Menu

الاختراع الإسرائيلي للرموز الوطنية

جمال كنج

هذه هي المقالة الثالثة من سلسلة من المقالات لسلط الضوء على الأساطير الصهيونية والتاريخ المصطنع والثقافة المختلقة. المقال الأول: الاختراع "الإسرائيلي" للواقع المصطنع، المقال الثاني: "إسرائيل": تاريخ "القصص الخيالية".

إذا وجه سؤال إلى مجموعة من المثقفين في الغرب عمن أسس مدينة القدس ، قد يدعي البعض عدم المعرفة، لكن من المرجح أن معظمهم سيجيب بأنه الملك داود، وقد يعود ذلك إلى الادعاء التوراتي الذي يسميها بمدينه مدينة داود. هذا فقط مثال كيف تتمكن الأساطير التي لا يتم نقضها، والمنقولة من مصادر غير تاريخية مثل النصوص الدينية، أن تنجح بتشكيل الروايات التاريخية السفسطائية. هذا المقال سيناقش بعض الأساطير الصهيونية المقبولة "كحقيقة" في الغرب.

يعتمد التطور العضوي للأمم على عدة عوامل: الرموز التاريخية التي تشكل جزءا مهما من الذاكرة الوطنية، والتراث الثقافي المتميز، والانتماء، والأرض، والقيم، والعادات، والتقاليد، واللغة المشتركة، والسلوكيات الاجتماعية، حيث تتطور هذه القيم على مر السنين وتنتقل عبر الأجيال لتشكل أساس بناءً الأوطان.

أما تطور الكيان الصهيوني فقد اتبع مسارا غير تقليدي في عمليه البناء حين اتخذت الحركة الصهيونية السياسية نهجا عكسيا من خلال احتلال الأرض، أولا، متجاوزه العملية الطبيعية لبناء اي مجتمع وسلبت جوانب مختلفة من الثقافة المحلية وادعتها لنفسها من أجل صناعة تاريخ ثقافي مزيف.

على سبيل المثال غالبا ما يدعي القادة الإسرائيليون، أن القدس كانت العاصمة اليهودية منذ 3000 عام، في الغرب، لا يتجرأ أحد بأن يسائل صحة مثل هذا الادعاء، إما بسبب الجهل، أو لسبب ديني، أو الخوف من اتهامه ب "معاداة السامية" عند تحدي الروايات الصهيونية، هذا الترهيب الفكري المنظم هو السبب الرئيسي وراء فشل التفكير النقدي في الغرب في كثير من الأحيان في تحدي الروايات الإسرائيلية.

نتيجة ذلك، لا يعلم الكثيرون بأن مدينة القدس كانت عاصمة للفلسطينيين الأصليين لأكثر من 6000 عام، أو  3000 سنة قبل وصول القبائل اليهودية التي هاجرت من بلاد ما بين النهرين، هذا وتشير كل الأدلة التاريخية والأثرية إلى أن الكنعانيين الفينيقيين، أسلاف فلسطينيي اليوم، هم من أنشأوا أول مستوطنة بشرية في القدس في الألفية 4 قبل الميلاد، حيث أن اليبوسيون، وهم قبيلة كنعانية، قاموا ببناء مدينه صغيرة على أرض مرتفعة واسموها "أوروشاليم"، هذا الاسم مشتق من المزج بين كلمتين "أور"، والتي تعني "أسسها"، و "شاليم"، أي إله الغسق الكنعاني الفينيقي، ومنها أتت كلمه أورشاليم.

وعليه فإن الرمز الوطني الصهيوني الأكثر شهرة، القدس، لم يكن مدينة داود كما يسميها العبرانيون، بل مدينه وجدت قبل 3000 عام من ولادة داود، ووهبت لإله الغسق الكنعاني، شاليم، وليس لرب أبراهام، هذا وقد تبنت الصهيونية اسم محرف ومأخوذ من اللغة الكنعانية، حين أطلقوا على المدينة اسم "يروشالاييم"، لكي يبدوا وكأن للاسم الأصلي جذور عبرية.

إن الاغتصاب الصهيوني للرموز الوطنية منتشر بشكل واسع لدرجة أنني أيضا وقعت ذات مرة في هذا المفهوم الخاطئ، معتقدا أن "أوروشاليم" من أصول عبرية، وأذكر في أحد المرات سماع كاهنا مسيحيا في لبنان يشير إلى القدس باسم "أوروشاليم" بدلا من اسمها العربي "القدس"، عندها فشلت أن أدرك أن الكاهن كان يستخدم الاسم الكنعاني الأصلي، مذكرا بأن الصهاينة المعاصرين اغتصبوا اسم "أوروشاليم" عندما احتلت المدينة في القرن 10 قبل الميلاد ومرة أخرى في القرن 20 بعد الميلاد.

