماليزيا بلغت 1.2 مليون برميل يوميا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2022. ويتضح من هذه العلاقة أن الصين تمثل الشريك التجاري الأول لإيران والسعودية والمشتري الرئيسي للنفط من كلا البلدين، لذلك لديها اهتمام باستقرار المنطقة من أجل مبادرتها لضمان حركة بضائعها إلى القارة الأوروبية والإفريقية دون معيقات. وبمعزل عن المكاسب الاقتصادية فإن ثمة مكاسب سياسية يحصدها البلدان الثلاثة من الاتفاق أهمها تعزيز الاستقرار السياسي والأمني، فالرياض تسعى إلى تهدئة جبهة الجنوب وإيقاف التهديدات الأمنية التي حملتها الصواريخ والمسيرات اليمنية إلى العمق السعودي في السنوات الماضية، كما أنها بحاجة لبعض الوقت لإثبات قدرتها على وضع حد لسياسة الابتزاز الأميركي الغربي التي تعرضت له سابقًا من إدارة دونالد ترامب. وإيران تطمح إلى المزيد من الوقت لمعالجة أزماتها الداخلية والتفرغ للملف الأميركي والإسرائيلي فتعدد الملفات يستنزف طاقاتها وإمكانياتها ويضاعف مشاكلها. وبالمقابل نجاح المصالحة يعزز دور الدبلوماسية الصينية الصاعدة دوليًّا ويمنحها تفوق ليس فقط بالمجال الاقتصادي والصناعي والتقني بل والدبلوماسي ويضفي على جهودها توسيع رقعة تحالفاتها الاستراتيجية وضم الأقوياء المؤثرين فموقعها الدولي جعلها توازن بطريقة مدروسة وذكية موقفها من عديد القضايا العالمية الأمر الذي تحتاجه أي دولة صاعدة.

ومن هنا يمكننا طرح السؤال المهم في هذا المضمار والذي يتعلق بصورة المنطقة بعد هذا الاتفاق فما قدرته على الاستمرار، خاصة أن أسباب النزاع التي كانت بينهما ما زالت عالقة وتم ترحيلها وفقا للتسريبات إلى مرحلة أخرى تأتي بعد عودة العلاقات وفتح السفارات، واقتصرت المصالحة على عودة الشراكة الاقتصادية والتجارية وتهدئة التوتر السياسي بينهما، مما يحيلنا إلى ضرورة قراءة هذا الاتفاق قراءة معمقة وعدم الاستعجال بالاطمئنان إلى مخرجاته السياسية.

فمن الطبيعي أن تبعات هذا الاتفاق ستطال كل دول المنطقة ويفتح على آفاق واعدة ترتكز على ديبلوماسية تبادل المصالح بديلًا عن ديبلوماسية النزاعات والحروب.