Menu

جدليّةُ المرأةِ الفلسطينيّة

خالد فارس

يشيرُ التشريحُ الفيسيولوجيُّ (تشريح وظائف الأعضاء)، للرجل والمرأة إلى تمايزاتٍ وتماثلاتٍ بين الرجال والنساء، والنساء والنساء، والرجال والرجال، من ناحية تركيبة الفيزياء والكيمياء الحيويّة، إلّا أنّنا لا نستطيعُ أن نشير إلى ما هو ذكيٌّ أو عبقريٌّ أو واعٍ أم غير واع. بمعنى لو أنّنا أخذنا أيّ عنصرٍ أو كلّ عناصر التشريح الفيسيولوجيّ للمرأة أو الرجل، فلن نجدَ ما يدّلنا على مَكْنون طاقة مُمارَسِة القُدْرَة الذِّهْنِيَة العَقْلانِية. البِنْيَة الفِيسيولوجيّة للمرأة والرجل، تأتي من أصلٍ واحدٍ وهو الجنسُ البشري، أي إن كلًّا منا بداخله كائِنٌ إنسانيّ. نافل القول: إنّ المرأة والرجل سيّان من ناحية أنّه لا يمكن إحالة العقلانيّة والذكاء والعبقريّة والوعي إلى أيّ تمييزٍ على مستوى الفسيولوجيا. وكلُّ ما يمكنُنا قوله إنّه الفيزياء والكيمياء الحيويّة للإنسان تحملُ إمكاناتٍ وطاقاتٍ بداخلها، لكنّها غيرُ فاعلة، بذاتها، أي إنّها طاقةٌ كامنةٌ في الفسيولوجيا.

السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نحرّر الطاقة الكامنة المَكْنونَة والمُخْتَزَنة في فيسيولوجيا الإنسان، ونستخرجها في ممارساتٍ عقلانيّةٍ عمليّة، تنبعُ من تفكيرٍ وتخطيطٍ ووعيٍّ وذكاءٍ وفطنة؟ فهي بذاتها لا تعني شيئًا، ليست عقلانيّة، لكن بواسطة شيءٍ ما، تؤولُ وتتطوّرُ كذلك.

لو اتّخذ أي مجتمعٍ من التمايز الفيسيولوجي مُنطلقًا له، سيجدُ نفسه في خِضَمّ علاقات تقسيمٍ اجتماعيٍّ على أساس الدم والعرق واللون والمذهب والدين إلخ، والدعوة إلى بناء نظامٍ اجتماعيٍّ يَخْتَزِلُ ويَنْتَقِصُ مِكْنونَ الطَّاقة الذِّهْنِيَة والإبداعية المُتاحة ومخزونها، التي عند كل الناس، سَواسِية. فلا بد لأي تقسيمٍ اجتماعيٍّ أن يلجأ إلى معيارٍ ذي صلةٍ بالتمايز الفسيولوجي.

أقامت الأديان التمييز على أساس الدم "دم حرام على دم، وليس حرامًا على دمٍ آخر" وبين "المرأة والرجل".  اتخذت الصهيونية من الدين اليهودي مُنطلقًا يضع اليهود فوق الجميع "شعب الله المختار". وجدت النازية والفاشية في مسألة العِرْق نقطةً مركزيّةً لها. ولو نظرنا إلى كلّ هذه التقسيمات، يعود سببها إلى قيام تمييزٍ فسيولوجيٍّ بين البشر وعدم الاعتراف بالإنسان كونه كائنًا بشريًّا من جنسٍ واحد. وحتّى سياسات الهُويّة ترتبطُ بتمايزاتٍ فسيولوجيّة ذات بعدٍ سُلالي أبوي - بطريرياركي: العائلة، القبيلة، النسب، الكنسية، إلخ، جُلُّها أشكال مختلفة لتمييز مجموعٍ على آخر، لأسبابٍ تتعلّقُ باغتراب هذا المجموع عن الكائن البشري، وتحويله بذاته الفيسيولوجية، إلى كتلةٍ اجتماعيّةٍ تَتَمَيّزُ وتَتَعَالى، وتتخطى المجموع الاجتماعي، في سعيها للتحكّم والسيطرة.

