Menu

منيف الرزاز: الموت مظلوماً بصمت لا يجيده إلا الكبار

معن بشور

لم تكن الحرية مجرد معادلات فكرية وصياغات نظرية لدى المفكر العربي الراحل منيف الرزاز، بل كانت بشكل خاص مسار حياة وكفاح، ترجم فيها أبو مؤنس قناعاته ومبادئه إلى سلوك يومي، متحملاً الاعتقال والإبعاد والمنافي والإقامات الجبرية وصولاً إلى الموت مظلوماً بصمت لا يجيده إلا الكبار.

لذلك حرصت الباحثة الأردنية الواعدة فدوى نصيرات أن تتصدر كتابها المهم عن الرزاز نبذة مطولة عن سيرته المتصلة بموضوع الكتاب، وبمقدمة ابنه عمر الذي اجتمعت في نصه عاطفة صادقة وأسئلة ملحة، وقد كنا نظن أنه أفلت من السياسة والفكر السياسي وقد امتلأت بهما حياة والده وشقيقه مؤنس، فإذا به يظهر «عضواً سرياً» متفوقاً في عائلة مبدعين: الأب مبدع في فكره ونضاله، والأم (لمعة بسيسو) مبدعة في حكمتها وصبرها، والشقيق مؤنس مبدع في رواياته وأدبه.

من الصعب في عجالة أن نستعرض كتاباً فيه من الجهد البحثي والتحليل العلمي ما في كتاب نصيرات، لكن لا بد في البداية من تسجيل الإعجاب باختيار الباحثة لمنيف الرزاز موضوعاً لكتابها وباختيار الحرية عنواناً لهذا الكتاب. فالرزاز والحرية صنوان. هو استمد منها معنى لحياته وهدفاً لنضاله، والكاتبة رأت فيه تجسيداً حياً للالتزام بها مهما كانت كلفة هذا الالتزام عالية.

وحين سُئِلت الكاتبة الشابة، في زيارة سابقة لها إلى بيروت، عن سر اختيارها منيف الرزاز موضوعاً لكتابها، وما إن كانت تجمعها علاقة عائلية أو حزبية أو جهوية به، أجابتني أنها «من جيل بات يدرك أن لا حل للأزمة التي تمر بها أمتنا إلا بالعودة إلى حركة نهوض قومي وتحرر وحرية وعدالة اجتماعية، وأن الطريق إلى تجديد هذه الحركة يمر حتماً باستعادة سير رموزها وقادتها وأفكارهم، وفي المقدمة منهم منيف الرزاز».

يتخذ هذا البحث من «الحرية» في فكر منيف الرزاز بعداً تأسيسياً، ليس في وطننا العربي فحسب، بل في مجمل بلدان العالم الثالث التي رأى الرزاز أن مشكلة الحرية فيها تشكّل جامعاً مشتركاً، وسعى إلى تقديم حلول لهذه المشكلة.

وقد أوضح الكتاب بشكل دقيق وشامل نظرة الرزاز للحرية التي ما زالت صالحة بعناوينها الرئيسية حتى اليوم، حيث أكدت تلك النظرة على تلازم الحرية والوعي، حيث يحصن الوعي الحرية، وحيث توفر الحرية التربة الخصبة لنمو الوعي في المجتمع.

كما أكدت تلك النظرة أن الحرية هي مسار تطوري مرتبط بالظروف التي تعيشها كل أمة أو كل شعب، فلا يجوز إسقاط نموذج معيّن معتمد في بلد معيّن لها على بلد آخر. كما أكدت على الترابط بين المضامين المتعددة للحرية وتلازمها، وعدم إعطاء أي مضمون منها أرجحية على المضامين الأخرى. فقد تحدث عن الحرية السياسية محدداً الدولة كوسيلة أولى لتحقيقها، لناحية السماح بحرية الرأي والتعبير، وحرية التكتل النقابي، وحرية التمثيل النيابي، وحق الانتخاب وتشكيل الأحزاب... الخ.

أما الحرية الاقتصادية عند الرزاز فتقوم على فكرة أن الاستعباد الاقتصادي للإنسان لا يقل أهمية من مثيله السياسي، وإذا كان الاستبداد السياسي يؤدي إلى حرمان الفرد من تحديد غاياته بنفسه، فالاستبداد الاقتصادي هو حرمان الإنسان من الثروة وبالتالي من أدوات تحقيق هذه الغايات.

