«ذاك الغيم جاب هذا المطر»
مثل بدوي
أصبح بالإمكان فهم حركة «المُسَوّين» (The Levellers) أفضل فقط «حين تأسست الديمقراطية السياسية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين».
هذا ما كتبه كريستوفر هيل بخصوص إحدى الحركات السياسية التي شاركت في الحرب الأهلية الإنكليزية في القرن السابع عشر. «الحفارون» (The Diggers)، الحركة السياسية الإنكليزية ذات الميول الشيوعية من القرن السابع عشر، بدت مختلفة جداً عن صورتها الاولى أيضاً بعد ثلاثمئة عام من الحرب الأهلية عقب صعود الاشتراكية في القرن العشرين. إعادة النظر الجذرية هذه ببرامج وصور بعض أهم اللاعبين في الحرب الأهلية الإنكليزية في القرن السابع عشر، وحتى في الحرب الأهلية ذاتها، تدين كثيراً منهجية هيل التاريخية في كتابه «العالم رأس على عقب». فرضية هيل تبدو بسيطة وسهلة على الاستيعاب: «يجب إعادة كتابة التاريخ مع كل جيل جديد، ليس لأن التاريخ يتغير بل لأن الحاضر يتغير، وكل جيل يطرح أسئلة جديدة عن الماضي ويجد مجالات جديدة للتعاطف (والاهتمام) فيما هو يختبر ويعيش جوانب مختلفة من تجارب أسلافه» (1). وفي «الجماعات المتخيلة» يصيغ بنديكت أندرسون الفكرة ذاتها تقريباً بطريقة تبدو أكثر مباشرة وتماسكاً: «سيرة الامم لا يمكن كتابتها على نحو إنجيلي، «نزولا في الزمن»، عبر سلسلة توالدية طويلة. البديل الوحيد هو صياغتها «صعوداً في الزمن» (2)، أو (uptime). بهذا المعنى، الحاضر، لا الماضي، هو الأصل والمنشأ في السرد التاريخي.
بطريقة مشابهة، يمكن القول إن جيلنا الذي ولد بعد النكسة، كما الأجيال التي لحقتنا، عاشت وتعيش وستعيش جوانب أخرى من النكسة لم يختبرها الجيل الذي عايش الحدث حياً. لهذا، ربما يتوجب اليوم، وبعد تسعة وأربعين عاماً، العمل على إدراك هزيمة العرب في حزيران ١٩٦٧ بشكل مختلف كلياً، خصوصاً بسبب ما تكشفت وكشفت عنه الأحداث في الوطن العربي خلال السنوات الخمس الماضية. اعتماد منهجية «الصعود في الزمن» في هذا التمرين القصير ليست كفيلة فقط بتعليمنا الكثير عن دور الحرب في تراكم رأس المال عالمياً فقط (وهو هدف أساسي لهذه المحاولة)، ولكن، مثل هذا المنهج كفيل كذلك بالإضاءة على الحاضر العربي المأسوي الذي نعيشه وعلاقته المباشرة والعميقة بالنكسة ـ عدوان غربي وصهيوني متواصل، حروب أهلية عنيفة، ارتفاع حاد في معدلات الفقر، اتساع متواصل في فجوة اللامساواة، تراجع في قيمة وقوة ودور الطبقة العاملة والفقراء عموماً، وعي تاريخي وسياسي مشوه جداً، تراجع الوعي القومي وتصاعد مرعب في أهمية التمثيلات والهويات القطاعية، الخ. كل ذلك، كما يبدو اليوم في حزيران ٢٠١٦، بدأ التأسيس له حقاً مع النكسة. كل ذلك، وأكثر، هو أساساً من مفاعيل هزيمة حزيران.
