Menu

جبهة الجنوب بين المساندة واحتمالات الحرب

أنيس محسن

"كتب أنيس محسن"

تعيش الحدود اللبنانية الفلسطينية منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حالة من الاشتباك المسلح، لم ترق إلى حرب مثلما حدث في سنة 2006، عندما هاجم مقاتلون من حزب الله سيارة هامر للجيش الإسرائيلي، في منطقة خلة وردة في جنوب لبنان، ودمروها وأسروا جنديين، لتندلع حرب، أطلقت عليها إسرائيل "حرب لبنان الثانية"، في إشارة إلى أن الحرب الأولى كانت في سنة 1982، مع فصائل المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.

اشتباك لا يرقى إلى حرب
ثمة الكثير من الأسئلة التي تُطرح عن سبب عدم إقدام إسرائيل على شن حرب، بعدما بادر حزب الله إلى إشعال اشتباكات مسلحة، عمادها قصف بالصواريخ قصيرة المدى، على المستعمرات المقامة على الأراضي الفلسطينية في شمال فلسطين، واكتفت بالرد بالمثل في معظم الأحيان، وباستهداف أعمق جغرافياً أكثر من الحدود المرسومة ضمن قواعد الاشتباك غير المكتوبة، وصولاً إلى قلب بيروت مع عملية اغتيال نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية، حيث العمق الأساسي لحزب الله، وقبل كتابة هذه المقالة بأيام، القصف على موقعين اقتصاديين في محلة الغازية الملاصقة لمدينة صيدا، وبعمق يُقارب 60 كيلومتراً عن الحدود اللبنانية الفلسطينية.

أسئلة كثيرة تُطرح أيضاً، سواء عن حسن نية أو عن سوئها، إزاء اكتفاء حزب الله بإعلان جبهة الجنوب جبهة مساندة للمقاومة في قطاع غزة، على الرغم مما نُظِّر له كثيراً من قبل عن وحدة الساحات لجبهة محور المقاومة الممتدة من اليمن وصولاً إلى فلسطين ولبنان، ومرورا بالعراق وسورية، وفي مركز هذا المحور طهران بالطبع.

واقع الحال، إزاء وحدة الساحات، أن جبهة المقاومة، اكتفت بالمساندة من دون الدخول الصريح في حرب أرادتها إسرائيل حرب تصفية للقضية الفلسطينية عبر إكمال تصفية الجغرافيا الفلسطينية وضم ما تبقى منها إلى إسرائيل، والأكثر فظاعة، إبادة فلسطينيي قطاع غزة سواء عبر القتل بواسطة القنابل الذكية منها والغبية، أو الأكثر وحشية من خلال منع وصول الغذاء وقطع المياه عن قطاع غزة، وخصوصاً شماله، حيث المجاعة بدأت فعلاً وليس دعاية. وفوق هذا وذاك، السيطرة على ما تبقى من الضفة الغربية، وتصفية قضية اللاجئين من خلال المساعي المحمومة لتصفية الأونروا بعد شيطنتها.

الواقع مثلما يجب أن نراه
ليس صحيحاً، مثلما يُشاع هنا وهناك، أن الجيش الإسرائيلي غير قادر على فتح جبهتين، واحدة في قطاع غزة وثانية مع لبنان. فالجيش الإسرائيلي هو بين أكبر 17 جيشاً في العالم، ويُعد الرابع من حيث التسليح والقدرات التكنولوجية التي تُصنع محلياً، بل تُصدَّر إلى أهم وأكبر الجيوش، ويُمكنه فتح أكثر من جبهتين، إذ إنه فعلياً قد فتح اثنتين رئيسيتين، واحدة في قطاع غزة، والثانية في الضفة الغربية المحتلة، وثالثة هي جزئية مع لبنان، من دون نسيان ما تقوم به طائراته وصواريخ من قصف شبه روتيني على سورية.

