برغم أنه من المبكر الحكم على تأثير وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض على القضية الفلسطينية لأنه جاء من خارج النظام، ولأن رؤيته غير واضحة تماماً، ولا يمكن الحكم عليها من خلال ما صرّح به ومساعدوه أثناء الحملة الانتخابية، عدا عن كونة شخصًا شعبويًا وعنصريًا ومتقلبًا، إلا أني سأحاول إجراء قراءة أولية قد تكون عرضة للتغيير بعد مضي الأيام المئة الأولى على توليه الحكم، التي يتحدّد خلالها طاقمه ومساعدوه ووزراؤه وبرنامجه الحقيقي، إذ تختلف الرؤية من البيت الأبيض عنها من خارجه.
إذا ما استعرضنا مواقف ترامب أثناء الحملة الانتخابية، سنجد أنها تغيّرت من الحديث الأولي عن حق الفلسطينيين في الحصول على حقوقهم وعن واجب إسرائيل بدفع ثمن ما تحصل عليه من أميركا، إلى انقلاب شامل وصل إلى التعهّد بنقل السفارة إلى القدس وعدم السماح بإقامة دولة فلسطينية «إرهابية»، وإلى أن الحل قوامه مفاوضات ثنائية من دون إملاءات ولا تدخل من أحد، ما يجعل إسرائيل متحكمة بها كليًا، على قاعدة أنها الدولة «الديموقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط» المحاطة بـ «العداء والكراهية والتحريض». علماً أن ترامب حرص على الإعلان خلال حملته الانتخابية، بفخر شديد، أن ابنته تزوّجت من يهودي وأنها حامل وستلد طفلًا يهوديًا، وأتبع ذلك بقوله، في الجانب السياسي، أن الاستيطان حق مشروع لإسرائيل.
الأخطر من تصريحات ترامب هم أركان حملته الانتخابية والمرشحون لتولي المناصب الرئيسية في إدارته. فالكثير منهم من غلاة المؤيدين لإسرائيل وللاتجاهات اليمينية المتطرفة فيها. إذ منهم نيوت غينغريتش صاحب مقولة «إن الشعب الفلسطيني شعبٌ مُخترع»، ووليد فارس ذو الأصل اللبناني، الذي كان في تنظيم «حراس الأرز» المعادي للفلسطينيين، ورودولف جولياني وجون بولتون، المعروفَان بتأييدهم الأعمى لإسرائيل، إضافة إلى نائبه مايكل بنس الذي ينافس غلاة الإسرائيليين في تطرفهم.
قد يكون ترامب لجهله وافتقاده الخبرة السياسية ضحية الفريق المحيط به. والسؤال: هل سيكون تلميذًا نجيبًا ينفّذ السياسة التي توضع له مثلما كان رونالد ريغان، وهذا من أسوأ ما يمكن أن يحدث بسبب نزوع فريقه إلى التطرف، أم أنه سيكون متمردًا عليها؟ والاحتمال الأخير يقلق بعض الأوساط الإسرائيلية، إذ إنه شخص يصعب التكهن بمواقفه، وهو لم يعتمد على دعم اللوبي الصهيوني. لذلك فقد فضّل هذا اللوبي أن يصوّت بكثافة لكلينتون المؤيدة بشدة لإسرائيل، لأنها ستسير على سياسات واضحة. ولعل هواجس هذا اللوبي تزداد بعد تصريحه غداة الانتخابات تصريحًا مغايرًا لما صرّح به قبلها، بقوله إنه سيعمل للتوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
يغلب الشعور بالقلق على ردود الفعل الفلسطينية على فوز ترامب لجهة انحيازه المرجح لإسرائيل الذي سيؤدي، في الحد الأدنى، إلى إطلاق يدها للتصرف كما تريد من دون الخشية من ردة فعل أميركية أو دولية. وهذا يفتح الباب بصورة أكبر لضم الضفة أو مناطق (ج). فـ «الفيتو» الأميركي سيكون بالمرصاد لأي محاولة دولية لإدانة إسرائيل ردًا على ذلك، باستثناء وجود نافذة فرص من الآن حتى استلام ترامب مهماته رسميًا في العشرين من كانون الثاني المقبل، تقوم على احتمال أن يشجع باراك أوباما مجلس الأمن على اعتماد مشروع قرار يحدد مبادئ عملية السلام وأهدافها ومرجعياتها، على أساس الحاجة إلى قيام دولة فلسطينية، لأن الرئيس المنتخب ليس من حزبه ولا هو يقيده كما لو كان الأمر ليكون لو نجحت كلينتون. وهذا يتيح لأوباما أيضًا فرصة لتحقيق إنجاز في الشرق الأوسط حاول أن يحققه في بداية عهده، لكنه لم يتمكّن بسبب معارضة إسرائيل ومؤيديها في الولايات المتحدة. كما يمكّنه ذلك من الانتقام من نتنياهو الذي «أذلّه» خلال فترة حكمه.