باختصار، النكسة كانت بذرة الشرق الأوسط النيوليبرالي، كما كانت وسيط إعادة دمج الوطن العربي في الاقتصاد العالمي وفق شروط جديدة، والكيان الصهيوني كان الأداة العسكرية لتنفيذ ذلك المشروع الذي يستنزف أمتنا من يومها إلى الآن. فهزيمة القومية العربية وتبعات الهزيمة على فكرة العروبة أسست للاندماج «الإجباري» للنخب العربية الجديدة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وفق شروط الهزيمة وحتى سهلته بشدة. هذا أنتج المزيد من التفكك في الوطن العربي (الذي بدأ مع النكبة وعلى يد الكيان الصهيوني أيضاً) وتفكك أجهزة الدولة ال قطر ية. فمن أجل إعادة دمج الوطن العربي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وبشروط جديدة، كان يتوجب سحق كل ما أنجزه العرب منذ النكبة وكان يتوجب سحق فكرة العروبة التي شكلت العمود الفقري لوجودنا (لهذا جادلت سابقاً هنا في «الأخبار» أنّ النكسة أقسى من النكبة وسميتها النكبة مضاعفة). كل البيانات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الموثوقة المصادر والتي يمكن الاعتماد عليها للعقود الخمسة الماضية تؤكد وتدعم بقوة الاستنتاج التالي أكثر من غيره: شكّلت هزيمة العرب في ١٩٦٧ نقطة تحول تاريخية أسست للمسار الذي أخذه الوطن العربي لاحقاً (في حالة النكبة، كانت الاشتراكية العربية رغم أي قصور يمكن أن نراه فيها اليوم تحدٍّ للواقع الذي أنتجته النكبة، لا تساوقاً معه). تلك الحرب أيضا أسست لصعود «الصهيونية النيوليبرالية»، وأفول «الصهيونية العمالية»، رغم انتصارها في الحرب، وتشكل ما بات يعرف بـ«إسرائيل الجديدة» (3). بذور المشهد الشرق أوسطي والعربي الدموي الحالي تم نثرها في حزيران ١٩٦٧ والصهيونية كانت الأداة التنفيذية. هل نحن بحاجة إلى القول لكل عربي: اعرف عدوك.
منذ «بداية القرن الحالي، شكّلت الدول العربية منطقة للتدخل العسكري الغربي غير مسبوقة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ـ الغزو الأميركي للعراق (مرتين)، قصف حلف شمال الأطلسي (الناتو) ل ليبيا ، حروب وكلاء الولايات المتحدة في سوريا، عدوان دول منظمة التعاون الخليجي المدعوم أميركياً على اليمن». هذا ما كتبه بيري أندرسون في افتتاحية «نيولفت ريفيو» قبل ستة أشهر (4). لكن الواقع الحقيقة أسوأ وأبعد من ذلك كثيراً للأسف. فمنذ «النصف الثاني للقرن العشرين، عانى الوطن العربي ومحيطه من أعلى نسبة تواتر للصراعات والحروب على وجه الأرض» (5). وللحروب والصراعات وظيفة مهمة تخدم هدفاً حاسماً لمشروع تراكم رأس المال على المستوى العالمي (6)، وفي حالة الوطن العربي تحديداً كانت النتائج، كما نراها بأم أعيننا، كارثية. ببساط شديدة: تراكم رأس المال على المستوى العالمي يتطلب سحق، وبالتالي تدهور أو انخفاض، قيمة حياة الإنسان وتسليعها باستمرار ودون توقف (وبالتالي وبالضرورة تراجع قيمة اليد العاملة وقوتها والقيم التي تنتجها)، ولا توجد ولن توجد أداة أكثر فعالية لتحقيق ذلك من الحروب والصراعات الأهلية والدمار. تاريخياً، وبالتجربة، لم يكن هذا بالضبط ما فعلته وتفعله الحرب على الدوام بنا نحن العرب فقط، بل إن تراكم رأس المال تطلب بالضرورة «التدمير القسري لقيمة العالم الثالث وحياة سكانه وقوته». وفي الوطن العربي، ومنذ النكسة تحديداً (كما في دول الجنوب عموماً)، قادت «الحروب العدوانية والهزائم العسكرية، بنيوياً أو مباشرة، لإعادة هيكلة التشكيلات الطبقية/ الاجتماعية بما يتناسب مع المصلحة الإمبريالية».
