Menu

انقلابات إفريقيا.. بداية تغيير لملامح القارّة السمراء أم محاولة للتخلّص من الهيمنة الغربيّة؟

محمد أبو شريفة

نشر هذا المقال في العدد 54 من مجلة الهدف الإلكترونية

منذُ أنْ بدأت الانقلاباتُ العسكريّةُ في عددٍ من الدول الإفريقيّة تتوالى تباعًا؛ بدأ الحديث حينها يدور عن تحوّلاتٍ كبرى تعصفُ بمستقبل هذه الدول، على الرغم من مرور عقدين اتّسما بالهدوء والاستقرار الظاهري، وبناء نظمٍ سياسيّةٍ تقوم على (العمل الديمقراطي). لكن تبيّن من تلك الانقلابات العسكريّة التي حدثت، ومن المرجّح أن تتكرّر في بلدان أخرى في قادم الأيام؛ أنّ البنيان الذي تقوم عليه تلك الدول هو بنيان هشّ، وأنّ القوى السياسية المتحكمة هي مجرّد امتدادٍ للسيطرة الفرنسيّة، وفي أحيانٍ أخرى بمشاركةٍ أميركيّة.

فقد كان يحدثُ أربع انقلاباتٍ أو محاولات انقلابيّة في العام الواحد على مدار العشر سنوات الأخيرة، وشهد الصراع على سدة الحكم في دول إفريقيا الوسطى والجنوبية نحو 45 انقلابًا أو محاولات انقلابيّة بنسبة 36% من مجموع الانقلابات على مستوى العالم، وبالمحصّلة استحوذ حزام دول الغرب الإفريقي على أكبر عددٍ من الانقلابات في القارة السمراء بمعدل يتجاوز 44%، وكان نصيب السنوات الثلاثة الأخيرة فقط نحو عشر محاولاتٍ انقلابيّةٍ شهدتها إفريقيا، منها سبع دول حالفها الحظ، كالنيجر وغينيا وبوركينا فاسو ومالي، ومنها من كان نصيبها الفشل.

والسؤال المهم هنا: ما الذي دفع قادة الجيوش في النيجر ومالي والغابون وغيرهم إلى إسقاط حكومات (ديمقراطية) بالظاهر وتبنّيهم شعارات شعبية متلائمة مع واقع مجتمعاتهم؟ وسؤال آخر ضمن السياق؛ إذ من الملاحظ أيضًا أنّ الانقلابات العسكرية في هذه البلدان تحظى بدعمٍ شعبي غير مسبوق، فلو كانت تلك الحكومات منتخبة فعلًا من الشعب، فلماذا إذًا تخرج الشعوب تهلل وتبارك لتلك الانقلابات وتدعمها؟ لا سيما أنّها أقلّ عنفًا ودمويّةً ولم تواجه مقاومة من قبل الشعب أو المعارضة السياسيّة في البلاد؟ كما أنّ الحراك الذي يجري في هذه الدول يحدث من أعلى السلطة، وليس من القاعدة الشعبيّة؛ ما يساعد على سرعة التحوّلات المحتملة؛ لأنّ القيادة العسكرية مدعومةٌ بقرارٍ شعبي، بينما الفريق المقابل يقف على أرضٍ رخوة؛ لأنّه مرتهنٌ لولاءٍ خارجي غربي فرنسي، وهو سبب المشكلة من منظور الوعي الجمعي الشعبي. يقابل هذا المنظور تمثّلات روسية غير مباشرة، تشجّع التمرد والثورة على الاستعمار، وتستجيب للوعي الجمعي الشعبي، وتلبي رغباته النفسية والمعنوية في الحرية والاستقلال والاكتفاء الغذائي الذاتي، وكانت هذه بمثابة "لغة مشفرة" في كلمة الرئيس فلاديمير بوتين في قمة منتدى روسيا وأفريقيا 27 - 28 يوليو الماضي، حين أوضح في المنتدى: (في القمة القادمة - بعد ثلاث سنوات - ستكون الدول الإفريقية مكتفية غذائيًّا من الناتج المحلّي) ولم يتوقّف عند هذا الأمر، بل أعلن عن تقديم معونات قمح مجانيّة بكميّات معلنة لدول محددة؛ ما أحدث واقعًا مغايرًا يشيرُ إلى مدى نجاعة دور منتدى روسيا وإفريقيا وفاعليته وأهمية استمراره بموازاة تجسيدات أخرى، كمجموعة "بريكس" التي أصبحت متطلّبًا للدول الأفريقيّة لإيجاد حلولٍ لأزماتها الاقتصاديّة، وبديلًا عن الاستبداد الفرنسي، وانعكس ذلك بشكلٍ إيجابي على جمهورية جنوب إفريقيا.