ومن يُتابع حركة تبديل الألوية العسكرية في قطاع غزة وسحب بعضها، يستطيع أن يصل إلى نتيجة أن هذا الجيش يُمكنه إعادة هيكلة خططه، والتحرك من جبهة إلى أُخرى، بما يملكه من قدرات ميكانيكية، أرضية وجوية وبحرية. بل برهن الجيش الإسرائيلي أن باستطاعته خوض حرب طويلة، مادام الإسرائيليون مؤيدون لما يقوم به، وهنا لا بد من الاعتراف بأن الرأي العام الإسرائيلي، وعلى الرغم من الخلافات بشأن نتنياهو وحكم اليمين المتطرف، فإنه مؤيد لاستمرار الحرب وللأهداف التي وضعها نتنياهو، وهي أهداف تتعدى القضاء على حماس وقدراتها العسكرية والسلطوية، إلى القضاء، مثلما أسلفنا، على القضية الفلسطينية، من خلال القضاء على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية يرفضها الإسرائيليون بغالبيتهم العظمى: حكومة ومعارضة سياسية وجمهور. فإسرائيل في أشد حالات انزياحها نحو اليمين العنصري المتطرف، إلى درجة باتت فيها تصف السلطة الفلسطينية القابعة على الحكم الذاتي المحدود في الضفة، بأنها جهة متطرفة، ولا يُمكن القبول بها فيما يُنظر له على أنه "اليوم التالي" بعد الانتهاء من المقاومة والشعب في غزة!!

وفي المقابل، فإن حزب الله يمتلك من القدرة الصاروخية والتعبوية والقتالية الاحترافية، والإرادة الفردية والجماعية، والدعم من جمهوره، لخوض حرب تكلفتها ستكون عالية على إسرائيل، مثلما ستكون تدميرية للبنان. وقد أعلن الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في أحدى إطلالاته المتلفزة الأخيرة، أن الحزب لديه القدرة على تغطية مساحة فلسطين المحتلة كلها بصواريخه العادية والنوعية، ومثلما لدى إسرائيل قدرة على القتل فلدى الحزب القدرة أيضاً، ومثلما قال، فإن الدم سيكون بالدم، والتدمير بالتدمير.

ليس حزب الله وحده من يتحدث عن قدراته القتالية الميدانية والصاروخية، بل إن إسرائيل نفسها تعترف وتُعلن بأن الحزب يمتلك ترسانة صاروخية متنوعة وكبيرة، قد يصل عددها إلى أكثر من مئتي ألف صاروخ، ومقاتلون مدربون ومجربون في ساحات القتال، وأخيراً ما كشفته صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية عن أنفاق بناها حزب الله تمتد من جنوب لبنان، إلى بيروت والبقاع، وصولاً إلى سورية، وإلى داخل فلسطين المحتلة. وهو واقع جعل الإسرائيليين يهجسون بها، إلى درجة الحديث عن سماع حفر أسفل مستشفى الجليل في مستعمرة نهاريا قرب الحدود مع لبنان، وبمسافة تصل إلى عشرة كيلومترات عن تلك الحدود. لكن صحيفة "إسرائيل اليوم" قالت إن الجيش الإسرائيلي أجرى نحو 40 عملية حفر، لم تسفر عن اكتشاف نفق في المنطقة المذكورة.

ولا يُخفي حزب الله أمر وجود الأنفاق، ولطالما قال على لسان أمينه العام وقادته، أن لدى الحزب قدرة على الوصول السريع إلى الجليل الفلسطيني المحتل، سواء عبر الأنفاق أو وسائل أخرى.

والأمر ليس متوقفاً على ما يجري الحديث عنه عند الحدود اللبنانية الفلسطينية، بل يتعداه إلى التماس السوري مع الجولان المحتل، إذ ثمة تقارير كثيرة تتحدث عن تحشيد لمقاتلين من حزب الله اللبناني وحزب الله العراقي، والنجباء وغير ذلك من فصائل عراقية وسورية ولبنانية، عند جبهة الجولان، بهندسة ميدانية من قبل حزب الله والحرس الثوري الإيراني. وبالتالي فإن جبهة الجنوب اللبناني تمتد عملياً إلى الجولان، وكانت قد رُبطت ميدانياً أخيراً من خلال قصف حزب الله من الأراضي اللبنانية مواقع للجيش الإسرائيلي في الجولان.

