فَطِن العدوّ الصهيونيّ لأهميّة الإعلام والتوثيق منذ اللحظة الأولى لإطلاق فكرة بناء "دولةٍ يهوديّة" في فلسطين.. تلك الفكرة التي أحياها وخطّط لها "نابليون بونابرت" إرضاءً لليهود في "آسيا وأوروبا" وكَسْبًا لدعمهم لحملاته العسكريّة المتعثّرة على الشواطئ الفلسطينيّة بعد تحطّم طموحاته على أسوار عكا عام 1799. خاطبهم قائلًا: "أيّها الإسرائيليّون انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة، إن فرنسا تمد لكم يدها الآن حاملةً إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب العالم" - انتهى الاقتباس -، كما أصدر بيانًا دعا فيه اليهود للالتحاق بحملته والقدوم إلى القدس تحت الراية الفرنسيّة، لقي نداء بونابرت ترحيبًا من الإعلام، وتحوّل إلى خبرٍ رئيسيٍّ في الصحف الفرنسيّة...!
عاود وزير الخارجية البريطاني "بالمرستون" طرح الفكرة مجدّدًا على "يهود أوروبا" واقترح عليهم "إقامة وطنٍ لهم في فلسطين" ليرضيهم من جانب، وليردّ على محاولة "محمد علي" توحيد مصر وسوريا عام 1840 فطلب من السفير البريطاني في إسطنبول محاولة إقناع الخليفة العثماني بأن الحكومة الإنجليزية ترى أن الوقت أصبح مناسبًا لفتح باب "فلسطين" لهجرة اليهود إليها. رفض العثمانيّون الطلب الذي قابله "أدموند روتشيلد" بتمويل إنشاء 30 مستعمرةً يهوديّةً أهمّها "ريشون لتسيون" التي رفع فيها العلم "الإسرائيلي" الحالي، فكانت بداية المشروع اليهودي.
في عام 1885 بدأ مصطلح "الحركة الصهيونيّة" بالظهور تمهيدًا للاستيطان في فلسطين التي حاول "تيودور هرتزل" إرساء مقولة إنها "أرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض"، أرسل إليها عام 1896 رجُلَيْ دينٍ يهوديَيْن لاستطلاع الأمر.. فكانت رسالة الردّ منهما: "إنّ العروس جميلةٌ جدًّا ومستوفيّةٌ لجميع الشروط، ولكنّها متزوجةٌ فعلًا" - في إشارةٍ إلى أنّ فلسطين فيها شعبٌ يسكنها منذ آلاف السنين – وهذا يناقض مقولاته التي روّج لها في كتاباته، ومع هذا فقد تابع هرتزل وأصدقاؤه المضي بمشروعهم الاستيطاني. في عام 1897 عُقِد المؤتمر الصهيوني الأوّل في بال بسويسرا الذي تبنى برنامج تأسيس "وطنٍ معترفٍ به لليهود في فلسطين"! وفي عام 1907 سافر عالم الكيمياء البريطاني "حاييم وايزمن" إلى فلسطين، وافتتح مشروع شراء الأراضي بدعمٍ من عائلة "روتشيلد" وتمويلٍ من الصندوق القومي اليهودي...
التنسيق اليهودي- الغربي لبناء الكيان الصهيوني:
مع وصول اليهودي هربرت صموئيل لمنصب "وزير بريطاني" بدأ العمل على تنفيذ المشروع الصهيوني من خلال عقد اتفاقية "سايكس – بيكو1916" التي اقتسمت فيها فرنسا وبريطانيا استعمار وانتداب العديد من الدول العربيّة، وطبعًا كانت فلسطين من حصّة الإنجليز والحلفاء الذين تابعوا إعطاء التسهيلات للمنظّمات اليهوديّة للتملّك وإقامة المستعمرات وتنظيم هجرة اليهود الأوروبيّين إليها وصولًا لبناء الدولة اليهوديّة المنشودة.
