Menu

السودان: من انتفاضة 2019 إلى حرب الجنرالات والنكوص عن العملية الديمقراطية

عليان عليان

عشرة أيام مضت على الحرب المشتعلة بين رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، وبين نائبه الجنرال محمد حمدان "حميدتي" -قائد قوات الدعم السريع -حصدت من أرواح المدنيين والعسكريين أرقام هائلة، قدرت بأكثر 459 شخصا، فيما أصيب أكثر من (4075)، ولا يتراءى في الأفق حول ما ستسفر عنه هذه الحرب، إن على صعيد التسويات أو على صعيد تقسيم السودان مجدداً، والضحية: الشعب السوداني ووحدة البلاد وإمكانية التحول نحو حكم مدني ديمقراطي.

وجوهر النزاع المستفحل بين البرهان وحميدتي، يكمن في الصراع على السلطة والثروة فبعد أن استولى الرجلان على السلطة عام 2019، على إثر الانتفاضة الجماهيرية،  بزعم أنهما  استجابا لمطالب الانتفاضة بإقصاء البشير واعتقاله،  راح كل واحد منهما يسعى لتحسين موقعه في معادلة السلطة والثروة، فبينما سعى البرهان لتأبيد رئاسته للمجلس السيادي، كان حميدتي هو الآخر  يُخطّط للاستِيلاء على الحُكم في السودان، بعد أن عزز قوّاته التي يبلغ تِعدادها أكثر من 100 ألف جندي، وبعد أن سيطر على صناعة الذهب وتِجارة الماشية التي تدرّ عليه، وأسرته، ما  يقرب من عشرة مِليارات سنوياً، في بلد ينتج حواليّ 90 طناً من  الذهب  كل عام.

وبهذا الصدد يمكن إلقاء الضوء بشكل موجز على التطورات والأسباب التي أدت إلى تفجر النزاع الدموي بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ عام 2019 وحتى 15 أبريل ( نيسان) الجاري  على النحو التالي:

أولاً: تشكيل المجلس السيادي وانشقاق مبكر في ائتلاف قوى الحرية والتغيير

في آب/أغسطس 2019، وبعد انتفاضة استمرت خمسة أشهر، ومفاوضات مع "ائتلاف قوى الحرية والتغيير"، الذي قاد الاحتجاجات الشعبية، وقع المجلس العسكري اتفاقاً مع الائتلاف عُرِف بـ"الوثيقة الدستورية"، نصّ على مرحلة انتقالية يتقاسم خلالها المدنيون والعسكريون السلطة لقيادة البلاد، نحو انتخابات وحكم مدني، وقد ترأّس البرهان، بموجب هذا الاتفاق، مجلسَ السيادة، الذي كلف بالإشرافَ على إدارة المرحلة الانتقالية، وتكون  مجلس السيادة من 11 شخصاً: خمسة عسكريين يختارهم المجلس الانتقالي، وخمسة مدنيين يختارهم "تحالف قوى التغيير"، بالإضافة إلى مدني يتفق الجانبان.

وقد تمكن الثنائي "البرهان وحميدتي" بعد توقيع الوثيقة الدستورية، من شق صفوف الائتلاف، تحت مبرر فشل المكون المدني، في حل مشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية، حيث حدث انشقاق في صفوف التحالف بدعم من البرهان، بتاريخ 11 تشرين الأول ( أكتوبر) 2021 تحت عنوان "ميثاق قوى التحالف الوطني" ضم  عدداً من الأحزاب السياسية وعدد من الحركات لمسلحة.

وفي ذات الوقت وقعت كيانات أخرى من ائتلاف الحرية والتغيير، إعلاناً آخر بقيادة حمدوك أكدت فيه رفضها، لما ما جاء في ميثاق الفريق المنشق والمدعوم ضمناً من المجلس العسكري.

ثانياً: انقلاب 25 أكتوبر 2021

  في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 نفذ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان انقلاباً على حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، وأسفر عن اعتقال ما لا يقل عن خمسة من كبار الشخصيات في الحكومة السودانية، بمن فيهم رئيس الوزراء المدني د. عبد الله حمدوك، وأصدر مرسوما بإعادة تشكيل المجلس على النحو الذي يضمن له السيطرة على مقاليد الأمور، مستميلاً بعض الأطراف السياسية المنشقة من "قوى الحرية والتغيير".

 وعلى إثر الانقلاب، واجه المجلس العسكري عزلة دولية، فقد علّق الاتحاد الأفريقي عضوية السودان في 26 أكتوبر، بانتظار عودة حكومة حمدوك إلى السلطة، في حين أعلن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول غربية أخرى في 27 أكتوبر، بأنهم لا زالوا يعترفون بمجلس الوزراء برئاسة حمدوك كقيادة شرعية للحكومة الانتقالية.

