Menu

-إسرائيل- ما قبل الدولة وما بعدها

خالد فارس

كارل ماركس بين التحرر الإنساني والسياسي (المسألة اليهودية، مثال):

مَيَّزَ ماركس بين التحرر الإنساني والسياسي. يعود الأول الى بناء الهدف الإستراتيجي الكلي الذي يقيم فيه المجتمع الشيوعي، وهو يمثل تحول كلي في التاريخ وليس جزئي، لأنه بحاجة الى ظروف عامة كونية تتجاوز الخاصة والمحلية. والثاني هو تحرر المرحلة، أو التحرر من الظلم والاضطهاد لكي يتمكن الإنسان من اكتساب ظروف أفضل للمضي قُدُماً في التحرر الإنساني.

يشير ماركس إلى أن أسئلة التحرر تكتسب بُنْيَة وصيغة لها وفقاً للدولة التي تتوالد فيها الأسئلة. يقول في كتاب المسألة اليهودية "تكتسب المسألة اليهودية شكلاً مختلفاً تبعاً للدولة التي يعيش فيها اليهودي. في ألمانيا، حيث لا توجد دولة سياسية، ولا توجد دولة في حد ذاتها، فإن المسألة اليهودية هي مسألة لاهوتية محض. يجد اليهودي نفسه في معارضة دينية للدولة التي تعترف بالمسيحية كأساس لها. هذه الدولة هي عالم لاهوتي سابق. النقد هنا هو نقد اللاهوت، نقد ذو حدين – نقد اللاهوت المسيحي واللاهوت اليهودي. ومن ثم، فإننا نستمر في العمل في مجال اللاهوت، مهما عملنا بشكل نقدي فيه".

ويميز فرنسا عن ألمانيا من ناحية الدولة التي فيها فيقول "في فرنسا، الدولة الدستورية، المسألة اليهودية هي مسألة دستورية، مسألة عدم اكتمال التحرر السياسي. وبما أنه تم الاحتفاظ بمظهر دين الدولة هنا، على الرغم من أنه في صيغة لا معنى لها ومتناقضة مع نفسها، أي دين الأغلبية، فإن علاقة اليهودي بالدولة تحتفظ بمظهر المعارضة الدينية".

أما في أميركا التي تختلف عن ألمانيا وفرنسا "فقط في دول أمريكا الشمالية – على الأقل في بعضها – تفقد المسألة اليهودية أهميتها اللاهوتية وتصبح مسألة علمانية حقيقية. فقط عندما توجد الدولة السياسية في شكلها المكتمل التطور، يمكن لعلاقة اليهودي، والرجل المتدين بشكل عام، بالدولة السياسية، وبالتالي علاقة الدين بالدولة، أن تظهر نفسها في طابعها الخاص، في طبيعتها. نقاء. ويتوقف نقد هذه العلاقة عن كونه نقدًا لاهوتيًا بمجرد أن تتوقف الدولة عن تبني موقف لاهوتي تجاه الدين، بمجرد أن تتصرف تجاه الدين كدولة – أي سياسيًا. ويصبح النقد إذن انتقادا للدولة السياسية. عند هذه النقطة، حيث يتوقف السؤال عن أن يكون لاهوتيًا،...".

على الرغم أن ماركس يدرك أن أميركا أيضا دولة دينية، ولكنه يقول " ومع ذلك فإن أمريكا الشمالية هي في المقام الأول بلد التدين، كما يؤكد لنا بومونت، وتوكفيل، والإنجليزي هاميلتون بالإجماع. ومع ذلك، فإن دول أمريكا الشمالية لا تخدمنا إلا كمثال. والسؤال هو: ما علاقة التحرر السياسي الكامل بالدين؟ فإذا وجدنا أنه حتى في بلد التحرر السياسي الكامل، لا يوجد الدين فحسب، بل يظهر حيوية جديدة وقوية، فهذا دليل على أن وجود الدين لا يتعارض مع كمال الدولة. ولكن بما أن وجود الدين هو وجود الخلل، فإن مصدر هذا الخلل لا يمكن البحث عنه إلا في طبيعة الدولة نفسها. ولم نعد نعتبر الدين هو السبب، بل مجرد مظهر من مظاهر الضيق العلماني. ولذلك، فإننا نفسر القيود الدينية للمواطن الحر من خلال قيودها العلمانية. ونحن لا نؤكد أنهم يجب أن يتجاوزوا ضيقهم الديني ليتخلصوا من قيودهم العلمانية، بل نؤكد أنهم سيتغلبون على ضيقهم الديني عندما يتخلصون من قيودهم العلمانية. نحن لا نحول الأسئلة العلمانية إلى أسئلة لاهوتية. لقد اندمج التاريخ في الخرافات لفترة طويلة، ونحن الآن ندمج الخرافات في التاريخ."