في عام 1917 أصدر وزير الخارجية "آرثر بلفور" وعده لليهود باسم الحكومة البريطانية ومنح "الأرض بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض!" -حسب زعمهم - وكانت البداية الرسميّة لمأساة فلسطين، ومنذ تلك اللحظة تحوّل طريق هجرة اليهود الأوروبيين من أمريكا "بلد الأحلام" إلى فلسطين "أرض الميعاد". وبدأ التزوير الفعلي بمحو التاريخ والجغرافيّة والديموغرافيّة والثقافة، وكل ما له علاقةٌ بفلسطين ومقدّساتها وثرواتها واستبدالها بـ "الرواية الصهيونيّة المزيّفة"؛ بهدف إقناع العالم بـأحقيتهم بتلك الدولة، هذه الخطوة التي تبعها خطواتٌ من الخداع والتزوير والتدمير والمجازر والجرائم الوحشية وصولًا للنكبة والتشريد عام 1948واحتلال بعضٍ من فلسطين، ثمّ تبعتها هزيمة حزيران 1967 واحتلال ما تبقى منها... مع النجاة من المحاسبة والعقاب للمجرمين من جانب الهيئات والمؤسسات الحقوقية والقانونية الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة والهيئات المنبثقة منها رغم صدور المئات من المشاريع والقوانين التي لم يُنفّذ منها شيءٌ كون الماكينة الإعلامية الغربية المؤثرة تقع تحت السيطرة الصهيونية، وهي القادرة على قلب الحقائق والتحكّم بنشر ما تريده وما يخدم أجندتها أمام المجتمع الدولي الذي يتبنى الرواية الأقوى والصورة التي تخدم "دولة الكيان" بوجهها الإنساني المتحضّر المدافع عن "شعبها الأعزل ضد الإرهاب الفلسطيني"! إضافةً لاعتبارها واحة الديمقراطية في المنطقة، مع أن الواقع على الأرض يشي بالعكس، فوحشيّتها وممارستها سياسة الفصل العنصري يرقيان لمستوى جرائم الحرب، لكن ذلك الزيف والتوحّش يقابله الضعف الإعلاميّ الفلسطينيّ والعربيّ وعدم قدرته على إيصال الحقيقة والطعن بالدعاية الصهيونيّة وفضح "إسرائيل" وصولًا لتعميق عزلتها الدوليّة.
دور مؤسّسات المجتمع المدني بإحياء الذاكرة:
اعتمد الفلسطينيون في نضالهم على البندقية والعمليات الفدائية والانتفاضات المتتالية لاسترداد الحقوق والأرض، متيقنين بأنها الطريق الوحيد نحو النصر والتحرير... حتى الصحافة الفلسطينية كانت تركّز على تلك المحاور. ومع مرور الوقت تغيّرت بعض المفاهيم وتوصلت مؤسسات المجتمع المدني المختلفة لقناعة أن ذلك وحده لا يكفي، بل يجب أن يترافق مع التوثيق وإحياء الذاكرة الشفوية وإيصالها لمختلف الأجيال منطلقين من مقولة: "من لا يملك ذاكرة يموت" وباعتبار أن ذاكرة الشعب الفلسطيني حيّةٌ ومتّقدةٌ، لذا يجب توجيهها نحو كشف المحاولات الصهيونية الهادفة لطمس الذاكرة الفلسطينيّة، ومن ثَمَّ إظهار الحقيقة عبر وسائل الإعلام المختلفة "المقروءة والمسموعة والمرئية" خاصّةً أنّ العدو يراهن على مقولة غولدا مائير: "الكبار يموتون والصغار ينسون " فكان الفلسطينيون بالمرصاد لتلك الأمنيات الصهيونية مستفيدين من التطور التكنولوجي وتحوّل العالم إلى قريةٍ صغيرةٍ ودخول النت إلى كلّ منزل؛ ما أدى لزوال بعض الحواجز وباتت القدرة على الوصول إلى المؤسسات المجتمعية كافةً والهيئات الدولية والفعاليات المختلفة بلا عوائق صهيونية، انتشرت "الرواية الفلسطينية" وتعرّف العالم إلى الحقيقة، فانقلب السحر على الساحر وتوسع التضامن الأممي مع القضية الفلسطينية، وتتالت زيارة الوفود الغربية للأراضي المحتلة للاطلاع على الواقع ونقله لشعوبهم التي لم تكن تعرف سوى "الرواية الصهيونية المزيّفة" حتى إن البعض منهم تولى مسؤولية الوقوف بوجه إخلاء المناطق الفلسطينية، وإقامة المشاريع الاستيطانية مكانها، وأقام البعض منهم مع العائلات المهددة بالتهجير وتوثيق مجريات حياتهم اليومية والصعوبات المعيشية والتعليمية في ظل سياسة التفرقة العنصرية والمضايقات المدروسة والإرهاب الصهيوني المنظم... فكان للصوت والصورة التي نقلها الشباب الفلسطيني والمتضامنون معهم الأثر الأكبر بكشف الحقيقة، وتغيير المواقف، وليس أدل على ذلك من الفعاليات المرافقة للنكبة 75 ومنها:
- عقد جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة إحياءً لـ " الذكرى 75 للنكبة " مؤخّرًا وهي المرة الأولى منذ عام 1948 ما يؤكّد على تعميق العزلة الدوليّة لدولة الاحتلال الصهيوني.