فوق كل ذلك، لم تكن تجربة العرب مع الحروب العدوانية، وهزيمة حزيران ١٩٦٧ في مقدمتها، مقتصرة على خسارة الأرض، ولا محصورة بالدمار الهائل الذي خلفته وتخلفه، ولا حتى في موت عشرات الآلاف من البشر في كل حرب. كذلك، لم تكن تجربة العرب مقتصرة على إعادة هيكلة التشكيلات الطبقية والاجتماعية العربية، زيادة معدلات الفقر، أو إنتاج التخلف والتنمية المعكوسة فقط. فمزيج الإفراط في الحروب العدوانية والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية شوهت وبحدة الوعي العربي ومسخته من ايديولوجيا ثورية تطمح لتغيير العالم بعملها على توحيد دول الجنوب كلها في مواجهة الاستعمار الغربي في زمن عبدالناصر إلى أفكار قدرية رجعية متخلفة تمزقنا إلى مذاهب وطوائف وأديان وجماعات محلية وجهوية متصارعة فيما بينها في عهد آل سعود ووهابيتهم. كانت تبعات هزيمة القومية العربية والاشتراكية العربية في حزيران ١٩٦٧ كارثية بأكثر مما يمكن لمقياس واحد أن يختزلها، ولا نزال نعيش ونحاول إدراك معناها وتبعاتها. فمع هذه الهزيمة بالذات فقد العرب أيديولوجية المقاومة، وحتى أكثر من ذلك، فقد العرب ايديولوجية الوجود. فقد العرب الفكرة الوحيدة التي يمكن لها ضمان وجودنا.
بهذا المعنى، لم تؤسس النكسة للمشروع النيوليبرالي في الأرض العربية فقط، بل أسست كذلك للوعي الطائفي والمذهبي وغيرهما من التعبيرات القطاعية كبديل للوعي العربي، كما تتطلب مقتضيات تراكم رأس المال، وهو ما تصاعد وازداد حدة أيضاً مع تصاعد السياسات النيوليبرالية منذ نهاية السبعينيات. ومن يظن أن انفتاح السادات قاد لرفع أسعار الخبز على الفقراء فقط، عليه أن ينظر إلى الدم الذي يسيل كالشلال في سوريا وليبيا واليمن وفلسطين والبحرين و مصر والعراق ليعرف ما هو الانفتاح وما هي النيوليبرالية. هذه الأشكال المشوهة من الوعي المتخلف تشكل فعلاً خطراً وجودياً على العرب كأمة وكجماعة، وأي رؤية مؤسسة على منهجية «الصعود بالزمن» يمكنها أن تفسر وبسهولة الظروف والخلفيات التي تدفع الكثيرين للارتماء في أحضان تلك الرجعيات القدرية (فكر «داعش» مثلاً) والانخراط في الصراعات الأهلية بحماسة وغباء. هذا هو جوهر جدلية خطر «داعش ـ إسرائيل». العدوان الصهيوني المتواصل على العرب، بالإضافة للعنصرية الغربية ضد العرب والمسلمين، وارتباط كليهما بآليات تراكم رأس المال على المستوى العالمي بسحقهما لقيمة الإنسان، كانت حاسمة للمسار الكارثي الذي أخذه الوطن العربي منذ النكسة، وهما الأب الشرعي الوحيد لكل أداة تدمير ذاتي ينتجها الفكر الوهابي من آل سعود ذاتهم وحربهم على فكر العرب الوجودي إلى القاعدة وداعش (واهم من يبحث عن إجابة لداعش أو النصرة أو آل سعود في القرآن أو في التاريخ العربي ـ الإسلامي، وعدمي من يسعى لإثبات لا إسلاميتهم. هؤلاء أبناء الغرب الاستعماري ورأس المال والنيوليبرالية). هل يفسر هذا، جزئياً على الأقل، الدعم الغربي للكيان الصهيوني وحتى تساكن الغرب مع ما يسميه هو إرهاب؟
خرافة «إسرائيل»
