Menu

الذكرى الثانية.. مجزرة الجمعة السوداء في رفح

من مشاهد رفح خلال الحرب

محمود أبو ندى

كان يوم الجمعة الأوّل من آب من العام 2014، خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة، نقطة التحول في حياة أحمد.

من يومها اختلف تعريف أحمد للحرب، تغيّرت ماهيتها في نظره، اقترب من سبر أغوارها أكثر، فباتت لوناً أسود، يقيضُ حاضره ومستقبله بالطريقة ذاتها التي طمس بها على ماضيه. يحكي أحمد عن أول الساعات في يوم "الجمعة السوداء":

"كنّا قد وصلنا للتوّ إلى البيت من منزل عمتي، حيث مكثنا منذ بدء الحرب. عودتنا إلى المنزل كانت بعد إعلان الهدنة المؤقتة، والتي كان من المفترض أن تبدأ مع ساعات الصباح. لكن لم تنقضِ سوى عشر دقائق على وصولنا إلى البيت، حتى عادت القذائف، كسوطٍ لم نكَدْ ننسى لسعاته بعد. حانت مني نظرة إلى الشباك في خضم موجة الرعب تلك، رأيت الناس الذين كانوا لتوّهم قد عادوا إلى منازلهم يهربون إلى الشارع العام، يهربون من الموت، من اللاملجأ إلى اللاملجأ، إلى حيث يقود الخوف أقدامهم.

أما أمي التي تملّكها الرعب والأسى فقد صرخت بإخوتي وأمرتنا بالخروج من البيت. حملنا أغراضنا التي أتينا بها للتوّ مستعدين بذلك لرحلة لجوءٍ جديدة. القذائف لا تتوقف. انتظرنا عشر دقائق، أخيراً تمكنّا من الخروج، أنا وأفراد عائلتي نمشي على الأرض المفروشة بقذائف الدبابات وشظاياها، والسماء الملبّدة بالطائرات. خرج والدي وإخوتي الصغار في البداية، وتبعتهم. ولجنا متسلّلين إلى أحد الشوارع الفرعية الموصلة إلى الشارع العام، عشرات الجيران يركضون في الشارع، والكل يترقّب أين ستنفجر القذيفة التالية! أثناء السير في الشارع، على الجانب الأيمن للطريق يد مبتورة، في الجانب الآخر ما تبقى من جسدٍ لم ألحظ هويته، الحرب لا تسلب من أجساد الشهداء ملامحها فقط، بل تسلبنا حواسنا. وقتها رسمت في ذهني العشرات من السيناريوات التي رأيتني فيها جسداً بلا ملامح، صرت أركض هرباً مني، من الخيال، من الموت، أركض، نركض، أجساد الناس موزّعة على الطرقات، عشرات الجثث التي عجنتها الصواريخ: أُمٌ حولها أبناؤها، أخ بجانب أخته، لقد رأيت صورتي على وجوه الشهداء جميعاً. تملكني الخوف من السقوط، مَن يسقط يسقط، لا أحد ينظر للخلف، "يموتُ مَنْ لا يستطيع الركض في الطرقات"، مَن يستطع النفاذ بروحه وجسده كاملاً ينفذ. نركض ونركض والقصف لا يتوقف، الموت يكره أن يفارقنا.

وصلنا أخيراً إلى أبواب المستشفى، حيث بدأ الناس بالتجمّع، إذ إنّ المستشفيات في آونة كهذه منطقة نحسبها آمنة تأوينا من لهيب القذائف المُستعرة في الشوارع، هذا ما نقنع أنفسنا به. في أروقة المستشفى جثث كثيرة ملقاة، عشرات من الجرحى، الذين ينتظرون دورهم للعلاج أو للموت. الكثير من الناس في الممرّات يبكون إما على الموتى أو المفقودين الذين انقطع الاتصال بهم، أو من المجهول المقبل.

بعد وصولنا إلى المستشفى اكتشفنا أننا ناقصون، اثنان من أخوتي مفقودان، أين ساهر ورامي؟! أشعر أن صوت سؤالي أسمع العالم! نتفقّد ما حولنا، فلا نجدهم. بعد محاولات عديدة للاتصال بهم عرفنا أنّهم لم يتمكّنوا من الخروج من المنزل، فالقذائف كانت تلتهم الإسفلت المقابل لباب البيت، بقيا الاثنان لمدة ساعتين جالسين تحت درج المنزل، منتظرين أن تسنح لهم الفرصة حتى يتمكنوا من النفاذ من موتٍ محتمٍ يترصد خطواتهما، أو لعلهما كانا "محظوظين جداً" إذا قررت قذيفة ما أن تنتزعَ روحيهما من دون أن تُخلفهم جريحين بأضرارٍ جسيمة، يا لبؤسنا، إننا نبكي الموتى ونحسدهم. أحيانًا نتمنى مصيرهم.

بعد لحظاتٍ من وصولنا إلى المستشفى بدأت القذائف تنهمرُ قبالة باب المستشفى. أعلمتنا الأطقم الطبية بأنَّ ثمةَ تحذيراً من جيش الاحتلال الإسرائيلي بوجوب إخلاء المستشفى. صار علينا عندها أن نكمل طريقنا إلى وسط المدينة سيراً على الأقدام. كان استقلال أي مركبة متحركة بمثابة انتحار، الطائرات تقصف كل شيء متحرك من السيارات إلى الدراجات النارية، حتى سيارات الإسعاف تم قصفها. كل شيء يتحرك على الأرض كان هدفاً للطائرات. انطلقنا من المستشفى مع عشرات العائلات، الكل يهرول على جانب الطريق. أثناء سيرك لا بد أن تمر بأكوام من الحجارة كانت قبل لحظات عمارات قائمة، وبجثث كثيرة لأناس كان يسيرون منذ لحظات فقط.

لا أعلم كم من الوقت استغرقه ذاك الطريق حتى وصلنا إلى ما يُعرف بوسط المدينة بهدفِ اللجوء إلى أحد مدارس "الأونروا" أملاً بتوفير الأمان والحماية. تفقد عندها الإحساس بكل شيء، تصبح خارج الزمان والمكان، كل ما تفكّر فيه فقط (أين سينزل الصاروخ القادم، بمن ستفتك القذيفة التالية، مَن الذي سنودّعه للأبد بعد لحظات)، تحاول أن تُفكِر بكل شيء إلا أن تكون أنت الضحية التالية، تحاول الهرب من خيالك ولا تستطيع.

عندما وصلنا بدأنا بتفحّص أجسادنا. لقد نسيت أن تفكر في جسدك، في الرضوض وفي تعب المسير، أنت لم يتسنَ لك أن تطمئن عليه!

بقيت هذه الساعات غصّة ولعنة تلحق بي وأجرّها خلفي، ظلي الذي لم أختره. إنّه يتربّص بي في كل يوم. حتى اليوم، وفي كل يوم جمعة أتلمّس جسدي عندما أستيقظ. أنا لستُ واثقاً بأنني خرجت سليماً. أنا لم أنجُ، أنا في كابوسٍ أبدي".