من يقرأ تاريخ الشعب الفلسطيني خلال قرن من الزمن يجد مُشتركات كثيرة لا حصر لها بين كل ثوراته وانتفاضاته الشعبية والمُسلحة في مواجهة الاستعمار والاحتلال أهمها أنها تأتي ثورة شعبية شاملة وتستمر طويلاً وتشارك فيها كل الطبقات والشرائح، ويفجرها الشباب وتدفع الطبقات الشعبية فيها كل ما تملك، ولكن للأسف هناك مشترك آخر: تقودها دائماً قوى الإقطاع والبرجوازية " الوطنية " التقليدية التي تتعب في منتصف الطريق ودائماً تعقد صفقة مع الاستعمار وأنظمة الوصاية والاحتلال من أجل الحفاظ على موقعها وامتيازاتها.
ولذلك يجد شعبنا نفسه بعد كل ثورة وانتفاضة محاصراً، ويقف على أرض أقل وقد ضاقت به السبل، ولم يحدث وأن استطاعت الطبقات الشعبية الفلسطينية الإمساك على القرار السياسي الفلسطيني، وعلى المؤسسة الفلسطينية الرّسمية إلا فيما ندر ربما ( نهاية 1967 وبداية 1974 ) في تلك الفترة قدّم الشعب الفلسطيني أجمل ما لديه في الأدب والفكر السياسي والثقافة واجترع أدوات جديدة في العمل الكفاحي وفي بناء المؤسسات الشعبية والنقابية، وحقق العديد من الانجازات الهامة لكن للأسف لا يلبث وأن يفقدها سريعاً، إذ تتعرض الطبقات الشعبية (الأكثرية) إلى التهميش على يد ( الأقلية ) ويجري نهب انجازاتها والسطو عليها .
إن التناقض الداخلي في الساحة الفلسطينية جوهره طبقي (اقتصادي، سياسي، اجتماعي) صراع طبيعي بين من لا يملك ويدفع كل شئ في سبيل التحرر واسترداد الحقوق، وبين من يملك ويريد كل القرار وإدارة كل شيء وفق مصالحه وبرنامجه.
هذا الصراع الداخلي الفلسطيني تحّول بعد العام 1948 في الشتات إلى تناقض وصراع سياسي بين الخيمة و بين القصر، بين اللاجئين وبين البرجوازية الكبيرة، بين حق العودة وبين مشروع الدولة، بين الثورة وبين المؤسسة، بينما واجهت جماهير شعبنا مخططات كثيرة في الداخل كانت البرجوازية أحد أدواتها الرجعية من مشاريع الأسرلة إلى مشروع روابط القرى، ومشاريع الاستيعاب والحكم الإداري الذاتي وغيرها.
وفي إطار الصراع الأكبر العنيف مع العدو المركزي (الامبريالية والصهيونية وحلفائهم من قوى الرجعية) كان يجري باستمرار هضم المزيد من حقوق الشعب الفلسطيني لصالح برنامج البرجوازية الفلسطينية الكبيرة المدعومة من النظام العربي الرسمي بالاستناد إلى موقف أننا "نخوض مرحلة تحرر وطني"، وعليه فمن الطبيعي أن "نكون في جبهة وطنية واحدة " وهذه الشعارات صحيحة إذا جرت ترجمتها في إطارها التاريخي وفي ظرفها المناسب والصحيح، وإذا كانت الطبقات الشعبية - الأكثرية المتضررة - هي التي تقود، أو لها وزن مؤثر في القيادة، وهو ما يجب أن نعمل عليه.
اليوم، بعد نصف قرن من انطلاقة " الثورة المعاصرة" تغيرت الأحوال وتبدلت وانقلبت ولم يعد بمقدور أحد إسقاط الشعارات القديمة على واقع سياسي جديد.
إذا طلبت من اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والمنافي وطلبت من الفقراء في الوطن أن " يستوعبوا ويقدروا صعوبة الظروف التي تمر بها القضية " فإنهم على الأرجح يسخروا من هذا المنطق لأنهم يعرفوا أنك لا تتحدث عن " ظروف القضية " بقدر ما تتحدث عن أزمة برجوازية فلسطينية مهزومة وفاشلة أصبحت تملك سجون ومعتقلات وتتعاون مع العدو، وعلى عينيك يا تاجر.
إن الدرس الجوهري من تجربة القرن الماضي هو أن يعي اليسار الفلسطيني، دوره التاريخي في الصراع وأن يقدم نفسه بديلاً حقيقياً لبرنامج طبقة الأقلية المستفيدة والفاسدة، وحتى ينهض ويقوم بدوره يجب أن يلتحم مع الطبقات الشعبية المفقرة أولاً ويخدمها ويحمي حقوقها ويكون حزبها وصوتها وسلاحها، والأهم أن لا ينصب نفسه بديلاً عنها.