Menu

وليد دقة.. حرِّر نفسك بنفسك

ثائر أبو عياش

يبدأ صهر الوعي للإنسان الفلسطيني الذي يُمارس عليه كل أنواع القهر/التسلط منذ اللحظة التي يطرق فيها الاحتلال على باب البيت ليلة الاعتقال صارخاً "جيش الدفاع الإسرائيلي"، حيث يسعى الاحتلال منذ هذه الليلة بفرض سلطته كمستعمر يمتلك القوة، وأساليب القمع، والسيطرة على العقل البشري قبل السيطرة على الجسد باحتجاز سكان البيت، ووضع الأصفاد في يد المعتقل، وهنا يحاول الاحتلال في البعد الاستراتيجي تحويل البيت لسجن، وأكثر كأنه يقول لسكان البيت: "أنا هنا"، حيث يقوم بربط المكان والزمان بالآلام التي تصبح مصاحبة للمعتقل ما بعد مرحلة السجن، حيث يُشكل مكان وزمان الاعتقال ذكريات فاصلة ما بين الاعتقال وما بعده.

إن حالة الرفض التي على الإنسان الفلسطيني أن يمارسها منذ ليلة الاعتقال يجب تستند إلى وعي بحقيقة أن هذا ليس "جيش دفاع"، بل هو احتلال "استعماري احلالي" كما وصفه الشهيد " أبو علي مصطفى "، وأن إدراك حقيقة الدور المطلوب من الجنود، والقصد هنا المهمة غير المعلنة المستخدمة عبر الصراخ، والطرق على الأبواب، واستخدام عنصر المفاجأة، وأكثر رائحة اللباس العسكري، والتفتيش، ليس في جوهرها إلا "السيطرة السيكولوجية" من خلال "الخوف" على العقل البشري لجره نحو الاستسلام، وأكثر الرضوخ إلى الجنود الذين يسعون في الظاهر لاعتقال الجسد.

إن تحرر الإنسان الفلسطيني المقموع في الخارج قبل الداخل من فكرة "السجن" حتى ما قبل ليلة الاعتقال عبر آليات واستراتيجيات نفسية تساعده على فهم حقيقة الصراع، وأكثر التحرر من فكرة "الخوف"؛ تجعل هذا الإنسان قادراً على أن يقاتل في سبيل الخلاص من القهر/الظلم الواقع عليه، حيث يسعى الاحتلال من خلال "الخوف" وهو المبدأ الذي يرتكز عليه في إضعاف نفسية الإنسان الفلسطيني عبر توضيح مقصود بشكل مباشر وغير مباشر، لإضعاف أي تحرك يقوم به الإنسان الفلسطيني، حيث سيواجه هذا التحرك؛ إما "بالقبر أو السجن"، وهذا التوضيح قاله لي ضابط الاعتقال أثناء اعتقالي: "أن ممارستك للأعمال "الإرهابية" ضد "أمن" دولة إسرائيل ستجعلك تعود إلى السجن مرة أخرى إذا لم يكن إلى القبر"، لأن الأمن هو لُب الاعتقال، وأكثر وصم الاحتلال نفسه عمداً بأنه "دولة أمن".

السجن هو آليه من آليات القمع التي يستخدمها الاحتلال للسيطرة على الإنسان الفلسطيني، وبتر نشاطه المقاوم، وهو مؤسسة "عقاب" بالنسبة له، أما الفلسطيني عليه أن يتعامل مع السجن كمرحلة من مراحل المقاومة، وكجزء من حاله الصراع مع الاحتلال، حيث الخلاص من السجن بشكل أبدي وحتمي هو بالضرورة يحتاج إلى الخلاص من الاحتلال أولاً، لأن الأخير يؤمن بتحقيق حالة الردع الخاص والعام من خلال السجن، ولكن الفلسطيني عليه إدراك أن السجن لا يفرق عن الاحتلال السياسي والثقافي والعسكري، ولا يفرق عن بناء المستوطنات...، ولذلك على الفلسطيني مقاومة السجن، والمقاومة فيه.