المرأةُ الفلسطينيّةُ التي تحملُ الجنسيّة "الإسرائيليّة:

للمرأة الإسرائيليّة اليهوديّة ميزةٌ فسيولوجيّة، عِرْقِيَّة سياسيّة، مَنَحَتْها إيّاه اليهوديّة السياسيّة الصهيونيّة؛ وذلك لأنّ تعريف اليهوديّ ينبعُ من الأمومة، "طلب الحاخاميّة الكبرى في إسرائيل وثائق تثبتُ يهوديّة الأم والجدة وأم الجدة وأم أم الجدة عند التقدّم للزواج." تستندُ هُويّة الدولة القوميّة السياسيّة الصهيونيّة على تمييز الجنس الأنثوي اليهودي، كونها الحاضن والحامل الاجتماعي لهُويّة اليهوديّ الدينيّة. بذا فإنّ الهُويّة السياسيّة للدولة اليهوديّة تستندُ إلى تمييز جنس المرأة اليهوديّة. فالأمُّ اليهوديّةُ مُكَوّنٌ ومانِحٌ لهُوِيَّة الدَّوْلَة اليهوديّة. وهذا يعطيها كونها يهوديّة، مكانة تَتَعالى فيها على المرأة الفلسطينيّة. 

تتكوّنُ الكولونياليّة الإسرائيليّة من قسمين: الأوّل كولونياليّة وطنيّة-قوميّة، والثاني: كولونياليّة اجتماعيّة. كلاهما يتداخلان ويتكاملان معًا في بِنيةٍ تاريخيّةٍ واحدةٍ متشابكة.

تهدفُ الكولونياليّةُ الوطنيّة (اختراع وطنٍ قوميٍّ لليهود في العالم، على أرض فلسطين)، إلى محو الوجود الوطني الفلسطيني، حيث تأسّست على عدميّة السواسية الوطنيّة أو القوميّة مع غير اليهودي. وتهدفُ الكولونياليّة الاجتماعيّة، إلى عدم السواسية الاجتماعية على الأقلّ في تمييز علاقة المرأة اليهوديّة بالهُويّة السياسيّة. تُمْنَحُ الجِنْسِيَّة الإِسْرائيلية لِتَجسيد الكولونيالية المزدوجة، الوطنية والاجتماعية. الهامش الذي تَمْنَحُه الجنسية يَنْحَصِرُ في نِقاشاتٍ اجتماعيّةٍ وبرلمانيّةٍ ذات طابعٍ مدنّي، جوهرها مدنيّ: إداريّ خدماتيّ منافع عقاريّة ورَيع للأَجر. ولكنها نقاشات لا تتحدى أو تتواجه مع جوهر المشروع الكولونيالي.

 لو نظرنا إلى بِنْيَة الخِطاب الصهيوني، سنجد أنّه يحاول الإيهام بأنه خطاب سَواسِية اجتماعيّة، لكنّه في الوقت ذاته يُعْلِنها صَراحةً أنّه لا إمكانيّة تاريخيّة لسواسيةٍ وطنيّةٍ أو قوميّةٍ بين اليهوديّ- الإسرائيليّ والفلسطينيّ. 

يَفْرِضُ الاحتلال الإسرائيلي على المرأة الفلسطينية جدليّة نِضال مُعَقَّدة من خلال أدوات الجنسية الممنوحة لها، والقوانين التي بناءً عليها تمَّ منحُ هذه الجنسيّة. حيث تفرض عليها الجنسية الإسرائيلية أنماط انصياعٍ اجتماعيّ، منها أنّها أقلُّ طَبَقِيًّا-عِرْقيًّا من المرأة اليهوديّة، لأنّه ليس لها دور في هُوِيَّة الدولة السياسية، مثل الأم اليهودية، ومن ثَمَّ فإنّ النظام الصهيوني يسعى الى مَؤْسَّسِة وشَرْعَنِة نسوية صهيونيّة عِرْقية جاثِمة اجتماعيًّا على النَسَوِيَة الفلسطينية. كما تفرض عليها أن تتنازل عن إنتاج هُويّةٍ سياسيّةٍ وجوديّةٍ فلسطينيّة، تنتمي لها. 