حسابات فوق محلية
إذاً، في ظل واقع الحال المشار إليه؛ سواء قدرة إسرائيل على شن حرب متعددة الجبهات، وقدرة حزب الله وحلفائه من فصائل المقاومة العراقية، والفلسطينية أيضاً، على خوض حرب "الدم مقابل الدم" و"التدمير مقابل التدمير"، يُطرح سؤال عن سبب، أو أسباب، عدم تطور حالة الاشتباك المحدود إلى حرب، تحتاجها إسرائيل للتخلص من التهديد القادم من لبنان، ولإعادة عشرات آلاف المستوطنين الذين تم إجلاؤهم من مستعمرات شمال فلسطين إلى وسطها، ويحتاجها حزب الله لتكريس فرض قواعد اشتباك تمنع إسرائيل من التمادي في الاعتداء على لبنان، وتكريس نظرية وحدة الساحات التي تزعزعت بسبب الاكتفاء بالمساندة للمقاومة في غزة، فيما القطاع يُدمر والفلسطينيون فيه يُبادون ويُهجرون؟ ثمّة حسابات مدروسة لدى طرفي المُعادلة هذه: إسرائيل والمقاومة في لبنان، وامتداداً نحو شركاء المُعادلة: الولايات المتحدة وإيران.

فإسرائيل التي من مصلحتها إزالة خطر حزب الله والمقاومة في لبنان، تعي أن حرباً هناك ستكون تكلفتها عالية جداً، وقد تفقد حكومتها الحالية، إذا تجرأت على تجاوز العتبة الحالية نحو الحرب الشاملة، التغطية الشعبية التي تحظى بها إزاء الحرب على غزة.

للتذكير والتأكيد، فإن الخلافات ليس على شن الحرب وعلى الأهداف المُعلنة وهي القضاء على حماس وعلى إمكانية وجود تهديد مستقبلاً من قطاع غزة وعلى احتمالات الدولة الفلسطينية، وعلى مطلب شن حرب على لبنان للتخلص من خطر حزب الله، بل على بعض تكتيكات الحرب، وعلى شخص نتنياهو الذي بات مكروها، ويُتهم بأنه يريد الحرب لبقائه السياسي أكثر مما يُريدها لأهدافها المُعلنة، وهنا يجب الاعتراف أيضاً بأن نتنياهو لطالما جاهر برفض الدولة الفلسطينية وعمل ونجح في تقويض اتفاق أوسلو منذ توليه أول حكوماته في سنة 1996، وكذلك على شخصي بن غفير وسموتريتش اللذين باتا يُنافسا الأحزاب التقليدية على الحكم، ونقلا اليمين الديني واليمين الصهيوني المتطرف من فكرة الاستفادة المادية من الحكم، إلى الحكم بما يحمله تيارهما من أيديولوجيا، تغير النمط الذي ساد في إسرائيل منذ 1948.

وفضلاً عن حساب الخسائر المادية والبشرية والمعنوية من حرب ضد حزب الله، فإن توسيع جغرافيا الحرب خارج قطاع غزة والضفة الغربية، سيعني تورطاً أميركيا (وبعض حلفاء واشنطن) في صراعات المنطقة مجدداً بعدما عملت على الانسحاب من فخ أفغانستان، وخفضت وجودها العسكري في العراق، فيما دخلت الولايات المتحدة فترة انتخابات رئاسية، يصعب فيها اتخاذ قرارات كُبرى. وبالتالي فإن أي حرب قد تُفكر إسرائيل في شنها على لبنان، سوف تكون مرهونة باستجابة أميركية، إذ إن التسليح والتمويل يأتي من واشنطن، وهذا شديد الوضوح في حرب غزة، حيث فُتحت جسور جوية لنقل السلاح والذخيرة النوعية إلى الجيش الإسرائيلي، وفُتحت خزانة المال عبر البيت الأبيض وعبر الكونغرس لدعم الاقتصاد الإسرائيلي الذي تأثر سلباً بالحرب، واستجابة كتلك تحتاج إدارة أميركية مستقرة وليست على مسافة صفرية من الانتخابات، هذا فضلاً عن أن أي تورط مباشرة في حرب واسعة، تعني احتمالات خسائر بشرية أميركية، لا يحتملها الرأي العام الأميركي.

