Menu

واليسار أيضا يتحمل مسؤولية في اغتيال العقل!

نصّار إبراهيم

"إن أبشع استغلال للإنسان هو استغلاله باسم الدين، لذلك يجب محاربة المشعوذين والدجالين حتى يعلم الجميع أن كرامة الإنسان هي الخط الأحمر الذي دونه الموت" (تشي جيفارا).

لهذا قد أساوم على حياتي... ولكن لم يعد لدي هامش أو مزاج أو رغبة أو استعداد للمساومة على حريتي وعقلي وإنسانيتي...

نعم... اليسار الأردني والفلسطيني والعربي يتحملون أيضا مسوؤلية جدية في اغتيال العقل والثقافة... بما في ذلك إطلاق الرصاص على ناهض حتر... أو أي رصاصة ستطلق في الأيام القادمة على رأس أي إنسان، سواء أطلقت باسم الدين أو باسم أي تطرف سياسي أو فكري أو اجتماعي، وتستهدف اغتيال العقل والوعي والحرية.

يتحمل اليسار المسؤولية لأنه تخلى عن دوره ووظيفته الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية وذهب بعيدا في مساوماته الأيديولوجية والثقافية العقيمة والمهينة مع القوى السياسية التي تتوسل الفكر الديني لفرض سيطرتها وسطوتها على المجتمع والوعي... فراح يتعامل مع تلك القوى وكأنها معادل للدين نفسه... وليست مجرد قوى سياسية يقف اليسار على النقيض من مقارباتها الفكرية وألاجتماعية والثقافية.

لقد اهتز ذلك اليسار وارتبك أمام صعود مدّ الإسلام السياسي، وبدلا من التمسك بفكره وأيدولوجيته النقيضة والبديلة.. قام اليسار بوعي أو بدونه بالخلط ما بين احترام قناعات ومعتقدات الناس الدينية وحقها في الإيمان كما تشاء، وبين تمثل اليسار لتلك القناعات سلوكيا وفي خطابه الاجتماعي والثقافي اليومي...

لقد جاءت التجربة لتقول أن حالة بعض "المثقفين اليساريين" أو العلمانيين... وبعض قوى اليسار الفلسطيني والعربي... تشبه وإلى حد بعيد حكاية الغراب الذي أعجبته مشية الحمامة... فراح يحاول تقليدها... وفي النهاية فشل... ليس هذا فحسب... فالمشكلة ليس في أنه لم ينجح في السير كالحمامة فقط، بل وأيضا في أنه لم يستطع بعدها العودة لطريقته الخاصة والأصيلة في المشي...

لقد مارس اليسار بصورة ما "التقية الثقافية الفكرية والسلوكية" معتقدا أنه بالتقاطع والتقارب مع خطاب وممارسة قوى الدين السياسي سيتجنب المواجهة والتحريض وردود الفعل من قبل تلك القوى... لهذا ذهب إلى مجالها وحقلها طائعا ليبرهن لها أنه ليس ضد فكرها وأيديولوجيتها، مع أن وجوده بالأصل مرتبط بفكر ومشروع سياسي وإجتماعي وثقافي يناقض الأيديولوجيات والفلسفات الغيبية والدينية...

لهذا فإن الكثير من المثقفين اليساريين وبعض قوى اليسار... وفي ظل حالة الجمود والتردد والإخفاق التي يعيشونها منذ سنوات... وفشلهم في التعامل مع حركة الواقع وما يطرحة من أسئلة وتحديات شاملة... مقابل صعود قوى "الإسلام السياسي" والأيديولوجيا الدينية... اعتقدوا واهمين أن أفضل طريقة للتوسع والتقرب من المزاج الشعبي والجماهيري واستعادة الدور المفقود... هي في تبني سلوكيات القوى الدينية... من نوع التردد على المساجد أو الكنائس... ووفي طريقة اللباس... وممارسة الطقوس الدينية وغير ذلك... وكل ذلك بالطبع تحت عنوان مخادع "احترام عادات الناس وتقاليدهم ومعتقداتهم" ... ولكن من قال أن احترام العادات والتقاليد يستدعي تبنيها والترويج لها... ألم تنشأ تلك القوى كبديل للواقع السائد وللثقافة المهيمنة...!

