أحيت جماهير الشعب العربي الفلسطيني في الداخل والشتات، وجماهير الأمتين العربية والإسلامية في العديد من العواصم العربية والإسلامية، يوم القدس العالمي تحت الشعار "الضفة درع القدس" في ظروف ومتغيرات إقليمية ودولية ومحلية، تصب في مصلحة فلسطين وقضيتها، ودرج تاجها القدس "كل القدس" بحيث بتنا نتحدث بكل ثقة أن القدس باتت أقرب إلى الحرية والتحرير من أي زمن مضى.
ولعل اختيار عنوان يوم القدس هذا العام "الضفة درع القدس" كان بمثابة تكريم لدور الضفة الغربية المقاوم، الذي خلق مأزقاً وجودياً للكيان الصهيوني، بعد أن بات عاجزاً عن وضع حد لعملياتها المتراكمة كماً ونوعاً، وكذلك تثميناً لدورها في الحفاظ على عروبة القدس من خلال انخراط أبنائها في الدفاع عنها.
وقبل تناول المتغيرات لا بد أن نرجع الفضل في إحياء هذا اليوم التاريخي لمرشد الثورة الإيرانية وقائدها آية الله الخميني، إذ أنه غداة انتصار الثورة أقدم على خطوتين رئيستين لمصلحة نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته هما: تحويل السفارة الإسرائيلية إلى مقر للسفارة الفلسطينية بعد طرد السفير الإسرائيلي، والإعلان عن يوم القدس العالمي، إذ أعلن في آب (أغسطس) 1978 بأن تكون الجمعة الأخيرة من رمضان يوماً للتضامن العالمي مع القدس.
متغيرات تؤسس لغد جديد
جاء إحياء يوم القدس العالمي، في ظل ظروف ومتغيرات أربكت العدو الصهيوني ووضعته في مأزق غير مسبوق، وبات العديد من المؤرخين والمحللين الصهاينة، يتحدثون عن إمكانية زوال الكيان الصهيوني، في ضوء مخرجات معركة سيف القدس التاريخية التي طرحت سؤال الوجود للمستوطنين في الكيان، تلك المخرجات التي بنت عليها فصائل المقاومة الجذرية استراتيجيتها على قاعدة نبذ وإفشال خيار التسوية البائس وسراب حل الدولتين، والتأكيد على وحدة الساحات في مواجهة العدو الصهيوني، لمنع انفراده بأي منطقة من مناطق فلسطين التاريخية.
المتغير الأول: يكمن في نهوض المقاومة في الضفة الغربية، التي باتت تشتعل وبشكل غير مسبوق بالمقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية، ما أربك العدو وأفقده قوة الردع، حيث بات إطلاق النار على مواقع العدو ومعسكراته فعلاً يومياً، ولا يلبت العدو أن يضمد جراحه ويسحب قتلاه من هذه العملية الفدائية أو تلك، حتى تأتي ضربة ثانية وثالثة على رأسه في نفس اليوم، واللافت للنظر أن العدو استنفذ ما في جعبته من عمليات القتل والاعتقال، دون أن يفت في عضد المقاومة وعملياتها النوعية في طول فلسطين التاريخية وعرضها.
لقد شهدت الضفة الغربية تكاملاً في عمليات المقاومة، التي تراوحت ما بين عمليات إطلاق نار على مواقع قوات الاحتلال وحواجزه العسكرية، وبين عمليات دهس وسكاكين وعمليات مركبة من "إطلاق نار ودعس"، وعمليات التصدي لقطعان المستوطنين وقادتهم لتبيت نقاط ومواقع استيطانية كما حصل في بلدة بيتا مؤخراً، كما شهدت الضفة تكاملاً بين العمليات التي يطلق عليها العدو "ذئاب منفردة" التي نمت وترعرعت في مناخ المقاومة العام، وبين عمليات فصائل المقاومة وكتائبها المنتشرة في سائر أرجاء الضفة الفلسطينية.