لقد أعلنت الولايات المتحدة، وسعت ولا تزال، للحيلولة دون توسع الحرب إلى صراع إقليمي، وربما دولي، فيما هي منخرطة في الصراع القائم بين روسيا وأوكرانيا، وصراع اقتصادي مع الصين. ولذلك فإن مبعوثها الخاص آموس هوكشتاين دائم التواجد في المنطقة في حركة مكوكية بين بيروت وتل أبيب، لتلافي احتمالات توسع الحرب إلى الجبهة اللبنانية.

وعلى الضفة المقابلة، فإن حسابات حزب الله، ومن خلفه إيران، تختلف عن حسابات الفلسطينيين. إذ فيما يقتصر مدى الرؤية فلسطينياً على معركة غزة وما يجري في الضفة، فإن حسابات حزب الله، الممتد منذ 2011 إقليمياً، باتت حسابات ما فوق وطنية، هي حسابات إقليمية، قد ترقى إلى دولية. 

وهنا لا بد من الاعتراف بحقيقة أن حزب الله هو من بادر إلى فتح جبهة جنوب لبنان منذ الساعات الأولى لما بعد عملية "طوفان الأقصى"، على الرغم من عدم تبلغه المسبق بشن تلك العملية النوعية الاستراتيجية. والحزب يدفع ثمناً غالياً جراء إسناده المقاومة في غزة، إذ فقد أكثر من 170 من مقاتليه، فضلاً عن عدد لا يُستهان به من الشهداء المدنيين، والخسائر الاقتصادية التي لحقت بالمواسم الزراعية في الجنوب، والدمار الذي لحق بمنازل وبنى تحتية في قرى تتعرض لقصف إسرائيلي متكرر.
لكن الحزب الموجود في لبنان كونه جزء لا يتجزأ من المجتمع اللبناني وعناصره أبناء قرى وبلدات ومدن الجنوب والبقاع وبيروت ومناطق أخرى، منتشر أيضاً في سورية، ولديه أدوار في العراق واليمن، وإن كانت محدودة.

ولم يُخف الحزب يوماً أن تمويله وتسليحه هو من إيران، وأن إيران هي من مكنته من القدرة على تصنيع ترسانته الحربية أيضاً، وبالتالي، فإن أي توسيع للحرب ليطال جبهة الجنوب، قد يُفضي إلى توسيعها إقليمياً ودخول إيران طرفاً مباشراً فيها، ولطهران أيضاً مدى رؤية أوسع كثيراً من باقي عناصر محور المقاومة، فهي دولة وليست فصيلاً، ولديها مصالح وعلاقات دولية، وأدوار إقليمية، يجب أن تحسب حساب الربح والخسارة استراتيجياً إزائها. أيضاً فإن أي حرب تتوجب تجهيزاً عسكرياً ومدنياً يتطلب وقتاً. وفي هذا المجال يُطرح سؤال التهديد النووي الذي قيل إنه نُقل إليها من خلال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وعبر رئيس الحكومة العراقية محمد شيّاع السودان ي، باحتمال توجيه إسرائيل ضربة نووية إليها، إذا ما شاركت مباشرة في الحرب. هنا يُطرح سؤال التوازن الاستراتيجي وحاجة إيران إلى ردع نووي مقابل التهديد النووي الإسرائيلي، وربما الأميركي؟

الحرب غير مستبعدة
تبعاً للتحليل أعلاه، فإن الخلاصة، أن الحرب غير محببة، لكن هل يعني ذلك أن حدوثها أمر مستبعد، مع ما تشهده المنطقة برمتها من توتر، واحتمالات جنون حكّام إسرائيل من اليمين الديني والصهيوني شديد التطرف، في توريط المنطقة كلها، بل العالم في جنونهم؟ وهل يمكن أن يبقى لمحور المقاومة وجود إذا ما أُنجزت الإبادة الدائرة في قطاع غزة، قتلاً وتهجيراً إلى خارج القطاع، بعدما يجري تدمير ما تبقى من بنى فوقية وتحتية فلسطينية في غزة؟
إن حرباً متوسعة نحو جنوب لبنان، بل في الإقليم كله، أمر محتمل الحدوث، وخطره قائم، وينتظر من يقدح الزناد أولاً.