إن المهمة الأساسية في البناء الفوقي لليلة الاعتقال _ حيث الاعتقال نفسه هو البناء التحتي_ تكمن في تذويب الوعي على المدى البعيد، وذلك من خلال ترسيخ مبدأ "أنا أُعتقل أنا موجود"، محاولاً بذلك تحقيق حالة من الهلع/الخوف/ الإرهاب النفسي/ والتي ربما نطلق عليها "متلازمة الاعتقال المزمنة"، حيث يسعى الاحتلال من خلال هذه المتلازمة إلى تحويل نفسه إلى مرض داخل سيكولوجية الإنسان الفلسطيني المقهور قبل الاعتقال، وأيضاً ما بعد التحرر من السجن.

يسعى الإنسان الفلسطيني من خلال نشاطه المقاوم إلى الحصول على "الحرية"، والتي قال فيها " غسان كنفاني : "الحرية التي نفسها المقابل"، ولكن لا يمكن الحصول عليها دون أن يحرر الإنسان الفلسطيني نفسه أولاً من قيود الخوف/الرعب، وقيود التضحية أيضاً، حيث المعتقل يحلم دائماً بالحرية والتي قاتل من أجلها حتى ما قبل السجن، ولذلك عليه أن يعلم حتى قبل أن يمارس نشاطه المقاوم أن الاعتقال/السجن جميعها قنوات صغيرة تصب في النهر الكبير وهو نهر الحرية، وأن الاعتقال/السجن هو محطة من محطات الثمن الذي يدفعه الإنسان الفلسطيني نتيجة قراره المقاوم.

يُحرم بطبيعة الحال الإنسان الفلسطيني من حقوقه داخل السجن، وعلى رأس تلك الحقوق هي "الصحة/العلاج، لأن الاحتلال هنا أيضاً يسعى لتعميق سيطرته على حياة الإنسان الفلسطيني من خلال التحكم في تعليمه، وصحته، وأحلامه، وطموحاته، وسيكولوجيته، ومستقبله أكثر، وعند الحديث عن الصحة/العلاج يستخدم الاحتلال حاجة الإنسان الفلسطيني الطبيعية كورقة لصهر الوعي في سبيل التحكم أولاً، والعقاب أبداً، ولذلك على الإنسان الفلسطيني إدراك أن رفض العلاج من قبل الاحتلال، أو رفضه الإفراج المبكر هو أيضاً سيطرة/عقاب.

يؤمن الأسير "وليد دقة" بحقيقة وجوهر هذا الاحتلال من خلال قراءة ومعرفة واعية وثاقبة، حيث لا الحديث عن طفلته وزوجته، وحقه بالحرية، والعلاج، وربما أكثر حقه بالموت بشكل طبيعي في المكان الذي يحبه؛ يقلق المؤسسة الأمنية والسياسية الصهيونية، وأكثر يدرك أن في خضم المعركة الكبرى في العالم على الإنسان أن لا ينسى معركته الخاصة، وهو أكثر علماً بالطبيعة الوحشية للسجن الذي يحاول الاحتلال من خلاله "صهر الوعي للإنسان الفلسطيني، وزرع بذور وحشية مكانه"، كونه يسعى من خلال السجن إلى تحويل نفسية المعتقل إلى نفسية مرعبه في بناءه النفسي، وأيضاً في حاضنته الاجتماعية.

يخوض اليوم الأسير "وليد دقة" معركة حتمية أمام "صهر الوعي"، لأن الأهم هنا أن الاحتلال يسعى من خلال الموت البطيء نفسه ممارسة "صهر الوعي" على الأسير "وليد دقة"، حيث يُريد الاحتلال أن يتحكم أيضاً بالموت بالنسبة للإنسان الفلسطيني.

هي لعبة معقدة ومتشابكة يدرك الأسير "وليد دقة" أهميتها، لأن الاحتلال كان يسعى منذ ليلة الاعتقال لكسر "وليد دقة الفلسطيني/ المقاوم"، والآن يسعى أكثر لكسر الأسير/ المثقف "وليد دقة"، ولكن "وليد" يعلم اليوم أكثر من أي وقت مضى أن عليه "صهر الموت".

*****

* مقال بعنوان " حرِّر نفسك بنفسك/ بقلم: الأسير وليد دقة"، نشر في صحيفة الحدث بتاريخ 16 نيسان/أبريل 2020.