بذا، فإن تصنيف الدولة، نوعها، والضِّيق العَلْماني فيها، وبالأحرى البحث في طبيعة الدولة هو الذي سيحدد لنا عن المرحلية، عن الثورة الجزئية الضرورية في زماننا. والمعيار الذي يقيس بها ماركس الثورة من خلال التحرر، هو أنه قفزة الى الأمام في التاريخ، يقول " لا شك أن التحرر السياسي يشكل خطوة كبيرة إلى الأمام. صحيح أنه ليس الشكل النهائي لتحرر الإنسان بشكل عام، لكنه الشكل النهائي لتحرر الإنسان ضمن النظام العالمي القائم حتى الآن. وغني عن القول أننا نتحدث هنا عن التحرر الحقيقي والعملي".

مشروع الدولة القومية اليهودية:

ينمو ويتحرك السؤال اليهودي الإسرائيلي، من داخل الدولة الإسرائيلية، بعد أن تَحَرَّرَ السؤال من واقعه ما قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية، عندما كان سؤال في المسألة اليهودية من داخل الدولة الأوروبية الغربية التي يطرح فيها السؤال، كما جاء في أعلاه. بما يعني أي مواجهه مع المسألة اليهودية، سيكون مع الدولة ذاتها، طبيعتها ونمطها. والسؤال الذي نعتقد أنه يرتقي في النضال السياسي الفلسطيني، يتعلق بِكَيْفَ يمكن وقف عجلة دولة التوراة اليهودية القومية، وإسقاط مشروعها وعناصر بناءه، سواء من خلال مقاومة ومواجهة التطبيع و-أو المقاومة السياسية والعسكرية وحتى المدنية، أو تحالفات سياسية جديدة، ما أمكن في ذلك من واقع وإمكانيات. للسؤال وجه مرحلي وآخر إستراتيجي، لسنا في هذا المقال بصدد الإجابة عليه. إنما نحن بصدد وضع إطار عام، موضوعي، من واقع التحركات لاسياسية الماثلة أمامنا اليوم.

بعد دَسْتَرِةْ قانون القومية اليهودية، الذي صار نافذاً في 19 يوليو 2018، كقانون أساس، يرتقي الى مستوى الدستور، دشن القانون مرحلة جديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يُذكر أن القانون الذي قاد تمريره رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو ينص على أن إسرائيل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي" وأن "حق تقرير المصير فيها حصري للشعب اليهودي فقط" وعلى أن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية للدولة. ولا تشير أي مادة في القانون إلى المساواة بين المواطنين أو إلى الطابع الديمقراطي للبلاد.

لم يتغير جوهر المسألة اليهودية، بل حافظ على أن يبقى أنثروبولوجي ديني، سواء قبل أو بعد قيام الدولة الإسرائيلية. كما يقول ماركس في كتاب المسالة اليهودية أعلاه: في ألمانيا "مسألة لاهوتية محض"، وفي فرنسا "علاقة اليهودي بالدولة تحتفظ بمظهر المعارضة الدينية"، وفي اميركا "ومع ذلك فإن أمريكا الشمالية هي في المقام الأول بلد التدين... مصدر هذا الخلل لا يمكن البحث عنه إلا في طبيعة الدولة نفسها". يأتي قانون القومية اليهودي، لكي يؤكد على أن الدين من طبيعة الدولة الإسرائيلية.

