الرسالة الأولى والأهم التي أرسلها مؤتمر باريس إلى إسرائيل والإدارة الأميركية الجديدة أن العالم برمته يدعم ما يسمى حل الدولتين، وأن هذا الحل مهدد بالانهيار الذي وإن حدث ستترتب عليه عواقب وخيمة. لذا يجب العمل على إنقاذ هذا الحل، والحيلولة دون تنفيذ وعود الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب لإسرائيل، لأن تحويلها إلى سياسة أميركية بمثابة المسمار الأخير في نعش ما يسمى حل الدولتين. أما الرسالة الثانية التي أرسلها المؤتمر، والتي تمثل نقطة الضعف القاتلة، هي إبقاء حل الدولتين من خلال اجترار الدعوة إلى استئناف المفاوضات الثنائية، ما يجعل التحرك الفرنسي كما قال الرئيس هولاند مجرد منصة لاستئناف المفاوضات الثنائية المباشرة، فهو لا يقدم بديلًا للمفاوضات، بل أقصى ما يطمح إليه توفير رعاية دولية شكلية جدًا لا تملك صلاحيات التدخل، وإنما تتم بموافقة الطرفين، وحتى هذا الرعاية مرفوضة من إسرائيل، ومن بعض حماتها، مثل الحكومة البريطانية التي تحفظت على البيان، وشاركت في مؤتمر باريس بصفة مراقب، حتى لا تكون مسؤولة عما يمكن أن يخرج منه. وبلغ الحرص الفرنسي والأميركي والدولي على إظهار أن الهدف الأساسي من كل هذا التحرك هو العودة إلى المفاوضات المباشرة، لدرجة أنّ أفكارًا مثل توسيع اللجنة الرباعية الدولية بأطراف أوروبية وعربية ودولية أخرى لمواكبة المفاوضات، وتحديد سقف زمني للتوصل إلى اتفاق، وجدول زمني لتطبيقه، سحبت منذ مدة من التداول. هذا الأمر طبيعي لأن جون كيري أكد عبر الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية قبل عقد المؤتمر بأنه سيشارك للدفاع عن مصالح إسرائيل، واتصل بنتنياهو مؤكدًا بأنه لن تكون هناك متابعة لنتائج المؤتمر في مجلس الأمن، وصرّح بأن الولايات المتحدة حرصت على أن يكون البيان متوازنًا ومنصفًا لإسرائيل. لعل ما سبق يفسر سبب الارتياح الإسرائيلي النسبي من نتائج المؤتمر الذي قاطعته واعتبرته عبثيًا وخدعة فلسطينية برعاية فرنسية، «وكرمال عيونها» تم تعديل البيان باستمرار حتى ترضى عنه، أو على الأقل تخفف معارضتها له بشكل كبير، كما لم تتم دعوة الجانب الفلسطيني للمشاركة رغم أنه كان متحمسًا دائمًا وبشكل مبالغ فيه للمبادرة الفرنسية منذ انطلاقتها، ولعقد المؤتمر ونتائجه، بالرغم من أن البيان الختامي تعرض إلى تغييرات في الصياغة استمرت حتى اللحظة الأخيرة، وضمنت الكثير من المطالب الإسرائيلية. فإسرائيل الغائبة كانت الأكثر حضورًا في المؤتمر، من دون أن يترتب عليها أي شيء، فهي مع ارتياحها لنتائجه لم تلتزم ببيانه. أما الفلسطينيون فقد رحبوا بالبيان رغم إزالة العبارة التي تحدثت عن أن المجتمع الدولي لن يعترف بأي تغييرات أحادية، عدا عن أنه ساوى بين الضحية والجلاد في فقرات عدة، وألمح إلى أن اللجوء إلى التدويل والأمم المتحدة والمحكمة الجنائية خطوات أحادية تتساوى مع ما تقوم به إسرائيل من خلق حقائق احتلالية وعنصرية على الأرض تضرب كليًا أي إمكانية للتوصل إلى اتفاق. كما تم الفصل في إحدى العبارات ما بين الاستيطان والعنف والإرهاب، لأن إسرائيل وحماتها لا يقبلون بالمساواة بين الأمرين. فالمساواة بين الضحية والجلاد التي هبطت بسقف الموقف الدولي كثيرًا من خلال محطات ومناسب وقرارات دولية عدة يُراد لها أن تستبدل بعبارات تنحاز للجلاد. أما الرسالة الثالثة فهي تصريح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند «بأننا لن نفرض معايير التسوية على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي»، وإذا كان الأمر كذلك فما معنى العبارات التي تضمنها البيان والتي تحدثت عن القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة، فهي إذًا مجرد نصائح، والنصائح لا يمكن أن تغير الواقع المتدهور الذي يسير بصورة متسارعة نحو المزيد من التدهور، بينما الرد الإسرائيلي عليها مثله مثل رد