«إسرائيل» فكرة مجنونة. هذه، ربما، خلاصة الفقرة الأهم لما كتبه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في «فلسفة الثورة» عن فلسطين، وربما، حتى، أهم ما كُتب عن فلسطين في أعقاب النكبة. فكرة مجنونة جداً فعلاً أن يتم تخيّل إمكانية نجاح تجميع مئات الآلاف من يهود أوروبا وأميركا أساساً واستيطانهم قلب الوطن العربي وتمزيقه ومنع وحدته كنتيجة أولى وأهم لإقامة كيانهم. فكرة مجنونة جداً جداً حقاً أن يتم تخيل إمكانية أن تنجح مجموعة صغيرة وغير متجانسة من المستوطنين استُقدِمَتْ من شتى أقطار الأرض بتأسيس كيان صغير على أرض شعب آخر والنجاح في هزيمة مئات ملايين العرب على مدار سبعة قرون. فكرة مجنونة جداً جداً جداً أيضاً أن تتمكن مجموعة صغيرة من المستوطنين من تحويل أكثر الأساطير والخرافات اللاعقلانية ولا منطقية التي عرفها البشر إلى حقيقة وواقع حتى ولو بقوة السيف. وفكرة مجنونة جداً جداً جداً (حتى ينقطع النفس) أن يتم تخيل إمكانية استمرار وجود كيان هذه الجماعة التي لم يتجاوز عددها في أفضل أحوالها ستة ملايين مستوطن (ولو استطاعت الصهيونية جذب كل يهود الأرض إلى فلسطين، لا يمكن أن يتجاوز عددهم الثلاثة عشر مليوناً) بعد ثمانية وستين عاماً وحتى النجاح في الحصول على اعتراف بعض العرب بوجودها. و«إسرائيل» فكرة مجنونة جداً لأسباب لو أردنا تعدادها فإن هذا العدد من «الأخبار» لن يتسع لها. لكنها هي ذات الأسباب التي تجعل من تحرير فلسطين الفكرة الأكثر منطقية وواقعية وحتى البساطة لو توفرت الإرادة والقرار.
القبول بالصورة الشائعة عن ولـِ«إسرائيل»، إذن، والصورة التي تعممها لنفسها هو قبول بالخرافة والاستسلام لها في الحد الأدنى. هي قبول ساذج بأن بعض، حتى لا نقول كل، ما حصل منذ ١٩٤٨ وكل نتائج كل المواجهات العربية ـ الصهيونية هو نتاج لقوة وقدرات وإمكانيات الكيان الذاتية ونتاج لمواصفات خارقة يتفوق بها المستوطنون الصهاينة علينا نحن العرب. القبول بهذه الخرافة التي تسمى «إسرائيل»، كما هي في الدعاية، هو قبول بكل خرافات وأساطير التأريخ الصهيوني التقليدي/ الرسمي والجديد (وإذا كان التأريخ الجديد يخجل من تبني ما سماه سمحا فلابين «الأساطير المؤسسة لإسرائيل»، فإن التاريخ الجديد هو رواية الصهيونية النيوليبرالية بامتياز كما جادلت سابقاً هنا في «الأخبار» وفي مكان آخر، يعيد إنتاج إنتاج وهم فكرة «إسرائيل» في حقبة النيوليبرالية). القبول بهذه الخرافة، من ضمن أمثلة كثيرة، يعادل القبول بأن أحدث الطائرات الحربية التي تحرق أطفالنا هي من صنع وتمويل «إسرائيلي» بحت وإنكار لحقيقة أن الكيان ليس فقط لم يدفع ثمنها، بل ولا حتى تكاليف تدريب الطيارين ورواتبهم. هي قبول بأن «قبتهم الحديدية» التي يعملون على تطويرها علها تنجح في اعتراض صورايخ المقاومة هي تكنولوجيا صهيونية بحتة أولاً وممولة ذاتياً ثانياً. القبول بهذه الخرافة، التي تسمى «إسرائيل»، باختصار، هو معاندة للحقيقة ولكل البيانات المدعمة لها منذ ١٨٨٠ وحتى اليوم والتي تشير، على الأقل، إلى دونية المشروع الصهيوني الاقتصادية وتؤكد أسطورة المعجزة الصهيونية.