هذا السلوك الإنتهازي بامتياز أفقد تلك القوى أهم ركيزة من ركائز وجودها وهي الركيزة الفلسفية والأيديولوجية... وهنا لا أقصد بالركيزة الفلسفية الدوغما والجمود والتعامل مع النظرية كمقدس... بل أقصد جوهرها الجدلي ومنهج التفكير العلمي الذي تتميز به الفلسفة الماركسية كبديل عن الفكر الرجعي والغيبي وما يترتب عليه من تعطيل للعقل وقدرة على رؤية تناقضات الواقع الاجتماعي.

لقد ذهب اليسار وقدم اعترافا صريحا بذلك الفكر وصرف من رصيده التاريخي والمعنوي ليثبت أنه لا يتناقض معه... لقد اعترف بالأيديولوجيا الدينية صراحة وفي الممارسة وعلى الصعيد السلوكي دون أن يأخذ من تلك القوى السياسية الدينية اعترافا مماثلا بأيديولوجيته العلمية... هذه المساومة الكارثية أفقدت قوى اليسار المبادرة الثقافية في مواجهة الفكر الديني التكفيري.

هل هناك من يعترض.. على هذه الصراحة؟ نعم.. أعرف أن هناك من يعترض... وينفي ذلك.. لهذ أذكر الجميع بكيف أصبحت سلوكيات النساء والرجال الذين يلتزمون بالتنظيمات اليسارية في لباسهم وممارساتهم اليومية والتزامهم بالطقوس الدينية..

وهنا يجدر التنويه أنني لست ضد حق وحرية أي فرد في ممارسة قناعاته ومعتقداته الدينية.. ولكن أن تذهب قوى اليسار وأعضائها إلى ذلك وفي نفس الوقت ترفع راية اليسار فإن ذلك يعبر عن شيزوفيرينيا فكرية وثقافية سخيفة...

ما ذهب إليه اليسار والمفكرون والكتاب اليساريون والعلمانيون من تماهي مع ضغوط قوى الإسلام السياسي شئ غريب... فرغم كل المحاولات لتبرير هذا السلوك الغريب إلا أنني لم أستطع استيعاب مفاهيم من نوع هذا مثقف "يساري أو ماركسي متدين" أو " متدين ماركسي"، مرة أخرى يجب التمييز العميق والدقيق هنا بين احترام الأديان والمؤمنين بها وبين تقمص السلوك الديني في الخطاب والتفكير والممارسة... فاليساري الحقيقي يحترم كل ذلك... لكنه يحافظ على حقه في النضال الفكري ضد هذه الأيديولوجيا الغيبية، فبقدر ما أن الآخرين لهم الحق في نقد الفكر اليساري فإن له ذات الحق في نقد الفكر السياسي الديني.

إنني على استعداد لأن أدفع حياتي دفاعا عن حق الناس في ممارسة حريتهم ومعتقداتهم الدينية... ولكن من على قاعدة الاحترام المتبادل، بمعنى أنه وبقدر ما للمتدين وللتنظيم السياسي الذي ينطلق من الفكر الديني من حق للترويج لفكرهما وطريقة عيشهما وحياتهما فإن ذات الحق يجب أن يصان للأفراد والقوى التي تخالفهما الرأي... هذا يعني أنه من غير المنطقي والمقبول فكريا واجتماعيا وسلوكيا أن تروج القوى الدينية لقناعاتها وتهاجم حرية الآخرين وطريقة عيشهم.. بينما لا يحق لأولئك الآخرين الحق في نقد ثقافة ومسلكيات وممارسة تلك القوى الدينية... ذلك لأن المسألة هنا لا تتعلق بالحق الفردي والشخصي الذي يجب أن يصان.. وإنما تتجاوز ذلك لتشمل سياسة فرض تلك القناعات بالقوة أو بالترهيب الديني على المجتمع بكامله.