- انتشار جملة "نكبة 75" بكل اللغات على وسائل التواصل الاجتماعي كافةً وتحولها إلى تريند، وهذا مؤشّرٌ جَلِي على المتغيرات الدولية التي توجب المزيد من العمل عليها.
- تكثيف اللقاءات بالصوت والصورة مع "جيل النكبة" عبر السوشيال ميديا والحديث عن وقائع الاعتداءات والمجازر ضد الشعب الفلسطيني وأراضيه وممتلكاته ومقدساته وصولًا إلى نكبة عام 1948 وهذا يفند المزاعم الصهيونية بأن فلسطين أرض بلا شعب.
- انتشار الفعاليات المتنوعة عبر الزوم ومختلف الوسائط الأخرى التي شارك فيها مختلف الأجيال الفلسطينية للتأكيد أن الكبار يسلّمون العُهدة للأبناء والأحفاد وأن الذاكرة الفلسطينية حية والإرث أمانة لن يتخلى عنها الشعب ما دام فيه طفل يرضع.
- إحياء الشعب الفلسطيني في كل مناطق اللجوء والشتات إضافة للداخل الفلسطيني المحتل للذكرى، وإلقاء الضوء على القرى والمناطق المدمرة والمهجرة عام 1948 وتنظيم الرحلات والزيارات من قبل العائلات لها ترسيخًا لفلسطينيّتها وحقّ العودة إليها وإعادة إعمارها من جديد.
هذا نذر يسير من فعاليات ذكرى النكبة، لكن ذلك سبقه الكثير من النشاطات والإجراءات التضامنية ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- ازدياد نشاط مؤسسات المجتمع المدني ومنها حملة مقاطعة البضائع الصهيونية "B D S" وتوسعها في العالم وتأثير ذلك على الاقتصاد الصهيوني، ما دفع قادة الكيان لتهديد القائمين عليها.
- توقف قرارات الإخلاء والتهجير للأحياء والمناطق المهددة "الشيخ جراح، الخان الأحمر، حي سلوان، حوّارة ..... وغيرها"، نتيجة توسّع الحملات التضامنيّة الدوليّة معها منعًا لإقامة المستوطنات مكانها.
- المظاهرات والاعتصامات الجماهيرية في مختلف دول العالم رفضًا لحصار غزة والاعتداءات الصهيونيّة المتكرّرة على القدس ومقدّساتها ومختلف مناطق الضفة الغربيّة المحتلّة.
- توسّع الحملات الإعلاميّة والفعاليات التضامنيّة للتعريف بالواقع الفلسطيني قبل النكبة ونشر "الطوابع، الصحف القديمة، العملات، المؤسّسات التعليميّة والصحيّة والثقافيّة والفنيّة والفعاليّات الاقتصاديّة من تجارةٍ بحريّةٍ وبريّة، خاصّةً بوجود شبكة المواصلات البرية والحديدية والبحرية والجوية، وغيرها"، ما يؤكد على أن فلسطين كانت من أكثر الدول ازدهارًا في المنطقة.
خلاصة القول: لن أقول لو أننا تنبهنا لأهمية الإعلام والتوثيق واللحاق بالركب العالمي ونشر الحقيقة لَمَا طال أمد الاحتلال وكنا توصلنا لأوسع تضامن دولي مع قضيتنا كما حصل مؤخّرًا، لكن.. "أن تصل متأخّرًا خيرٌ من ألا تصل أبدًا".
المصادر: الجزيرة نت.. وسائل الإعلام المختلفة.. السوشيال ميديا.