إذنْ، البحث عن الجواب الشافي على التساؤلات أعلاه باعتقادنا هو مفتاحٌ لفهم مجريات الحدث في غرب إفريقيا التي تتمتّع بحصّةٍ عالميّةٍ من مخزون النفط والمعادن والثروات الثمينة، التي تتعرّض لعمليّات نهب منظّمة من قبل السلطات الفرنسيّة بالتعاون مع عائلاتٍ متنفّذةٍ سياسيًّا مقابل فتات تحصلُ عليه هذه الشبكات العائليّة. وعلى سبيل المثال ليس الحصر، كان من المقرّر أن تكون النيجر ثاني أكبر منتجٍ في العالم لليورانيوم عام 2014، بالإضافة إلى وجود الفحم والقصدير وخام الحديد والفوسفات والجبس والنفط، وليس مستغربًا أن توصف النيجر الواقعة تحت النهب الغربي المنظّم "بالبلد الذي يضيء شوارع باريس بينما يعيش أغلب سكّانه في الظلام". لذلك فإنّ ثروات النيجر التي تستفيد الشركات الغربيّة منها، هي سببٌ أساسي للقلق الغربي؛ ما يحدث في البلاد خاصّةً فرنسا.

فهي منتجٌ رئيسي للذهب واليورانيوم، حيث أسهمت النيجر بنسبة 19% من إمدادات اليورانيوم الفرنسيّة خلال الفترة الممتدة من عام 2005 إلى عام 2020، وهو ضروري للطاقة النووية الأوروبية. كما تمتلك البلاد احتياطيات نفطيّة كبيرة أرادت الشركات الأجنبية الوصول إليها. كما أنّه يوجد على أراضيها قواعد طائرات أمريكيّة دون طيار وقواعد فرنسيّة وقوّات عسكريّة من البلدين. وبالرغم من ذلك تعدّ الأفقر بين دول العالم، وتقع النيجر باستمرارٍ في أسفل مؤشّر التنمية البشريّة العالمي، عند درجة 0.394 اعتبارًا من عام 2019، مع دخلٍ للفرد منخفض للغاية، وتصنف بين أكثر بلدان العالم مديونية بالنسبة لحجم الناتج المحلي.

في عام 2021، احتلّ اقتصاد النيجر المرتبة 124 في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي والمرتبة الـ 129 من حيث إجمالي الصادرات، والـ 158 في إجمالي الواردات، ورقم 175 من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد، حسب مرصد التركيب الاقتصادي التابع لجامعة ماساشوستس الأمريكية "OEC".

 البعض يقدّم تفسيراتٍ تتعلّق بالصراع الدولي، وإن كان له هامش تأثير على المنطقة الإفريقية إلا أن الحالة التي تعيش فيها تلك البلدان دفعت إلى هذه التحوّلات، وأبرزها الفقر والفساد وسوء الإدارة وانتهاكات حقوق الإنسان بالإضافة إلى التدخّلات الأجنبيّة المتصارعة والمتنافسة فيما بينها.

ولا نجافي الحقيقة بالقول: إنّ الاستعمار الفرنسي هو من عزّز منظومة الفساد في الدول الإفريقية ودعمها، وذلك لتحقيق مصالح اقتصاديّة في نهب الثروات، فلو كانت المجتمعات الإفريقيّة تعيش حالتها الطبيعية لما تمكّن المستعمر من خلال شركاته الناهبة أن يسرق خيرات هذه الدول وثرواتها، وتدفع تجاه تخلف هذه الشعوب وتبعيتها على المستوى المدني والاجتماعي، وللتأكيد على هذه الأمر تشير تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الأحداث الجارية في إفريقيا إلى قدرٍ كبيرٍ من الفوقية والغطرسة التي لا تنتمي إلى الأصول والتقاليد الدبلوماسية المتعارف عليها حين قال: (بوركينا فاسو ومالي والنيجر موجودة فقط بفضل فرنسا ولن نسلمهم).

 تتحدّث الدوائر السياسيّة والإعلاميّة ذات الصلة بالشأن الإفريقي اليوم عن خسائر كبرى تتعرّض لها فرنسا، وذلك بانحسار نفوذها وقوّتها في الغرب الإفريقي، وأيضًا يتساءلون حول مستقبل الانقلابات، وما قد تؤول إليه، فهل ستنتهي بهذه الدول إلى استقلالٍ حقيقي بإرادةٍ وطنيّةٍ سواءً عسكرية أو مدنية؟