هذا الموقف الواضح من "الفكر الديني السياسي والاجتماعي" لا يتناقض مطلقا مع بديهة أساسية راسخة في وعيي وهي أن ""الإسلام والمسيحية وغيرهما هما مكون تاريخي وثقافي من مكونات المجتمع، وبهذا المعنى فإنني كمواطن في هذا المجتمع وبغض النظر عن قناعاتي السياسية والفكرية أعلن وبوضوح بأنني لن أتخلى عن الدين الإسلامي أو عن المسيحية كمكون ثقافي ونفسي وروحي وأخلاقي وحضاري عضوي لأي أحد مهما كان..." (نصار إبراهيم – في الدين والتدين الملتبس ... في الإرهاب والتطرف الديني – 2014).

وهذا بالضبط ما عناه الشهيد ناهض حتر بقوله: "أختم بدعوة الرفاق اليساريين والقوميين إلى فعاليات خاصة بهم للانتصار لكرامة رمزنا القومي؛ نحن ورثة الرسالة وورثة النضال وورثة تراث العروبة ونحن أحق الناس بالدفاع عن الرسول العربي" (ناهض حتر – انتصارا لرمزنا القومي – 20 أيلول 2012).

إذن الجبن الثقافي والاجتماعي من قبل قوى ومثقفي اليسار أفقدهم القدرة على أن يكونوا قوة اجتماعية مهابة في مواجهة الفكر الديني الإرهابي والتكفيري الذي ينفي حق اليسار والقوميين والعلمانيين والتقدميين وحتى الناس العاديين في التعبير عن قناعاتهم.. بل ويعتبرهم هدفا مشروعا للقتل بتهمة الإلحاد.

هذا الضعف والهشاشة من قبل قوى اليسار والعلمانية شجع قوى التطرف الديني على الذهاب إلى الحد الأقصى في عنفها واستهانتها بالآخرين... لقد احتلت الميدان الذي لم يدافع عنه اصحابه كما يجب... مما هيأ المناخ والبيئة الحاضنة لتمرير جرائمها دون امتلاك الجرأة على مواجهتها...

لقد استطاعت تلك القوى وبدأب ترسيخ حضورها باعتباره معادلا لحضور الله على الأرض.. وبالتالي فأن من يخالفها الرأي يحق عليه عقابها... باعتباره عقاب السماء.

"إياكم والمساومة بالمبادئ، إياكم و"التنازل" النظري" هذه هي فكرة ماركس... كما يؤكد لينين .

قيمة هذا المبدأ الناظم تظهر الآن وفي هذه المرحلة تحديدا حيث المواجهة الفكرية والثقافية الطاحنة بين الأيديولوجيا الدينية المتخلفة والظلامية والفكر والثقافة العلمانية والقومية واليسارية... فلا مجال ولا مكان هنا للمساومة وتدوير الزوايا... ذلك لأن الفكر الديني المتخلف تحول إلى سكين للذبح وبيئة لحرق الناس وإبادتهم... إنه فكر لا يساوم ولا يهادن، وبالتالي لن يتم صده إلا بفكر نقيض لا يساوم ولا يهادن... ولا يتنازل عن المبادئ.

خطورة هذه المساومة الأيديولوجية يعبر عنها الثائر العالمي تشي جيفارا بقوله إن"المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خرابا من النظام الديكتاتوري والقمعي... الذي يمارس القتل ضد أبناء شعبه".

ولهذا فإن موقف وممارسة اليسار والمثقف اليساري والعلماني في السياسة والاجتماع والثقافة يجب أن يكون "إننا أيضا أحرار في النضال لا ضد المستنقع وحسب بل أيضا ضد الذين يعرِّجون عليه!" (لينين – ما العمل)...

نعم... لقد كان الشيوعيون الأوائل أكثر وضوحا وحسما وشجاعة وجرأة.