 ثالثاً: ترافق العزلة الدولية للمجلس العسكرية مع استمرار المظاهرات

واجه المجلس العسكري بعد الانقلاب مشكلتين رئيسيتين هما:

1-استمرار المظاهرات الرافضة للانقلاب ومخرجاته، على نحو يذكر بقوتها وفاعليتها بانتفاضة 2019، وقد قادها بشكل رئيسي كل من التجمع المهني ولجان المقاومة والحزب الشيوعي السوداني، على أرضية شعار ناظم "لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية"، حتى الوصول إلى سلطة مدنية خالصة، تتيح تفكيك الشمولية وإنهاء حكم العسكر.

2-استمرار العزلة الدولية للمجلس العسكري من قبل الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوربي ومن قبل المؤسسات الدولية، وصدور قرارات من هذه المؤسسات بوقف الدعم في مجال الاصلاحات الاقتصادية.

في مواجهة هاتين المشكلتين، أعلنت المؤسسة العسكرية في السودان في الرابع من يوليو (تموز) 2022 نيّتها الانسحاب من العمل السياسي، بعد أن فشلت في إدارة البلاد وتكوين حكومة تنفيذية،  وبعد أن واجه انقلابها مقاومة واسعة من الشارع السوداني منذ يومه الأول.

وفي 17 أيلول/سبتمبر 2022، أعلن "حميدتي" أنه اتفق مع "البرهان" على اختيار مدنيين لرئاسة مجلسي السيادة والوزراء، مؤكّداً التزامه بالتعاون مع الأطراف المدنية كافة لإكمال الفترة الانتقالية، وحينها كشف "حميدتي "أنه تم الاتفاق "بشكل قاطع، بأنْ يتولى المدنيون اختيار رئيسي مجلسي السيادة والوزراء"، داعياً إلى تشكيل حكومة مدنية تتوافق عليها قوى الثورة، وتستكمل مهام الانتقال وتؤسس لتحوّل ديمقراطي حقيقي.

رابعاً: الاتفاق الإطاري

لقد أفسح إعلان الجيش استعداده للانسحاب من العمل السياسي، المجال لكل من الولايات المتحدة  وبريطانيا و السعودية والإمارات، للتوسط بين أطراف عديدة من "قوى الحرية والتغيير"، وبين العسكريين لتقريب المسافات بينهما، فعقدت سلسلة من اللقاءات المباشرة وغير المباشرة هي الأولى من نوعها منذ الانقلاب، وتوصّلت هذه اللقاءات بعد 5 أشهر من بدايتها في ديسمبر (كانون أول) 2022، إلى اتفاقٍ إطاري "مبدئي" يُعيد العسكر إلى ثكناتهم بعيداً عن الحكم والسياسة، وعلى تكوين سلطة مدنية كاملة من كفاءات وطنية من دون محاصصات حزبية، ومن دون مشاركة العسكر ، وكذلك على مبادئ عامة في ما يتعلق بالعدالة والعدالة الانتقالية، واستكمال السلام مع الحركات المتمردة غير الموقعة على الاتفاقيات السابقة في عام 2020، ومبادئ عامة أخرى تتعلق خصوصاً بالإصلاح الأمني والعسكري ودمج قوات الرد السريع بالجيش الوطني، وتفكيك نظام الرئيس المعزول عمر البشير، وإنشاء لجان فنية لمناقشة القضايا العالقة.

خامساً: تفجر الصراع ما بين البرهان وحميدتي

وقبل بضعة أيام من توقيع قوى أخرى على الاتفاق الإطاري، تفجر الصراع الدموي بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي" قائد قوات الرد السريع على خلفية ما يلي:

1-الخلاف بين البرهان وحميدتي حول من يرأس قيادة الجيش، حيث جاءت آخر المقترحات على تشكيل هيئة قيادية مشتركة من سته أشخاص، 4 من الجيش  و (2) من قوات الدعم السريع، على أن يرأس الهيئة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، ووافقت قوات الدعم السريع على المقترح من حيث المبدأ، لكن محمد حمدان دقلو (حميدتي) رفض قيادة البرهان للهيئة، واقترح أن يرأسها رئيس مجلس السيادة المدني أو رئيس الوزراء المدني ويُظهر ذلك الرفض مدى العلاقة المتوترة بين الطرفين.

2- التسريع بتسليم السلطة، فيما أعلن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" دعمه لفكرة التسليم السريع للسلطة إلى حكومة مدنية، رأى البرهان بضرورة عدم التسرع والبحث عن مزيد من التوافق بشأن الاتفاق الإطاري مع القوى السياسية، وضم القوى غير الموقّعة إليه رغم أن ما يزيد عن 40 من الأحزاب والنقابات المهنية، من بينها قوى الحرية والتغيير، وقعت على الاتفاق.