هذه التساؤلات في حاجة إلى التدقيق؛ لأن باريس إلى الآن لم تغادر تلك البلدان وما تزال قواتها العسكرية موجودة، وكذلك شركاتهم الناهبة، وفي المحصلة فإنّ تلك الانقلابات هي مجرّد البداية في لحظة المواجهة، والغرب الإفريقي اليوم مفتوحٌ على مساحةٍ من الصراع الذي ربّما سيجد تعبيراته بالمواجهات العسكريّة، ولا أحد يستطيع أن يتنبّأ بمدى قدرة الفاعلين على الانتصار في مسرح العمليّات الإفريقي، لكن بالتأكيد أنّ بوابة جهنم قد فتحت على مصراعيها في تلك البلدان، فليس من السهل أن تتراجع قوة استعمارية بحجم فرنسا بهذه البساطة والسهولة فهي من الممكن أن تقوم بعمل مضاد، وتدفع إلى خلق تناقضاتٍ داخلية محلية وتصعيدها، وتعيد صراعات إثنية وقبلية، وتفتح الباب إلى حروبٍ أهليّة في تلك الدول.

 والملاحظ أيضًا أن شعوب تلك البلدان تعيش فقرًا مدقعًا؛ نتيجة عمليات النهب المنظم لثرواتها، وغالبًا ما تلوّح فرنسا بسيف منظّمة دول غرب إفريقيا (إيكواس) المتردّدة في التدخّل العسكري في تلك البلدان. فقد أحدثت النيجر اصطفافات دوليّة ما بين منطّمة (إيكواس) التي انقسمت بين مؤيّدٍ للانقلاب العسكري ومعارض، بل والمستعدّ للدخول في عملٍ عسكري لعودة الرئيس محمد بازوم للحكم، وهذا مؤشّرٌ خطيرٌ على تحويل الصراع في دول غرب حزام الساحل إلى صراعٍ إفريقي – إفريقي؛ ما يفاقم من معاناة شعوب المنطقة خصوصًا في ظلّ عدم الاستقرار الحالي.

وأمام تلك المعطيات مجتمعة نرى أنّ المجال ما زال مفتوحًا على إمكانية حدوث تطوّراتٍ مفاجئةٍ سواءً داخل هذه البلدان أو بلدان أخرى. فالنظامُ الاستعماري الفرنسي يمتلكُ تاريخيًّا أذرع طويلة في إفريقيا وخبرة عملية في التعامل مع تلك الدول وشعوبها.

صحيحٌ أنّ مرحلة التحوّلات قد بدأت، ولكن يلزمها مراحل كثيرة لكي تتضح الصورة، لذلك من المرجح أن تلك الجيوش العسكرية المنقلبة لا تمتلك القدرة على الحكم وإدارة البلاد وحدها، وبغضّ الطرف أنّها استطاعت أن تكسر منطق القوى السياسيّة المتحكّمة وأن تعرّي دورها المرتبط بالاستعمار إلّا أنّها في حاجةٍ إلى بناءِ نظامٍ سياسيّ جديدٍ أكثر قدرة تمثيليّة لشعوب تلك الدول.

 ثمّةَ أصواتٌ تسمعُ في أكثر من بلدٍ إفريقي تقول: إنّ لحظة الخلاص قد حانت، ويمكن التقاط بعض صورها، كما يحدث في النيجر، حيث يطوّق الناس منذ الانقلاب الذي حصل في 26 يوليو 2023، الثكنات العسكرية الفرنسية، ويطالبون العسكر الفرنسي بالرحيل، وفي الميدان تعلو الصرخات الغاضبة والرافضة للاستعمار، التي من الممكن أن يتولّد عنها قوى سياسية قادرة على إدارة تلك المعركة؛ ما يؤكّد على تصاعد القوة والجرأة لدى القادة العسكريين الأفارقة في تحديهم الصريح للنفوذ الغربي، والاطمئنان لتوفر بدائل أمنية واقتصادية وازنة تتمثل في حضور "روسيا والصين".

ومن الأهمية الإشارةُ إلى إشكاليات عدم استقرار دول غرب حزام الساحل الإفريقي اليوم التي من الممكن حصر بعضها في مشكلة بناء الدولة في القارة السمراء، التي ترجع إلى الاستعمار الغربي وطبيعة الأنظمة في جوهرها ومضمونها الاستبدادي والعسكري والتسلطي الشمولي. كما أنّ غياب العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية له دورٌ أساسي في عدم الاستقرار، وأيضًا أزمات الأمن البيئي، كالجفاف والتصحّر والمجاعة، بالإضافة إلى التنافس الدولي على المقدّرات الاقتصاديّة الإفريقيّة، خاصّةً النفط والغاز واليورانيوم والذهب؛ الأمرُ الذي جعل الدول المتنافسة تؤثّرُ على استقرار وبنية الأنظمة السياسيّة في إفريقيا على حساب المواطن الإفريقي.