فكرة «إسرائيل،» كما هي، إذن، ليست أكثر من «خيال» أحمق، كما كتب الرئيس عبد الناصر في «فلسفة الثورة» في عام ١٩٥٤. فلولا الاستعمار الغربي والرعاية الاستعمارية للفكرة الصهيونية لظلت هذه الفكرة خيالاً أحمق وفكرة مجنونة في أحسن الأحوال. في خلفية رؤية الرئيس عبد الناصر تصوير دقيق للعلاقة العضوية بين الاستعمار الغربي والمشروع الصهيوني، وهو ما تطور أكثر لدى عبد الناصر منذ كتابة «فلسفة الثورة» وحتى رحيله. لهذا بالضبط تحدث ناصر عن الوطن العربي كمنطقة واحدة تخضع لتأثير ذات المتغيرات والقوى. «وكان واضحاً»، يقول عبد الناصر، «أن الاستعمار هو أبرز هذه القوى. حتى إسرائيل نفسها، لم تكن إلا أثراً من آثار الاستعمار». فلولا أن «فلسطين وقعت تحت الانتداب البريطاني ما استطاعت الصهيونية أن تجد العون في تحقيق فكرة الوطن القومي في فلسطين، ولظلت هذه الفكرة خيالاً مجنوناً ليس له أي أمل في واقع» (7).
من بيانات خرافة «إسرائيل»
فكرة عبد الناصر ورؤيته لـ«إسرائيل» لا تشرح جوهر الصراع العربي الصهيوني فقط، ولكنها تفضح بذكاء وعقلانية اسطورة معجزة «إسرائيل» الاقتصادية كذلك. فبعد أربعة عشر عاماً على «فلسفة الثورة» وعلى تلك العبارة العبقرية لعبد الناصر، استنتج تحقيق لبعثة تابعة للبنك الدولي في عام ١٩٦٨ ما يؤكد رؤية عبد الناصر. وبرغم التعاطف الذي ابدته البعثة مع المشروع الصهيوني، فإنها أكدت أن «الانجازات الاقتصادية الإسرائيلية» هي «بشكل كبير نتيجة لعاملين: شعب قادر ومصمم مع قاعدة عريضة من السكان المتعلمين والنشيطين الذين أثبتوا قدرتهم على تجاوز تحديات التنمية الاقتصادية ببراعة، وأيضاً تدفق كبير نسبياً ومستمر من رأس المال الأجنبي مصدره الأساسي تبرعات يهود أميركا ودفعات التعويضات من ألمانيا الغربية. «معجزة إسرائيل» كانت ستكون مستحيلة لو أن أحد هذين العاملين ــ المهارات البشرية ورأس المال الأجنبي ــ كانت غائبة» (8).