إضافة إلى الادعاء المزور تاريخيا حول "العاصمة الأبدية"، هناك رمز وطني آخر مختلق على أساس أنه  "يهودي"، وهو النجمة السداسية في العلم، خلافا للاعتقاد الشائع، فإن الشكل السداسي في العلم الصهيوني لم يكن رمزا يهوديا، إلا حوالي في القرن ١٧ في أوروبا الشرقية، وقد أخذت طائفه الكباليين اليهود هذا الرمز  من الأدب العربي في العصور الوسطى، حيث استخدم في طقوس تعويذيه، هذا واستخدمت الرموز السداسية بشكل واسع في الكنائس المسيحية والمساجد الإسلامية كزخرفه معماريه قبل قرون من استخدامها لأول مرة في كنيس يهودي، ويشرح المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند في كتابه، "اختراع أرض إسرائيل"، أن نجمة داود ليست رمزا يهوديا ولكن تعود أصولها إلى شبه القارة الهندية، حيث تم استخدامها على نطاق واسع في مختلف الثقافات الدينية والعسكرية.

هذا وما يزال من الممكن العثور على المثلثين المتساوي الأضلاع اليوم في أعمال ترصيع عرق اللؤلؤ بأشكال سداسية كجزء من تصميمات الفسيفساء على الكراسي والطاولات والصناديق الخشبية المصنوعة في سوريا، يعود تاريخ هذا الشكل الفني الرائع إلى آلاف السنين في مدينة دمشق، أقدم مدينة مأهولة بشكل دائم في العالم.

رمز آخر يفتقر إلى الأهمية الدينية المتأصلة في التاريخ اليهودي وهو ما يسمى ب "الحائط الغربي" أو حائط المبكى، الجدار ليس جزءا من هيكل داخلي ولا يمكن أن يكون جزءا من مبنى، بل هو حائط خارجي يدعم الأرض المرتفعة (الحرم الشريف) وامتداد للجدار الدفاعي المحيط بالبلدة القديمة والذي سبق بنائه الوجود اليهودي، هذا وقد أعيد ترميم هذا الجدار والذي يبلغ طوله حوالي 2.5 ميل وارتفاعه 40 قدما بين عامي 1537 و 1541 في عهد السلطان العثماني سليمان الأول، أما

اليهود الذين اندمجوا في الثقافة الفلسطينية وحافظوا على معتقداتهم الدينية وعاشوا في فلسطين، بما في ذلك القدس، جنبا إلى جنب مع أخوتهم من المسلمين والمسيحيين لعدة قرون، وعلى مر التاريخ، قبل ظهور الحركة المسيحية الغربية وولادة الصهيونية السياسية، لا يوجد في التاريخ ما يشير إلى أن جدار التحصين الغربي قد أستخدم كموقع للصلاة، ولم يصبح الجانب الغربي من الجدار نقطة جذب دينية إلا في القرن السابع عشر، مدفوعا بالحركة المسيحية التوراتية التي آمنت بضرورة خلق الظروف لعودة المسيح. وفي محاولتها المستميتة وراء أوهام المعبد، أجرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حفريات واسعة النطاق تحت الحرم الشريف لأكثر من 60 عاما من غير العثور على أثار تشير إلى أي وجود تاريخي لمعبد في منطقه الحرم.

أما في التاريخ الحديث، قد لا يعلم البعض أن النشيد الوطني الصهيوني، "هاتيكفاه"، والذي كان نشيد الحركة الصهيونية العالمية، سرق أو اقتبس من اللحن الشهير "فلتافا" (وطني) للملحن التشيكي بيدريتش سميتانا.

إن غياب الذاكرة الوطنية الإسرائيلية جعل من الضروري للصهيونية السياسية بناء شبكة من الخداع من خلال الاستيلاء على الرموز الوطنية في أرض فلسطين وإضفاء حقائق بديلة حتى أصبحت متأصلة في الخطاب الغربي، وذلك من خلال غرس الروايات الكاذبة والخرافات في الإعلام والكتب، لتشكيل واقع جديد مصدره الأساطير، أو كما قال رئيس الدعاية النازي الشهير جوزيف جوبلز، "الكذبة التي تقال مرة واحدة تبقى كذبة، لكن الكذبة التي تقال ألف مرة تصبح حقيقة".

هذا الأخير يمكن أن يفسر الإعجاب المتبادل بين الكاذب دونالد ترامب، ونسخته العبرية، بنيامين نتنياهو.