إدارة ترامب بأن نصائحكم غير مقبولة، لأن ترامب يتبنى مقاربة تقوم على أن اتفاق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين يجب أن يتم التوصل إليه بالمفاوضات بين الجانبين من دون تدخل طرف ثالث ومن دون نصائح، وربما يضيف بعد ذلك من دون نصائح غير مرغوب فيها. ومن أخطر ما تضمنه بيان المؤتمر، وهو أصبح لازمًا نراه في كل المبادرات والتحركات الأميركية والأوروبية والدولية، الاهتمام اللافت جدًا لأمن إسرائيل دون اهتمام يذكر بأمن الفلسطينيين، بالرغم من أنّ إسرائيل هي الدولة المحتلة العنصرية القوية المسلحة بأنياب نووية، والمدعومة من أقوى دولة في العالم، وتربطها بها علاقات عضوية إستراتيجية. في هذا السياق، لا يجب الخطأ في قراءة امتناع إدارة باراك أوباما عن التصويت على قرار مجلس الأمن ضد الاستيطان 2334، فهي أكثر إدارة دعمًا لإسرائيل. وما جاء في خطاب كيري وتصويره بأنه معادٍ لإسرائيل ليس صحيحًا، بل الأمر على العكس، فما تقوم به إدارة أوباما في أيامها الأخيرة هي محاولة لإنقاذ إسرائيل من تطرف حكومتها. إن المدقق في السياسة الأميركية التى اتبعتها الإدارة الراحلة يلاحظ أنها منحازة بشكل كبير لإسرائيل، فهي من جهة تريد إقامة دولة فلسطينية، بينما في المقابل تستجيب لمعظم لاءات إسرائيل، فهذه الدولة الفلسطينية المطلوبة أميركيًا مفترض أن تضم معظم المستوطنات والمستوطنين، على أن يكون الاتفاق على الحدود بالتفاوض، وذلك للحفاظ على إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وحتى لا تقوم دولة واحدة يصبح فيها الفلسطينيون أغلبية، كما رفضت إدارة أوباما حق العودة للاجئين، وتركت أمر القدس للتفاوض على أساس ضم «الأحياء اليهودية» في القدس الشرقية لإسرائيل أو اعتبارها عاصمة لدولتين، يقوم القسم الفلسطيني منها على أحياء وليس على كامل القدس الشرقية. في هذا السياق يمكن أن نفهم لماذا تم تأجيل زيارة الرئيس محمود عباس إلى باريس التي كانت مقررة غداة المؤتمر فورًا، إذ أجلت إلى أسبوعين آخرين على الأقل، وهذه مدة كانت ستكون ضرورية لو سيتم عرض مشروع قرار على مجلس الأمن، بينما الآن سيتم الاكتفاء بإحاطة مجلس الأمن علمًا بما جرى في مؤتمر باريس. الآن، انفض السامر الذي شغل القيادة الفلسطينية عامين كاملين، وتصرفت خلالهما مثل الغريق المتعلق بقشة، والذي كان عنوانه التحرك الفرنسي، حيث أخذ في البداية في نهاية العام 2014 شكل مشروع قرار سيعرض على مجلس الأمن، وتم سحبه بعد الاعتراض العربي عليه كونه تضمن نقاطًا عدة مرفوضة، أهمها تأييد يهودية إسرائيل، ثم تحول إلى مؤتمر دولي دعت إليه فرنسا، وإذا فشل تعهدت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ثم جرى سحب التعهد بالاعتراف بالدولة، وتغير المؤتمر من مؤتمر دولي إلى مؤتمر باريس. ولعل تأجيل زيارة عباس لباريس لها علاقات بكسب الوقت لإقناع نتنياهو بالقمة الثلاثية التي دعا إليها الرئيس الفرنسي بعد المؤتمر مباشرة، ورفض نتنياهو المشاركة فيها إلا إذا كانت بدلًا منه، والآن بعد أن سحبت فكرة عرض مشروع قرار جديد على مجلس الأمن سيدرس نتنياهو إمكانية تلبية الدعوة الفرنسية أو سيقبل تلبية الدعوة الروسية، وفي كل الأحوال فإن تصرف القيادة الفلسطينية وكأنّها مثل الغريق المتعلق بقشة يجعلها تسعى دائمًا لاستئناف المفاوضات أو التمهيد لاستئنافها، على أساس أنه لا خيار إلا خيار المفاوضات. وإذا عقدت القمة الثلاثية نكون قد شارفنا أو بدأنا لاستئناف المفاوضات الثنائية من دون التسلّح بعناصر القوة والمرجعية الدولية التي توفّر الحقوق الوطنية الفلسطينية، وبالتالي نكون قد ذهبنا إلى المفاوضات عراة ما يجعل مصيرها أسوأ ما سابقاتها، خصوصًا بعد تولي ترامب الرئاسة. نحن بحاجة إلى مسار آخر مختلف كليًا طالما دعونا إليه، وتُبرِز التطورات الأخيرة والمحتملة أننا بتنا أحوج إليه الآن أكثر من أي وقت سابق.