3- تلكؤ البرهان في البدء بتنفيذ عملية الدمج. لقد رأى "حميدتي" بضرورة البدء بعملية دمج قوات الدعم السريع في إطار الجيش، في حين راح البرهان يؤجل ويماطل في التنفيذ، بحجة الوقت اللازم لإنجاز عملية الدمج بموجب أنظمة ولوائح الجيش، كما إن إصرار "حميدتي" على التسريع في تنفيذ الاتفاق الإطاري، يعود لسبب رئيسي هو أن دمج قوات التدخّل السريع في الجيش يحسن قدراته التنافسية داخل المؤسسة العسكرية.

4- كما أن الخلاف بين البرهان وحميدتي، لم ينحصر في الصراع على قيادة المؤسسة العسكرية وعلى مسألة تسليم السلطة للمدنيين، بل تعداه إلى مسألة تعاطي السودان مع دول الجوار وتحديداً تشاد وأفريقيا الوسطى، وإلى مسألة التحالفات: ففي حين انشد حميدتي للتحالف مع أثيوبيا والسعودية والإمارات والصين وروسيا من خلال شركة فاغنر انشد البرهان إلى التحالف مع مصر والكيان الصهيوني والولايات المتحدة. وتسعى القوى الاقليمية والدولية لاستثمار هذه التحالفات لمصلحتها، لسببين هما: الموقع الاستراتيجي الهام للسودان، الذي يحادد سبع دول أفريقية، ويمتلك ساحلاً ممتداً على البحر الأحمر بطول يبلغ 720 كيلو متراً، والسبب الآخر يكمن في الثروات التي يكتنزها خاصة ثروة الذهب حيث يستخرج من مناجمه 90 طناً من الذهب سنوياً، والثروة الزراعية وخاصة زراعة الصمغ العربي الذي ينتج السودان منه 75 في المائة من الإنتاج العالمي، حيث تشكل مساحة زراعة الصمغ العربي 500 كيلو متر نربع بما يقارب ثلث مساحة السودان.

لقد اختلف الرجلان كما أسلفت، على الاتجاه الذي تسير فيه البلاد، وعلى مقترح الانتقال إلى حكم مدني، ولكن وفقاً للجدول الزمني المتوافق عليه، فقد كان من المفترض الإعلان عن رئيس وزراء جديد ومناصب أخرى يوم الثلاثاء، 11 أبريل/نيسان 2023، إلا أن الموعد النهائي قد انقضى بعد أن فشل الطرفان في التوقيع على "الاتفاق الإطاري" الذي تم الإعلان عنه في الخامس من ديسمبر/ كانون أول الماضي مرتين، بسبب الخلافات حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش.

لقد أخفقت الوساطات بين الطرفين، رغم عدم الإعلان عن الخلافات بشكلٍ رسمي والاكتفاء بالتلميح، إلى أن جاء يوم 13 نيسان/أبريل الجاري، عندما نشرت قوات الدعم السريع قواتها في الخرطوم وخاصة في قاعدة مروي، وهو ما اعتبره البرهان انتشاراً "غير قانوني" وطالبها بالانسحاب، ليتحوّل الخلاف الخفي والتصريحات غير المباشرة إلى حربٍ بين الطرفين في 15 نيسان/أبريل الحالي بعدما بدأت الاشتباكات بين الجانبين.

لقد بدأت الحرب بين الطرفين التي أسفرت حتى اللحظة عن مصرع 459 شخصا معظمهم من المدنيين، وإصابة ما يزيد ع 4075 شخصاً، وبات كل طرف يدعي بأنه ألحق الهزيمة بالطرف الآخر في هذا الموقع أو ذاك، حيث أعلن الجيش أن قوات الدعم السريع باتت تعيش حالة انفلاش في العاصمة الخرطوم وأن مجاميع منها بدأت تستسلم وتسلم سلاحها للجيش، بينما راحت قوات التدخل السريع تتحدث عن سيطرتها على مطار الخرطوم ومطار مروي العسكري، وأن قواتها تقاتل قرب القصر الجمهوري وقرب مقر المخابرات العسكرية الموجودة في مقر القيادة العام للجيش.

وأمام هذا الغموض في صورة الوضع الميداني، راح العديد من المراقبين يطرحون سيناريوهات حول مآ ستسفر عنه الأمور على نحو: انتصار الجيش السوداني وانتشاره في عموم البلاد / انسحاب قوات التدخل السريع من العاصمة إلى ولايات أخرى والسيطرة عليها لإدامة القتال مع الجيش / وقف إطلاق النار والجلوس على طاولة المفاوضات لحل مشكلة دمج قوات الدعم السريع في الجيش / وقف إطلاق النار والعودة للعملية التفاوضية والاتفاق الإطاري.

ويرى بعض المراقبون، أن الأمور قد تعود إلى مربعها الأول في ضوء تصريحات البرهان الأخيرة  المتشبثة بالسلطة "إما النصر وإما النعش" ما قد يدفع السودان إلى مزيد من التأزيم، أو نحو التقسيم، الذي يخدم في التحليل النهائي الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، اللذان سبق وأن لعبا دوراً مركزياً في فصل جنوب السودان عن الدولة السودانية.