تبقى الخشية إذا قام أوباما بهذه الخطوة من أن يتضمن قرار مجلس الأمن الاعتراف بإسرائيل كـ «دولة يهودية»، ورفض حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، إضافة إلى ضمانات قوية للحفاظ على الأمن الإسرائيلي، ولتكريس مبدأ «تبادل الأراضي» الذي يتيح لإسرائيل ضم المستوطنات أو الجزء الأكبر منها، مقابل مطالبتها بالانسحاب إلى حدود أو ضمن حدود 1967 والسماح بإقامة دولة فلسطينية.
وحتى لو أقدم أوباما قبل رحيله على مثل هذه الخطوة، فيجب عدم المراهنة عليها، بل العمل العربي والفلسطيني ومن جانب المؤيدين للقضية من أجل التزام الخطوة بما جاء في القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي تتضمّن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية وعدم السماح بالهبوط عنها. كما ينبغي الحذر من الموافقة عليها كليًا إذا تضمّنت المواقف المشار إليها أعلاه، وأزعجت إسرائيل في الوقت نفسه، لأن الأخيرة تريد إقامة دولة عبرية كبرى، في حين أن هذه المبادرة – إن حصلت – تبقي على الطاولة خيار الدولتين الذي سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى القضاء عليه.
أخيرًا، هناك من الفلسطينيين مَن يحاول أن يهوّل كثيرًا من دلالات فوز ترامب، لدرجة القول إن القضية الفلسطينية قد تُصفّى تماماً، متناسيًا أن الذي حفظ القضية طوال هذا الوقت، برغم الحروب والمجازر، أنها قضية عادلة ومتفوقة أخلاقيًا، وأن لها أبعاداً عربية وإسلامية ومسيحية وإنسانية تحررية، والأهم أن وراءها شعب حي مصمّم على الدفاع عنها. وما دام هذا الشعب حيًّا فهو قادر على حمايتها، خصوصًا إذا توفرت له قيادة بمستواه، تتمتع برؤية شاملة للإنقاذ الوطني، وتعمل على توحيد القوى الفلسطينية.
وهناك مَن يهوّن من تأثير هذا الانقلاب بالقول إن أميركا دولة مؤسسات، وإن القرار فيها لا يتحكم به الرئيس (وهذا صحيح بشكل عام)، وإن رؤساء أميركا «من أدوات دولتها العميقة»، وإن الاستراتيجية المعتمَدة أميركيًا واحدة لا تتغيّر، إنما تتغيّر أساليب تطبيقها. علماً أن مَن يقول ذلك لا يدرك حجم التغيير الذي أحدثه أو يمكن أن يحدثه ترامب، خصوصًا أن الكونغرس ومجلس الشيوخ يتمتعان بغالبية «جمهورية».
وهناك، خصوصًا في القيادة الفلسطينية، مَن يهدّد إذا ما نفّذ ترامب ما تعهّد به في حملته الانتخابية بتقديم مشروع قرار كل يوم في المؤسسات الدولية، وكأن المجتمع الدولي - على أهميته - هو الميدان الوحيد أو الرئيسي للصراع، متناسيًا أن محور الصراع على أرض وجبال ووديان ومدن وقرى ومخيمات فلسطين، وفي جميع دول الشتات، الأمر الذي يوجب وضع استراتيجية للتحرر الوطني قادرة على توحيد الجهد الفلسطيني وإنجاز الأهداف المُبتغاة، سواء بوجود ترامب أو غيابه.