لقد رصد تقرير مركز المعلومات الفلسطيني "معطى" التنوع في عمليات المقاومة مشيراً إلى أن حصيلة عمليات المقاومة في شهر مارس (آذار الماضي) بلغت ألفاً و55 عملاً مقاوماً، بينها 143 عملية إطلاق نار واشتباك مسلح مع قوات الاحتلال، نفّذت 54 عملية منها في جنين و46 في نابلس، شمالي الضفة الغربية. كما شهدت الضفة الغربية 394 مواجهة مباشرة مع الاحتلال، ومئات عمليات إلقاء الحجارة، و21 عملية إلقاء زجاجات حارقة، و119 عملية تصدٍ لاعتداءات المستوطنين مختلف أنحاء الضفة.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل تجاوزتها باتجاه تنفيذ عمليات مدروسة في السياق السياسي، لقلب الطاولة على خطط المطبعين، عندما نفذت المقاومة عملية نوعية في بلدة حوارة في اليوم التالي لمؤتمر العقبة الذي عقد في 26 شباط (فبراير) الماضي، الذي استهدف ضرب المقاومة في الضفة وتفعيل التنسيق الأمني بإشراف أمريكي، وعندما نفذت عملية في ذات المكان، في نفس يوم انعقاد مؤتمر شرم الشيخ في 19 مارس (آذار) الماضي.
لقد نشر العدو ما يزيد عن (60) في المائة من جيشه إضافة لكتائب الشرطة وما يسمى بحرس الحدود في الضفة الغربية، واستخدم "خطة كاسر الأمواج" التي تكسرت على أيدي رجال المقاومة، في مختلف مدن وبلدات ومخيمات الضفة وخاصةُ في جنين ونابلس والذين برهنوا على قدرتهم الفائقة في كسر الردع الإسرائيلي، رغم الفارق في ميزان القوى، وخلقوا حالة من التفاؤل مبنية على معطيات حسية بأن تحرير القدس وعموم فلسطين باتت مسألة واقعية وحتمية تاريخية.
المتغير الثاني: يتمثل في وحدة الساحات في إطار فلسطين التاريخية، فقطاع غزة منذ معركة سيف القدس التاريخية يمارس دوره النضالي من خلال غرفة العمليات المشتركة عبر دك مستوطنات العدو ومواقعه العسكرية بالصواريخ وقذائف الهاون، عندما تتعرض القدس والأماكن المقدسة لهجمات الاحتلال والمستوطنين، وجنين ونابلس وبقية مدن ومخيمات الضفة باتت تشكلان رافعة للمقاومة في القدس، وفلسطين المحتلة عام 1948 باتت تشكل احتياطياً استراتيجياً للمقاومة، منذ أن أحدثت فارقاً نوعيا في المواجهة أثناء معركة سيف القدس، وشكلت مفاجأة مذهلة للكيان الصهيوني، إضافةً إلى أن شبانها باتوا ينخرطون في العمليات الفدائية بشكل نوعي ما بين الفترة والأخرى، كما حصل في عملية تل أبيب الأخيرة المزدوجة التي نفذها فدائي من كفر قاسم "يوسف أبو جابر" في السابع من إبريل (نيسان) الجاري، وقبلها عملية بئر السبع "الدهس والطعن" التي نفذها المناضل محمد أبو القيعان بتاريخ 22 مارس (آذار) 2022.
لكن التطور البارز في وحدة الساحات، أن محور المقاومة الذي أعلن عن مسمى جديد له "محور القدس" بات ينقل موضوع وحدة الساحات، من دائرة النظرية إلى دائرة التطبيق عندما انطلقت الصواريخ المائة من جنوب لبنان، لتدك مستوطنات العدو في الجليل، بعد عملية مفترق مجدو البطولية في 15 مارس الماضي، وعندما انطلقت الصواريخ من الجنوب السوري لتدك مستوطنات العدو في هضبة الجولان المحتلة، فهذه الصواريخ تمثل أول الغيث وتأتي في إطار عمليات التحذير للعدو من الاستمرار في عملياته التنكيلية في القدس وفي الضفة الغربية.
كما أن أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، الذي سبق وأن هدد بحرب إقليمية في حال تمادي العدو بإجراءاته التهويدية والتنكيلية في القدس ومقدساتها، شدد في خطابه الأخير في يوم القدس العالمي على أن القدس خطٌ أحمر، وأنّ لبنان الذي صنع انتصاره عام 2000 مع كل الشرفاء والأحرار، لن يتخلى عن فلسطين.
ولم تقتصر الأمور على جبهة جنوب لبنان وجنوب سورية، بل تعدتها إلى ساحات أخرى وعلى رأسها إيران، التي لم تتوقف عن تهديدها بإنهاء الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، كما أن فصائل المقاومة العراقية أعلنت على لسان قادتها، بأنها باتت في كامل جهوزيتها للمشاركة في حرب تحرير فلسطين والقدس في مقدمتها، كما أعلن قائد أنصار الله في اليمن عبد الملك الحوثي عشية يوم القدس أنّ الشعب اليمني سيكون في المستقبل القريب، جاهز لخوض أي معركة حاسمة ضد العدو الإسرائيلي الزائل حتماً، مشدداً على أنه عندما نتحرك لمواجهة الكيان الصهيوني فلنطمئن إلى أن عاقبته المحتومة هي الهزيمة والزوال".