يجسد القانون لحظة ارتقاء وحِفاظْ على دولة التوراة اليهودية، وإلغاء الوجود الفلسطيني في كافة أشكاله، مرةً أخرى، بعد إلغاء النَّكْبَة. هو تَجَلِّي لِفِكرْ اليَمين الصَّهْيوني، الذي استطاع أن يستقطب أغلبية برلمانية، 62 صوتاً في البرلمان. عارض القرار 55 وامتنع نائبين عن التصويت. لا شك بأن القانون سيثير تناقضات جديدة، ويطرح سؤال السيطرة على السياسي الإسرائيلي الذي تمثله الدولة. وهل أن الدولة الإسرائيلية أوقفت التغيير السياسي، بترسيخها الثوابت التي تمثلها بنية علاقات دينية تجسدها العائلة اليهودية.

بلغة أخرى، ما التغيير السياسي الذي تَبَقى لليمين الإسرائيلي، من خلال الدولة التوراتية، واستدامة دولة دينية قومية؟

بما أن قواعد اللعبة السياسية على مستوى الدولة تحولت الى يمين قومي ديني محض بنفاذ قانون القومية اليهودي، ينطلق التغيير من خارج ثوابت الدولة التوراتية، وهذا يعني نقض كلي وتاريخي لأي تغيير ممكن أن يأتي من المشروع السياسي الفلسطيني، سواء كان من ترسبات أو تداعيات أوسلو، أو نتيجة الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير و"إسرائيل". أي تحرك مع الفلسطيني، سياسيا، بمقاييس المشروع الوطني الفلسطيني، سوف يَنْفي ويَلْغي ثوابت السياسة اليمينية الإسرائيلية. بذا، التغيير من خارج ما ذو صلة بالفلسطيني، سياسيا. وأي تغيير شرطه أن لا يَمْسَسْ هذه الثوابت.

جيل جديد من الاتفاقات مع الدول العربية: أمام اليمين الصهيوني نموذج اتفاقات إبراهام. لماذا، وماذا فيها مختلف عن الاتفاقات السابقة؟

لو عدنا قليلاً في التاريخ، سنجد أنه عندما وقعت "إسرائيل" اتفاقية كامب ديفيد، اعتقدت أنها خرقت التاريخ، وهذا صحيح، ولكن تَبَيَّنَ أنه لا يكفي لمشروع الدولة القومية التوراتية، وأن الاتفاق عُرْضة لمَخاطِر عدم الاستقرار في أي لحظة. وعندما وقعت إعلان مبادئ أوسلو حدث زلزال داخلي أدى إلى اغتيال إسحاق رابين ثم بدأت حركة معاكسة لكي تُلْغي تداعيات أوسلو على أرض "إسرائيل" الكبرى أو دولة التوراة. وعندما وقعت اتفاقية وادي عربة، وجدت نفسها أمام معادلات جديدة، أهمها كيف ستعيد إنتاج الوطن البديل؟ يقف اليمين الإسرائيلي اليوم أمام مفترق طرق: هل نريد مزيد من التطبيع أم ما هو أكثر من التطبيع؟

للالتفاف على هذا الواقع التاريخي، نَقْرَأْ تحركات اليمين الإسرائيلي لتحقيق نقلة نوعية في التطبيع، وهي الحصول على، ليس اعتراف قانوني بها (كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة)، بل اعتراف تاريخي، الاعتراف في الرواية الصهيونية كاملة، الدولة اليهودية التوراتية الحديثة مقابل الأمن والرخاء الاقتصادي للعرب. اعتراف يتجاوز القانوني بين الدول، شيء آخر جديد.

يحيلنا الموضوع الى سؤال تأسيس التاريخ السياسي في الوطن العربي، تأسيس وطن بمعايير ومبادئ ما قبل جمال عبدالناصر والثورة الجزائرية والفلسطينية وثورات التحرر الوطني والقومي. تحضر اتفاقات أبراهام، كاتفاقات الجيل الجديد، الذي يتخطى الاتفاقات الكلاسيكية التي تأسست على الاعتراف المتبادل القانوني.