يَتَحَرّكُ المشروعُ الكولونيالي الإسرائيلي وَفْقَ تقسيمٍ اجتماعي، يَفْتَرِضْ مُسَبقًا، أنّ المرأة الفلسطينية ليس لها مكانة مثل المرأة اليهودية، بل هي أقل، وأنّها تحت سَقْفِ ثَوابِت صَهْيونيّة استعماريّة، غير قابِلة للتَّغيير، وهذا التقسيم أدى إلى تحديد دور المرأة الفلسطينية، حصرًا، في إعادة إنتاج الهُوية اليهودية السياسية الصهيونية للدولة والمجتمع. بهذا التفريغ السياسي للمرأة الفلسطينية، كلما نجح، يتحول إلى ثقافةٍ عامة، مهيمنة على الواجدان النَسَوي الفلسطيني. ثم تجد هذه الثقافة أنها بحاجةٍ إلى إطارٍ سياسيٍّ لكي تتحرّك فيه، فَتَجِد في حراكات المجتمع المدني الليبرالي والعمل البرلماني حيّزًا لها. إلّا أنّ هذه الثقافة وهذا النوع من الممارسة السياسيّة سببه أنّه الخَيارُ المفروض المُسَيْطِر، وليس خيارًا حرًّا مستقلًّا. فهو يُجَسِّدُ نظامَ اغترابٍ عن تحرّرها. 

التقسيمُ الذي ترعاه "إسرائيل" سنده فَصل السياسي عن المدني، وجعل السياسي الوطني- القوميّ، حِكْرًا للإسرائيلي، والمدني الخدماتي وريع الأجر، مُشارَكَة مع الفلسطيني ذكر أم أنثى. تتحوّل فيها المشاركة إلى مَدَنِيَّة رَيْعِيَّة، أو مجتمع مدني العضوية فيه على أساس رَيْعي. تُحافِظ "إسرائيل" على مركزية النسوية اليهودية ومركزية القومية اليهودية، سواء من خلال الجنسية أو القوانين أو تفتتيت المجتمع الفلسطيني، وتحويله إلى مُواطِني رَيْع. فَتَجِد النسوية الفلسطينية نفسها أمام كمّاشةٍ سياسيّةٍ قوميّةٍ ونَسَوِيَّةٍ يهوديّةٍ عِرْقِيَّة، آليات فناء وجودها السياسي التحرري. 

المرأةُ الفلسطينيّةُ في فلسطين المحتلّة عام 1967 والشتات:

سؤال المرأة الفلسطينية هو سؤال المجتمع الفلسطيني، وليس منفصلًا عنه. لذلك فإنّ نقطة البداية هي البِنية الاجتماعيّة.  تعيشُ المرأة الفلسطينيّة في الداخل الفلسطيني المحتلّ عام 1967، ضمن بنيةٍ بطريركيّةٍ أبويّةٍ قَبليّة، تهدف إلى تمييزها عن الرجل على أسسٍ فيسيولوجيّة.   

فالواقعُ يفرضُ عليها أن تعمل بالمباشر من داخل هذه البنية، من عمقها وتفاصيلها، من مستوياتها المتعدّدة. وهذا يميّزُ المرأة الفلسطينيّة عن الرجل من صَوْب نوع المُمارسة الاجتماعيّة المفروضة من البنية الاجتماعيّة. حيث علاقة الرجل بالبنية الاجتماعيّة علاقة فيها مرونة أكثر، أي إنّ هذه البنية تسمح للرجل أن يكون له هامشٌ اجتماعيٌّ على تخوم البطريركيّة الاجتماعيّة، أما المرأة تفرض البنية عليها أن تكون في قلب الحالة البطريركية - البنية الأبوية.

يتمُّ تقسيم العمل الاجتماعي على أساس البنية الأبويّة، أدّى بالمرأة الفلسطينيّة إلى أن تتراجع نحو العمل المنزلي أو أن تخرج من المنزل نحو أعمالٍ ذات طبيعةٍ خدماتيّةٍ استهلاكيّة، أو رَيْع الأجر، فَتَحَّوَلَ دَوْرُها إلى إعادة إنتاج الواقع، وليس إنتاج واقعٍ جديد. وهو دورٌ مهمٌّ، لكنّه جعل البِنْيَة الأبويّة هي التي تتحكم وتُدير عملية إنتاج الحياة، يعني تعميم هذه البِنية الأبويّة، وجعلها البِنْيَة العامة الاجتماعيّة، التي تسيطرُ على عمليّات المجتمع كلّه: السياسي الاقتصادي الثقافي، فَتَعَمَّقَ اغتراب المرأة عن العمليّات الاجتماعيّة التحرّريّة، وتناتج من ذلك مزيدٌ من إخضاعٍ للمرأة الفلسطينية، بدوامة تكرارٍ دائري.      