لقد حذر المؤرخ الصهيوني "يوسي بن هاليفي" في مقال له نشر له في صحيفة معاريف من خطورة وحدة الساحات، مشيراً إلى أن المعادلة السابقة التي تقول أن حروب إسرائيل تخاض في ساحة الأعداء تغيرت، وستكون الحرب المقبلة في قلب (إسرائيل) وأنه وفقاً للتقديرات الأمنية فإن 250 ألف صاروخ من أنواع مختلفة موجهة إلى (إسرائيل) من إيران وبقية ساحات محور المقاومة.
المتغير الثالث: أن الكيان الصهيوني بات في أضعف وأسوأ حالاته منذ نشوئه عام 1948، جراء الانقسام الاثني بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، وجراء الانقسام الشاقولي بين الصهيونية الدينية بقواها المختلفة وبين الصهيونية العلمانية، والذي تعمق جراء لجوء حكومة غلاة اليمين إلى إحداق انقلاب في المنظومة القضائية.
يضاف إلى ما تقدم متغيران إحداهما دولي والآخر إقليمي، فالمتغير الدولي يتمثل في تشكل علم متعدد الأقطاب، كواحد من أبز تداعيات الأزمة الأوكرانية، ينهي الهيمنة الأمريكية على العالم، ما ينعكس بالإيجاب على قضايا التحرر في العالم وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، والمتغير الإقليمي يتمثل في الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، الذي سيكون من أبز تداعياته وضع حد وإفشال اتفاقيات التطبيع الابراهيمية، التي شكلت خطراً بارزاً على القضية الفلسطينية، وكذلك إفشال المخطط الصهيو أميركي الهادف إلى تشكيل محور إسرائيلي سني ضد إيران ومحور المقاومة.
قيمة يوم القدس في السياق المبدئي والاستراتيجي
لقد بات يوم القدس العالمي في هذه المرحلة، في ضوء المتغيرات السابقة محطة نضالية لتعبئة الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم، ضد المشروع الصهيوني برمته في فلسطين، ومحطة كفاحية ضد مشروع التطبيع الخياني، في حين أصيب العدو بنكسة معنوية وهو يشاهد مئات الألوف في طهران واليمن و العراق وبقية الدول العربية والإسلامية يرفعون قبضاتهم ورايات فلسطين مؤكدين على عروبة القدس وفلسطين
وتتمثل أهمية إحياء يوم القدس في السياقين المبدئي والاستراتيجي بما يلي:
1- قيمة هذا اليوم أنه يركز على البعد الاستراتيجي في الصراع مع العدو الصهيوني باعتباره صراع وجود وليس صراع حدود، وأن لا حل للقضية الفلسطينية إلا بزوال هذا الكيان.
2- أن يوم القدس العالمي لا يتعامل مع قضية القدس الشرقية، بل يتعامل مع القدس ككل بشطريها الشرقي والغربي كمدينة عربية إسلامية واحدة، عاصمة لدولة فلسطين التاريخية الممتدة من النهر إلى البحر ومن رأس الناقورة وحتى رفح، ويؤكد في ذات الوقت أن فلسطين والقدس درتها هي القضية المركزية للأمتين العربية والإسلامية، بما يرتب عليهما المشاركة بكل الوسائل لدعم الحقوق التاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني.
3- أن هذا اليوم مناسبة لشحذ الهمم لتقديم كل سبل الدعم للمقاومة المتصاعدة في فلسطين بوصفها رأس الحربة المتقدم في مواجهة هذا الكيان الغاصب، وللمشاركة في عملية تحريرها، وأنه رد من قبل أكثر من مليار عربي ومسلم بأن القدس كانت ولا تزال وستظل ليس عاصمة لفلسطين فحسب، بل عاصمة للأمة بكاملها.
4- قيمة هذا اليوم في السياق التاريخي أنه بمنطلقاته وشعاراته يرفض نهج التسوية مع العدو الصهيوني (كامب ديفيد – اوسلو – وادي عربة) ويرفض المساومة على أي من الحقوق التاريخية الوطنية للشعب الفلسطيني.