لننسى خرافة «الشعب المتعلم والمصمم» التي انخدع بها حتى بعض من أرخ لنكبتنا. هذ الخرافة المسماة «إسرائيل» كانت ممكنة فقط لأن «الاستثمارات شكلت فقط ثُمُنْ (12.5%) رأس المال المستورد بين ١٩٥٠ـ ١٩٦٧، أما أغلب رأس المال (87.5%) فكان عبارة عن هدايا». وفي الـ٢١ سنة الاولى بعد «تأسيس» الدولة، كان ٣٠٪ فقط من فائض الواردات الهائل (٢٦٥٠ دولار لكل فرد إسرائيلي) قد تم تزويدها وفق شروط تفترض عودة الفوائد أو رأس المال» (9). مزيد عن هذه الخرافة: منذ ١٩٤٨ وحتى منتصف ١٩٧٣ «حصلت إسرائيل على المبلغ المذهل (أكثر من ٨ مليار دولار) على شكل مساعدة اقتصادية من مصادر أجنبية متعددة، أو ٣٥٠٠ دولار لكل إسرائيلي، بمعدل ٢٣٣ دولاراً لكل فرد سنوياً على شكل مساعدة» (10). إذا أردنا فهم هذه الأرقام (٢٣٣ دولاراً سنوياً لكل فرد)، علينا فقط أن نأخذ بعين الاعتبار أن معدل الدخل الفردي المصري السنوي كان (١٠٩) دولارات فقط في ١٩٦٩. هل يفسر هذا، جزئياً على الأقل، لماذا هزمت مصر في ١٩٦٧؟
وفيما يبدو أن يهود العالم هم أكبر متبرع للكيان الصهيوني، كما ادعى البنك الدولي، كونهم مولوا ما يقارب الـ٦٠٪ من الدعم بين ١٩٤٩ـ ١٩٦٥، فإن الحقيقة أن أغلبها جاء من أميركا. فـ٨٠٪ من سندات «دولة إسرائيل»، مثلاً، تباع في أميركا، وهو ما يعني أنها في الحقيقة «هدية غير مباشرة من الحكومة الأميركية التي تسمح بالإعفاءات الضريبية لكل تبرع لإسرائيل». أما المصدر الأجنبي الكبير الآخر لرأس المال الأجنبي فكان «ألمانيا الغربية التي دفعت 1,736,700,000 أو تقريباً ١.٨ مليار دولار لإسرائيل بين ١٩٤٩ـ١٩٦٥» (11).
إذا كانت «إسرائيل» حقاً خرافة حين كتب عبد الناصر «فلسفة الثورة»، وإذا كانت «المعجزة الاقتصادية» سابقاً أسطورة، فإن «إسرائيل» اليوم، كما تشير البيانات الجديدة، هي الخرافة بامتياز، ومعجزتها الاقتصادية، أسطورة العصر بلا منازع في ٢٠١٦. فالمشروع الجديد المقترح من إدارة أوباما ويجرى التفاوض عليه لتزويد «إسرائيل» ما بين ٤٥ـ٥٠ مليار خلال العقد القادم ٢٠١٨ـ٢٠٢٧ (أو خمسة مليارات سنوياً) ربما ستصدم حتى الرئيس ناصر لو كان حياً. فهذه الدفعة لوحدها ستشكل تقريباً نصف كل المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي قدمتها أميركا لـ«إسرائيل» خلال الستين عاماً الاولى من عمر الكيان (وهذا لا يشمل الـ٣٠ مليار دولار التي قدمتها إدارة بوش عن العقد الحالي ٢٠٠٩ ـ ٢٠١٨). هذه المرة سيقدم دافعو الضرائب الأميركيون لكل رجل وأمرأة وطفل في الكيان الصهيوني ما قيمته ٦٠٠ دولار سنوياً من الأسلحة لعشر سنين قادمة، وستتضمن إعانة مالية بأكثر من ١.٣ مليار للصناعات العسكرية الإسرائيلية كون القانون الأميركي الحالي يسمح بإعفاءات خاصة (فقط) لـ«إسرائيل» التي يمكنها إنفاق ربع (٢٥٪) المساعدات العسكرية على شركاتها المحلية» (يتوجب على كل الدول الأخرى (غير «إسرائيل») التي تتلقى مساعدات عسكرية أميركية أن تنفق كل المبلغ (١٠٠٪) عند شركات السلاح الأميركية). هل هناك حاجة، بعد كل هذا، للتذكير بطبيعة الصراع الدائر؟ وهل هناك حاجة الى الدعوة لنزع الوهم عن من هو العدو؟