القضيّةُ الأساسيّةُ للمرأة الفلسطينية في إعادة إحياء المشروع الوطني الفلسطيني. وذلك لأنّه لا وجود بنيويّ سياسيّ للفلسطيني، إلا من خلال حركته السياسيّة، في ظلّ وجود الاحتلال، وواقع الشتات. إنّ إضعاف الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ووحدتها السياسيّة، سوف يقود الى اغتراب المرأة عن التحرّر السياسي، وبدلًا عنه تبحث عن ربط تحرّرها من خلال إعادة إنتاج البُنَي الاجتماعية التي تُقيّدها أَصلًا، أو حريّة في مجتمعٍ مدنيٍّ ليبراليٍّ يقومُ على الفرديّة المنفلتة عن العام الاجتماعيّ الذي لا مهمّات تحرّريّة لديه، أو "فبركة" نظام سياسي يجعل من الوجود الصهيونيّ طبيعيًّا.

السياق الجدليّ:

الجدلُ الذي يُمَجّدُ ما هو قائم، أطلق عليه ماركس جدلًا صوفيًّا. أما الجدل في شكله العقلاني فهو الفاضح الذي "ينطوي على فهمٍ إيجابيٍّ لما هو قائم، ونَفْي هذا الوضع القائم وانهياره..." (كارل ماركس. رأس المال).

مارَسَ هيجل وماركس الكتابة الجدلية على مستوى الفقرة وعلى مستوى الموضوع الكلي. حاول مهدي عامل أن يكون رائدًا في هذه التجربة التي بحاجة إلى التقييم النقدي.   

تسعى القُوى المَوْضوعية الكولونيالية، في صناعة بِنْيَة عُلْيا، تتعالى فيها على الشعوب. وفي المقابل تسعى الشعوب إلى ممارساتٍ مجتمعيّةٍ لكسر هذه البِنية وتجاوزها نحو بنيةٍ تحرّرية. إنّ رصد وتشخيص البنية الجاثمة على الشعوب، والممارسات النقيضة، هو تمرينٌ لكتابة نصوصٍ جدليّةٍ تحرّريةٍ للإنسان.

القاسم المشترك بين جدلية اغتراب المرأة في فلسطين المحتلة 1948 و1967، هو أن كليهما يُفْرَضُ عليه إعادة إنتاج واقعٍ هو سببُ قيود وأغلال مفروضة عليه. وخصوصية الحالة النسوية في فلسطين المحتلة 1948، فإن هناك آليات فناء للوجود السياسي، فهي من جهةٍ ليست بمستوى النسوية اليهوديّة التي لها مكانة أعلى في الدولة اليهودية، ومقيدة بأغلال الجنسية التي تفرض عليها كولونيالية قومية يهودية. أما حالة المرأة التي تعيش في فلسطين المحتلة عام 1967، فهي مُحَدَّدَة في بِنْيَة أبوية تُعيقُها من أن تُمارِس مُباشَرةً إنتاجًا حقيقيًّا لحياتها ضمن مجتمعها، بل عليها أن تُعيد إنتاج البِنْيَة الأَبَوِيَّة.

يَحْضُرُ هذا المقال تمرينًا على بناءِ نصٍّ جَدَليٍّ على مُسْتَوي فقرات المقال. والسؤال حول كيف تمَّ تناول الجدل على مستوى الفقرة؟ مثال من فقرة المرأة الفلسطينيّة التي تحمل الجنسيّة الإسرائيليّة:

قدمنا في الفقرة الأولى معلومةً عينيّةً (ميزة فيسيولوجية للمرأة اليهودية)، في الثانية تحدّثنا عن مُكَوّن البِنْيَة، في الثالثة عن هدفها، الرابعة على ماذا تفرض - سيطرة، في الخامسة كيف تتحرّك. في كل فقرةٍ حاولنا أن نشير إلى عجز الممارسات ذات البعد المدني؛ لأنّها اغترابٌ وتفريغٌ سياسيّ، واتبعنا قدر المتاح المنهج ذاته في فقرة المرأة الفلسطينية في فلسطين المحتلّة 1967.