بينما يستعد المصريون للاحتفال بنصر أكتوبر المجيد بعد نحو شهر من اليوم، إذا بالإعلام العبري يفاجئهم بما لم يكن يخطر على بال.. فقد كشف إعلامهم الخداع أن السلطات الإسرائيلية أفرجت عن مئات الوثائق السرية الخاصة بحرب أكتوبر بدون سابق إنذار! فلماذا الآن؟!
الغريب في الأمر أنه برغم الحجم المعلن الهائل لتلك الوثائق، فإننا لم نعلم مما تحويه شيئاً، اللهم إلا فقرات مجتزأة، مما أرادوا هم أن تختطفه وسائل الإعلام وتدور به الألسنة.. وهو ما يعنى أن لهم هدفاً أبعد مما أعلنوه وصرحوا به!
التوقيت المغرِض
لا ريب أن توقيت الإعلان عن تلك الوثائق مرسوم ومقصود وله مغزى..
وكالات الأنباء تناولت الخبر بشيء من الدهشة والتشفي، فقالوا إن إسرائيل تعترف بالفشل الاستخباراتى الذريع، ثم أنها بررت لهذا الفشل.. قالوا أيضاً إن إسرائيل قررت رفع السرية عن جميع ملفات حرب أكتوبر بعد مرور خمسين عاماً عليها، وأن تلك الوثائق أبرزت حالة كبيرة من التخبط لدى صناع القرار قبل أيام من بدء الهجوم المصري، وأن من بين الوثائق المنشورة ما يتعلق باللحظات الأخيرة ما قبل الحرب، ومن بينها صورة لجنود إسرائيليين يحملون قاربا يقل زميلهم وفتاة للاحتفال بزواجهما قبل لحظات من بدء الهجوم المصري! أي أن الجيش الإسرائيلي كله كان في حالة استرخاء تام!
الدكتور محمد عبود أستاذ اللغة العبرية بجامعة عين شمس أوضح لموقع RT الروسي: أن إسرائيل ما زالت تحجب الكثير من الوثائق الهامة والخطيرة بشأن حرب أكتوبر ولم تفرج عنها حتى اللحظة برغم أن القانون الإسرائيلي لا يسمح بمد فترة الحظر للوثائق السرية أكثر من خمسين عاماً.. لكن الذي يبدو أن الوثائق المنشورة ليست إلا قليلاً من كثير، وأن أغلب تلك الوثائق المنشورة كانت تتعلق بتقرير "أجرانات" الذي تم إعداده بعد حرب أكتوبر تحت ضغط من الشعب الصهيوني للتحقيق في أسباب الهزيمة الإسرائيلية.. أكثر من هذا أن هناك عمليات حذف لمقاطع معينة بالوثائق، وحتى عمليات الترجمة للمقاطع المعلنة جاءت مزيفة وغير معبرة عن فحوى المقاطع الأصلية.. ما يعنى أننا أمام عملية ممنهجة لبث رسائل محددة ولها أهداف..
ومهما كانت تلك الوثائق تؤكد على الفشل الإسرائيلي الذريع، وأن هناك مجموعة محددة من القادة الصهاينة أخطأوا التقدير.. إلا أننا يجب ألا نغفل ضرورة فهم مسألة توقيت نشر الوثائق لأنها مسألة جوهرية ومثيرة للقلق.. ولكي ندرك مدى أهمية تلك المسألة علينا أن نعود بالأحداث إلى ما قبل حرب أكتوبر.. هناك في إسرائيل، حيث كان الإعلام العبري يحرص على تصوير الجيش الإسرائيلي أنه الجيش الذي لا يُقهر، وأن العرب قد استسلموا للواقع المرير، وأن الحرب المزعومة ضدهم لن تأتى أبداً!! هكذا تم عمل غسيل مخ مُركز للشعب الإسرائيلي. لهذا فإن هذا الشعب المُغرر به كان أول المصدومين بما حدث في الحرب، وتحت الضغط الكبير على قادة إسرائيل تم تشكيل لجنة للتحقيق في أحداث الحرب وأسباب الهزيمة اشتهر باسم تقرير "أجرانات"..
معنى هذا أن الإعلام العبري كان يعمل دائماً لخدمة مصالح الجيش الإسرائيلي، وهذا لم يتوقف حتى الآن.. وهو ما يعنى أن الوثائق المسربة اليوم لها رسالة محددة يبثها قادة إسرائيليون، حتى وإن كانت وسيلتهم لهذا دس السم في العسل، وتمرير رسائل ملغومة داخل رسالة شكلية لا تضيف جديداً.. فما هي الرسائل التي تريد إسرائيل بثها اليوم؟ ولماذا علينا أن نقلق ونتخذ حذرنا؟
خطة خداع إعلامية
اللواء سمير فرج تعليقاً على ما تم نشره من وثائق بثتها وسائل الإعلام العبرية، قال: "للأسف لم يصدر حتى الآن التقرير النهائي، وكل ما صدر عبارة عن عناوين لم تخرج فيها إدانة لأي أحد، وكل ما صدر هو عزل رئيس الأركان الإسرائيلي خلال حرب أكتوبر". أي أن كل الذي يصدر عن الإعلام العبري مجرد تحصيل حاصل، وتبريرات للهزيمة الفادحة للجيش الإسرائيلي، وهو ما يؤكد أن اللجنة أثبتت خطأ رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي لعدم توقعه أو إعطائه لرأي يجزم بأن هناك حربا قادمة من مصر وسوريا ضد إسرائيل. ولهذا السبب لم تعلن لجنة اجرانات تقريرها النهائي حول الحرب حتى الآن، لأنه يؤكد خطأ جولدا مائير وموشيه ديان لاقتناعهما بعدم شن مصر وسوريا أي هجوم، ولم يقوما بإعلان التعبئة العامة.