شخصية سياسية "إبراهيمية":

دشنت اتفاقات إبراهام، نمط جيل جديد من الاتفاقات، مما دفع اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة وإعلان مبادئ أوسلو الى الخلف، في المرتبة الثانية. اتفاقات أبراهام حجر أساس لعلاقات تاريخية، ما فوق قانونية، أي بناء تاريخ سياسي، وبناء شخصية سياسية "إبراهيمية"، تُطَوّر وتُجَسّدْ ممارسات أنثروبولوجية-دينية-سياسية. هذه الاتفاقيات نُواةْ فكرة تحالف الدولة-العائلة-الدين، نموذج الدولة الحديثة الشرق الأوسطية. الاعتراف بالدولة-العائلة-الدين، ليس اعتراف قانوني إلا في الشكل، البروتوكلي، هي تَجْسيدْ تاريخ سياسي، يُأَصّلْ ويعترف بالرواية اليهودية الأنثروبولوجية الدينية ودور العائلة اليهودية المركزي وثوابتها، مقابل الاعتراف للآخرين بذات الأمر في الجغرافيا السياسية التي تخضع لهم.

اتفاقات أبراهام، والتوسع فيها، يحافظ ويرتقي بقواعد لعبة تاريخية يمينية محضة، إسرائيلية وعربية، هذا أولاً. ثانياً: موازاةً لذلك، لترسيخ دولة التوراة اليهودية، يسعى اليمين الى بناء جبهة تطبيع عربي إسرائيلي، تحدد معسكر الأعداء والاصدقاء بمعايير يمينية ليبرالية مشتركة (أولها إيران عدو مشترك، كما تم فبركته وصناعته في مؤسسات أمريكية إسرائيلية، سانده وشرعنه النظام العربي-البعض). ثالثاً: تَحَييدْ المشروع السياسي الفلسطيني نحو إما وطن بديل، أو حكم ذاتي موسع، أو دولة على طريقة صفقة القرن التي صاغها وتبناها ثم أعلن عنها اليمين الأمريكي بقيادة دونالد ترامب.

إن أخطر ما يمكن أن يحدث في الوطن العربي هو إطلاق عجلة دولة التوراة/الدينية اليهودية القومية، لأن تاريخ المنطقة سوف ينتقل من علاقات قانونية بين "إسرائيل" والدول التي وقعت معها اتفاقات ومبادئ تفاهمات، إلى مرحلة جديدة، درجة الخطر فيها أكبر بكثير من الأولى، علاقات تاريخ سياسي ينطلق من أنثروبولوجيا الأسطورة التوراتية المُمْتَدْ عبر الديني.

 

الدُوَلْ أو الجماعات التي ستعارض ذلك، ستكون عُرْضَة للتفتيت والتقسيم من الداخل (سوريا معرضة للتقسيم، الجزائر تحت التهديد، ليبيا إذا لم تنخرط في العلاقة الجديدة، لبنان بسبب المقاومة....). يسعى المشروع الصهيوني بقيادة اليمين، الى صياغة تحالف دولة-عائلة-دين، على أساس نظام رعاية وحماية مُتبادلة، وإدارة مشتركة للفوائض المالية. وعند إنجاز هذا المشروع، يطمح الصهاينة الى أن يؤول السؤال الفلسطيني الى مَحْض عائلات-دين-سلطة ذاتية موسعة، كما يرغب ويخطط مُنَظِّري المَشْروعْ الصَّهْيوني. هناك مثال في التاريخ الحديث، لِتَقّبُل البعض الفلسطيني، فِكْرَة الدين-العائلة-الدولة في حكم ذاتي مُوَّسَعْ عندما قام الأردن بضم جزء من فلسطين، وتحالف مع أو سانده في ذلك رموز عائلات لها تموضع ديني، تَسْعى إلى دولة تحقق لها وجودها في دولة-عائلة-دين، وليس دولة تحرر وطني أو قومي.

حلم "إسرائيل" في كيان طبيعي داخل الوطن العربي، سلاحها في ذلك أدوات سيطرة على الواقع، سواء في الاقتصاد (التبادل الرأسمالي وتراكم ثروات وإدارة فوائض القيمة) والأمن (استخبارات وأسلحة وتكنولوجيا متقدمة). تحتاج "إسرائيل" لتمرير ذلك الى إعادة تعريف معسكر الأعداء والأصدقاء، وثانياً: بناء منظومة دولتية عربية يهودية تؤسس لدولة عائلات وقبائل وأديان (بنية العائلة-الدين) واقتصاد ليبرالي لإعادة إنتاج مركزية الدولار الأمريكي، وسوق رأسمالي غربي لمواجهة مشروع جمهورية الصين.

لتوضيح موضوع دولة-عائلة-دين، يمكن الرجوع الى مقال

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=805821

يتبع