Menu

طوفان الأقصى: إعادة انتاج المشهدين السياسي والثقافي

إيهاب غسان

"كتب إيهاب غسان"

المشاهد الأولى بحد ذاتها كانت كافية وكفيلة لإعادة التأكيد على نقطة جوهرية في سياق التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني، وتلك النقطة تتمثل بأن الفلسطيني ذات فاعلة وليس مجرد موضوع قيد التفاوض والتنازلات كما أرادها تابعي أجندة التطبيع نزولاً عند رغبة القوى الإمبيريالية والاستعمارية.  وفي ذلك دليل على أنّ للمقاومة مشروعها ومشروعيتها وضرورتها، وبأنها صاحبة قرار ورؤية قائمة على رفض فكرة التعايش مع الاحتلال الاستعماري الصهيوني.

ولعلّ من الأصح أنّ لا يوصف التعايش بــــ "الفكرة"، كونه في مكانة مُنحطة في التاريخ. وهذا الانحطاط قد كشفه هجوم السابع من أكتوبر، وليس المقصود الكشف عن ما هو موجود، بل أظهر الصورة التي وصلها  وتحديداً في الوطن العربي. وبالتأكيد الحديث هنا يدور عن بعض الأنظمة العربية التي تخطت المواقف التقليدية المعروفة تجاه القضية الفلسطينية والتي كانت تبدء بالضعف،  مروراً

بالتخاذل وصولاً إلى التواطئ

ما كشفه الهجوم، هو أنّ بعض الأنظمة العربية، شريكة في الإبادة الجماعية من جهة، ومن جهة أخرى فإن بقائها لم يعد مرهوناً بإبداء "موقف حيادي"، بل تعدى ذلك ليصل إلى الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني والانصياع للأجندة الإمبيريالية بحذافيرها. ولا يقتصر الأمر على فلسطين، فلقد كانت هذه الأنظمة شريكة في الإبادة الجماعية في العراق وسوريا.
المشهد الأكثر وضوحاً، والذي يتطلب موقفاً جذرياً من الفواعل السياسية هو موقع السلطة من هذه الإبادة الجماعية، والتي أيضاً تتجه نحو الشراكة في ظل ما يقوله الواقع من قمع للمتظاهرين منذ بداية حرب الإبادة ومحاولة قمع المقاومة لا سيّما في شمال الضفة الغربية. وهذا عدا عن الإنصياع للأجندة الغربية والاستمرار بحماية أمن الكيان الصهيوني، ولربما في تشكيل "حكومة التكنوقراط" مثال على ذلك التوجه، حيث أنّه تم إعادة تشكيل الحكومة بالكامل، باستثناء وزير الداخلية (وزير القمع)، وهذا ما يثير التساؤل حول بقاء هذه الحقيبة مع وزير لاتكنوقراطي.

إعادة انتاج المشهد الثقافي

على صعيد المشهد الثقافي، أعاد هجوم السابع من أكتوبر الرواية الفلسطينية الوطنية إلى الواجهة لمقارعة الروايتين الصهيونية والاستشراقية حول فلسطين أرضاً وشعباً. حيث أنّ الهجوم أجبر العالم على النظر فيما قبل السابع من أكتوبر، وذلك بفضل المقاومة وأيضاً حاضنتها الشعبية وكُل من أخذ على عاتقه تناول الهجوم في سياقه التاريخي الصحيح. بالإضافة إلى التأكيد على أهمية الرواية الوطنية والمقصود في هذا السياق بأنّ الهوية الفلسطينية ليست وليدة رد الفعل على المشروع الصهيوني، بل هي هوية أصيلة ومتجذرة في التاريخ، وتساهم في صناعته.
على صعيد المشهد الثقافي تبرز أيضاً الأسئلة التي تُطرح في هذه المرحلة التاريخية، حيث أنّ هناك الكثير من الأسئلة المشبوهة التي تتسلل عبر فجوات الأكاديميا و"الثقافة"، كالسؤال عن جدوى المقاومة، وطرح اسئلة حول جاهزية المقاومة للقتال فترة طويلة ، وأسئلة أخرى عن المكاسب. بالإضافة إلى الأسئلة التي تحتمل أكثر من معنى حول من وكيف يُسمح للاحتلال بارتكاب هذه المجازر.
إن وضع الأسئلة الصحيحة في المجال الثقافي لا يقل أهمية عنّ وضع الأجندة السياسية للتحرر، وفي هذا السياق لعلّ من الأولى أنّ يتم السؤال عن الجهات المُشاركة في الإبادة وكيفية التعامل معها، لأنها تتعدى حدود فلسطين الجغرافية. بالإضافة إلى السؤال عن كيفية مواجهة النسيق الأمني والتطبيع وكيفية دعم وتقوية الحاضنة الشعبية وتعزيز الجبهة المُساندة للمقاومة.  

"اليوم التالي في غزة" هو ذاته اليوم السابق لــ 7 أكتوبر

لا بُد من التأكيد على أنّ نتائج السابع من أكتوبر لم تكن فقط تتمثل بإعادة المشهدين السياسي والثقافي، بل أسس لفرض وقائع تاريخية جديدة. وهذا ما يحاول معسكر الأعداء منعه من الحدوث، لا سيّما من خلال الحديث عن "اليوم التالي في غزة". والحقيقة أنّ "اليوم التالي" المزمع صياغته سيكون نسخة عنّ اليوم السابق للسابع من أكتوبر، أي أنّه سيكون استمرار للاحتلال.
على النقيض من ذلك، فإنّ فرض الحقائق التاريخية التي أسست لها المقاومة  تتمثل بتقويض الكيان الصهيوني ومدخلاً لتفكيكه كمنظومة سياسية استعمارية، والتأكيد على أنّ أي فعل تجاه هذا الاحتلال، يجب أنّ يكون بالضرورة مبنياً على معرفة المشروع الصهيوني الاستعماري وبأنه ليس مسألة يوم تال أو سابق لحدث معين، بل هو مشروع ما يزال مستمر، وهذا ما يعني استمرار المقاومة. 
المقاومة التي أثبتت قدرتها على ضرب الكيان الصهيوني، وإظهار مواطن الضعف في هذا الكيان، والتي أوقفت بشكل أو بآخر مشروع تطبيعي "كبير" كان من شأنه محو الهوية الفلسطينية، والتي أثبتت فشل التنسيق الأمني ومشاريع التعايش مع الاستعمار. والتي أظهرت حقيقة وجود جبهات عديدة للمقاومة، في ردّ على من روّج لخروج القضية الفلسطينية من عُمقها العربي، إلاّ أنّ المقاومة والفعل الثوري أيضاً لها كلمتها وموقعها في الخارطة العربية.