وفى محاولة لفهم دوافع الإعلام العبري لنشر هذه الوثائق التي وصفت بأنها سرية، تعالوا أولاً نتذكر ما حدث بإسرائيل خلال الشهور القليلة الماضية، بسبب ضغط نتنياهو لتمرير تعديلات قوانين لتحقيق مصالح شخصية من خلال البرلمان، وهو ما تسبب في مظاهرات عارمة وصلت إلى أبواب منزل نتنياهو نفسه.. ثم هدأت الأمور قليلاً أو بدا أنها هدأت بينما السخط الشعبي ضد السلطة الإسرائيلية ما زال مشتعلاً كالنار تحت الرماد.. ثم هناك العمليات الفدائية المتتالية في حي جنين والتي كبدت الإسرائيليين خسائر بشرية، وأهم منها ما حدث من هزيمة نفسية على المستويين الشعبي والقيادي.. هكذا وجدت السلطة الإسرائيلية نفسها بين شقي رحى.. وأن الأمر يستدعى إعادة تهيئة الرأي العام الإسرائيلي، وإعادة توجيه بوصلة الرأي العام العربي.. والرسالة الكامنة في تقرير أجرانات المفرج عنه، وفى الرسائل الصغرى المزروعة في ثناياه، أن أخطاء إسرائيل كانت في الأصل بسبب فئة محدودة من القادة أخطأوا أو أهملوا أو تهاونوا بعض الشيء، لا بسبب أن الإعداد المستمر للجيش المصري خلال حرب الاستنزاف وصولاً إلى حرب أكتوبر، وخطة الخداع الاستراتيجي المصرية.. كانتا من أسباب انتصار مصر على إسرائيل.. إن التقرير يعود ليدور في فلك التبرير والبحث عن الذرائع..
لكن الخطير في نشر تلك الوثائق الآن، ليس في فحواها، ولا فى تلك الرسائل السامة المدسوسة في طواياها.. لكن أخشى ما أخشاه أن تكون إسرائيل لها أهداف أبعد من مجرد نشر تقارير وأوراق وصور ومقاطع فيديو.. وأنها تعد العدة لخطوة قادمة أشد خطورة؛ لأن الإعلام العبري ليس إلا فرقة من فرق الاستطلاع لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
ساعات ما قبل الحرب
لقد أكد موقع "تايمز أوف إسرائيل" أن أرشيف إسرائيل الرسمي نشر ملفات زعم أنها تشمل مجموعة من آلاف الوثائق والصور والتسجيلات ومقاطع الفيديو توفر نظرة شاملة حول الطريقة التي تعامل بها الكيان الصهيوني خلال فترة حرب أكتوبر، وهي مزاعم خادعة أو ناقصة في أفضل الأحوال.. وقالت المسئولة عن الأرشيف روتي أبراموفيتش: "هذه نظرة شاملة على قصة الحرب، التي أثرت على جميع مناحي الحياة في إسرائيل.. هذا هو أكبر كشف قام به أرشيف الدولة على الإطلاق".. والذي يؤكد كذب هذه المزاعم، أن التقرير ذاته يشير إلى أن كل الوثائق الصادرة خاصة فقط بسويعات ما قبل الحرب! أي أن أحداث الحرب ذاتها تظل سراً يحتفظ به الكيان لنفسه ولا يعلن من فحواها شيئاً!
الموقع الذي قيل إنه بث الوثائق السرية اكتفى بنشرها باللغة العبرية فقط، وشملت حوالي 3500 ملف أرشيف تحتوي على مئات الآلاف من الصفحات، و1400 وثيقة ورقية أصلية، و1000 صورة، و750 تسجيلا، و150 دقيقة من المداولات الحكومية، وثمانية مقاطع فيديو، باستثناء عدد قليل من الملفات التي لا تزال سرية، وقد استغرق تحميل المواد عامين ونصف العام من العمل.. أغلب تلك الوثائق هي سجلات للمداولات بين القادة الإسرائيليين فيما يخص الاستعداد للحرب، وأكثرها من باب تحصيل الحاصل ولا تضيف جديداً لمشهد الهزيمة الإسرائيلية..
لكن أخطر ما في تلك الوثائق أنها تدس السم في العسل، وتبث خلالها رسائل مطوية في ثناياها تخلط الحق بالباطل.. فعلينا أن ننتبه ونحذر مما تنطوي عليه تلك الوثائق.. نقرأها نعم، لكن نقارنها بما لدينا من حقائق دامغة، حتى نعلم على وجه اليقين ما تريده إسرائيل من نشر تلك الوثائق ونحتاط لما تدبره.