في أعقاب ١٩٦٧ خضعت «التشكيلة الطبقية/ الاجتماعية العربية لتفكيك جذري»، يستنتج كتاب عبقري سيصدر قريباً عن «تفكيك الاشتراكية العربية»، وفي دراسة سابقة عن تراجع الإنتاجية في الوطن العربي (12). فشروط الهزيمة التي قبلت بها النخب العربية الجديدة التي صعدت في أعقاب النكسة قادت إلى «التنمية المعكوسة» في الوطن العربي التي ناقشتها هنا في «الأخبار» سابقاً. الحروب العدوانية المتواصلة على وطننا العربي والصراعات المحلية مضاف إليها سياسات اقتصادية نيوليبرالية فظة في جرأتها ووقاحتها جردت الوطن العربي من كل قدراته على النمو وسحقت قيمة الإنسان العربي ومسخته لمستوى السلع الأقل سعراً في الكون حتى يستمر تصاعد تراكم رأس المال العالمي. بعد تسعة وأربعين عاماً على كارثة الهزيمة في حزيران يتفكك وطننا العربي أمام أعيننا فيما أجهزة الدولة القِطرية تتحلل تحت الضربات المتواصلة لمشاريع النيوليبرالية وقواها المتوحشة. بعد تسعة وأربعين عاماً على هزيمتنا المرة في حزيران ١٩٦٧ تتعرض شعوبنا في الوطن العربي لكل كارثة يمكن، أو حتى لا يمكن، للعقل البشري ان يتخيلها أقل من حدود الإبادة الكلية. بعد تسعة وأربعين عاماً يجب أن نستنتج أن وطننا العربي ومحيطه لن يعرف السلام طالما أن هناك كياناً اسمه «إسرائيل» في وسطنا، وأن خيارنا الوحيد الممكن هو الوحدة في مواجهة التجزئة، وأن مسارنا الوحيد الممكن للنجاة لا يمكن أن يكون رأسمالياً. وأخيراً، بعد تسعة وأربعين عاماً، علينا أن نعترف أن مفهوم «النكسة» يبدو أكثر قصوراً من أي وقت منذ الهزيمة وحتى اليوم. نحن بحاجة ماسة الى مفهوم جديد.
(من نص أطول سينشر منفصلاً عن «نكبة فلسطين»)
* كاتب عربي
هوامش
Christopher Hill, “The World Turned Upside Down: Radical Ideas During the English Revolution” (London: Penguin Books, 1975), p.15 (1)
(2) Benedict Anderson, “Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism” (London: Verso, 1983), p. 205
(3) Gershon Shafir and Yoav Peled, “The New Israel: Peacemaking and Liberalization” (Boulder, CO: Westview, 2000)
(4) Perry Anderson, “The House of Zion”, New Left Review 96, November-December 2016, p. 5
(5) A. Kadri, “Arab Development Denied: Dynamics of Accumulation by Wars of Encroachment” (NY: Anthem Press, 2014), p. 4
(6) A. Kadri, “Unmaking Arab Socialism” (A forthcoming book)
(7) ١٠٢:صجمال عبدالناصر، «فلسفة الثورة».(القاهرة: بيت العرب للتوثيق، ١٩٩٦)
(8) Quoted by David Horowitz in «The Enigma of Israel›s Economic Development,» Bank of Israel, Research Department, ECONOMIC REVIEW, no. 39, (Aug. 1972), p. 131.
(9) Sheila Ryan, Israeli Economic Policy in the Occupied Areas: Foundations of a New Imperialism, MERIP Reports, No. 24 (Jan., 1974), pp. 3-24+28
(10) المصدر السابق
(11) المصدر السابق
(12) A. Kadri, “Productivity decline in the Arab World”, real-world economics review, issue no 70