ويقارن الرزاز بين الحرية الاجتماعية (وهي المضمون الثالث للحرية عنده) وبين الطغيان الاجتماعي، فيرى أن الحرية الاجتماعية تقوم على حسٍ عام يقبل بالتغيير، ويتّسع صدره للإبداع ولوجود أصوات تطالب بالتغيير، وتسمح للمجتمع بالدفاع عن نفسه. أما الطغيان الاجتماعي فيقوم على حماية المجتمع نفسه من مساعي تغيير الأسس والمفاهيم السائدة، فيما يقود هذا الطغيان رجال السلطة والثروة، وكثيراً ما تُستخدم الثروة كوسيلة للوصول إلى السلطة، والسلطة وسيلة لتكديس الثروة.

أما الحرية القومية فهي المضمون الرابع للحرية عند الرزاز، فلا حرية شخصية أو سياسية أو اقتصادية في غياب حرية الشعب بمجموعه، والكيان الحاضن له. وهي ركن ضروري ومكملٌ لما سلف، بل شارطٌ شارط لوجود أركان الحرية الأخرى.

هذه بعض أفكار الرزاز، كما عرّفتها الباحثة فدوى نصيرات في كتابها القيم، وهي أفكار لو تُرجمت خلال نصف القرن الماضي من قبل الحاكم أو المعارض على حد سواء، لوفرنا على أمتنا الكثير من النكبات والكوارث التي تعيشها.

لكن الملاحظ أن الرزاز في كتبه ومقالاته المتعددة عن الحرية لم يقدم صيغة متكاملة لنظام يقوم على أساسها، على اعتبار أن الأشكال القانونية والصيغ الدستورية أمر تقرره ظروف كل مرحلة أو كل مجتمع. ومن اللافت أن الرزاز قد خصص منذ العام 1952 في كتابه «معالم الحياة العربية الجديدة»، الذي نال الجائزة الأولى في مسابقة جامعة الدول العربية يومها، حيّزاً كبيراً لقضايا حقوق المواطن، خصوصاً حق الانتخاب وحرية الفكر والتعبير وحقوق المرأة، فيما ربط في كتاب «تطور معنى القومية» الثورة ضد الاستعمار بالثورة ضد الاستبداد الداخلي. وفي كتاب «التجربة المرة» العام 1966 يلاحظ الدكتور عمر الرزاز في مقدمته لكتاب فدوى نصيرات أن والده منيف انتقد وسيلة الانقلاب العسكري للوصول إلى السلطة وتفريغ الحزب بالتالي من محتواه الديموقراطي. من ثم يتساءل في مقدمته: أين أخطأ منيف الرزاز وجيله؟ وماذا أغفلوا في تقديرهم لقوى التغيير والتحول النهضوي؟ وفي إجابته على السؤال، يرى أن أول العوامل، يتمثل في اعتقاد منيف الرزاز أن قوى التغيير أقوى من قوى المحافظة، متجاهلاً قدرتها على تجنيد إمكانياتها في معركة الدفاع عن ديمومتها. أما ثاني العوامل فيتمثل بثروة النفط التي تحولت إلى نقمة بدلاً من أن تكون نعمة، فيما ثالثها فيتمثل بسهولة تخويف الأنظمة من الفتنة الطائفية والعشائرية والجهوية بل وتوظيفها لضرب الوعي الجماهيري الجامع.

وفي مطلق الأحوال، يبقى الكتاب شهادة ناصعة لمنيف الرزاز ورفاقه، لناحية فهمهم ضرورة ترابط العروبة بالديموقراطية، كما شهادة مؤلمة على فرص أضاعتها الأمة، لا سيما بحركتها القومية عموماً، لأن الأخيرة لم تُعطِ «الحرية» ما تستحقه في برامجها ونضالاتها وممارساتها، تماماً مثلما لم تعط الوحدة والاشتراكية ما تستحقانه من أولوية.

] فدوى نصيرات، «الحرية في فكر المفكر العربي منيف الرزاز»، الدار العربية للعلوم، 2016.