Menu

المكانة المركزية للاستيطان في الصهيونية

تعـــــبــــيــرية

أحمد م. جابر

ثلاثة أحداث بارزة صدرت عن المجال السياسي والتشريعي الصهيوني، حظيت باهتمام نسبي وكل على حدة في الأسابيع الأخيرة، وهي مرتبطة معا وتأتي في سياق موحد، الأول إعلان الفائز بجائزة اسرائيل والثاني إقرار قانون التسوية المشرعن للاستيطان. والثالث هو (قانون كمينتس).

حيث أعلن رئيس كتلة "البيت اليهودي" والوزير الصهيوني نفتالي بينت، مساء الخميس 16 مارس الفائت عن منح "جائزة إسرائيل" إلى دافيد بئيري، مدير عام جمعية "إلعاد" الاستيطانية، الناشطة من  أجل تهويد القدس المحتلة.إنه أمر ذو دلالة أن تكون الجائزة لرمز أساسي من رموز الاستيطان وأن يتم الإعلان عنها من قبل وزير استيطاني أيضا ولكنه فوق هذا وزير التربية والتعليم.

لا يخلو الأمر من رسالة مهمة أرادت دولة الاحتلال إرسالها للمعنيين في الداخل والخارج، أعداؤها وأصدقاؤها على حد سواء، تبرز هذه الرسالة في تبرير لجنة الجائرة  قرارها بمنحها إلى بئيري "بسبب عطائه للدولة، بإقامة مشروعه الفردي الذي تحول إلى مشروع وطني، وهو مدينة داود. وتُمنح الجائز له بمناسبة مرور خمسين عاما على توحيد المدينة (احتلال القدس). وهو بادر وأقام وقاد ويقود هذه النشاط المبارك الذي حوّل مدينة داود إلى موقع تراثي وتربوي وسياحي وطني ودولي من الدرجة الأولى".

وزعمت اللجنة أن "مدينة داود هي النواة التاريخية التي نمت منها القدس، قلب الشعب اليهودي".

الرسالة إذا مرتبطة جوهريا –كما الجائزة- بوظيفة الجمعية الاستيطانية اليمينية المتطرفة التي تأسست عام أسست  عام 1986، و يترأسها المستوطن "دافيد بئيري".

في سياق مواز  وفي وقت سابق صادق الكنيست مساء الاثنين السادس من مارس بالقراءتين الثانية والثالثة على (قانون التسوية) الذي  على  يجيز سرقة الأراضي الفلسطينية الخاصة لصالح المستوطنين، ويشرع بأثر رجعي بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية عام 67 بما فيها القدس.

أما (قانون كمينتس ) الذي تم إقراره منذ يومين والذي جاء تعديلا على قانون البناء والتخطيط لسنة 1965، فهو وإن لم يكن نص على استهداف المواطنين العرب داخل أراضي 1948، فإنه يهددهم مباشرة بسبب طبيعة وظروف البناء في البلدات العربية ويهدد القانون بهدم 50 ألف مسكن عربي.

 

هذا النص يسعى لإلقاء مزيد من الضوء على الاستيطان كظاهرة جوهر-صهيونية، وكأسلوب حياة وبقاء بالنسبة للكيان الصهيوني، بني على أساسها ولا يمكنه الاستمرار بدونها.

 

في المستوى السياسي (الجيوبولتيكي) يندرج الاستيطان الصهيوني ضمن ثلاثة أهداف طالما كانت مركزية في الاستراتيجيات الصهيونية لجميع الأحزاب والحكومات أهداف مرتبطة جوهريا بالغاية العليا، الاستيلاء على الأرض والطرد النهائي للفلسطينيين وهذه الأهداف : تبدأ بخلخلة الديمغرافية الفلسطينية، وتفكيك عراها وعزلها وصولا إلى تذويبها أو تسهيل ترحيلها والتخلص منها،  ومزاحمة الوجود الفلسطيني وخنقه وحصاره ومنعه من أن يكون متواصلاً متكاملاً، لقطع الطريق على أي حلم سياسي يرتبط بالتواصل والتكامل السكاني والجغرافي، مروراً بتحصين الحدود عبر مستوطنات دفاعية دائمة مستمرة النمو والازدياد، انتهاءً بأن الاستيطان يلعب دوراً أساسيا في السيطرة على المناطق المحتلة حيث لا يستطيع الوجود العسكري وحده ضمان هذه السيطرة وأيضاً الإلحاق والهيمنة الاقتصادية والتداخل الديمغرافي.

وإذا كان (شعب) المستوطنين يدرك الدور السياسي المنوط به، فإنه أيضاً يملك برنامجه الخاص، وإن كان هذا البرنامج يقع أساساً في جوهر جدول الأعمال القومي الصهيوني، يرتكز على عقيدة أيديولوجية لا تؤمن بالتقسيم وترفض تسليم (أرض الميعاد) لـ (الأغيار)، وتعتبر أي تنازل عن الجغرافيا لمصلحة الفلسطينيين خيانة للتوراة وأنبيائها، وإذا كان المستوطنون يصلون إلى المستوطنات لأسباب مختلفة اقتصادية أو سياسية أو أيديولوجية، فإنهم سرعان ما يذوبون في (بوتقة صهر) تحولهم إلى كيان موحد يخضع لجدول الأعمال السالف الذكر.

ولعل أبرز ممثلي الاستيطان منظمة (غوش أيمونيم) الصهيونية والتي تراجع نفوذها حاليا لمصلحة منظمات أخرى، و التي تأسست عام 1967 وأثناء الاجتماع الافتتاحي للحركة على جبل هرتسل في القدس والذي ضم حينها خريجي مدرسة (مركاز هاراف)، وزع الحاخام تسفي يهودا كوك منشوراً يفصل فيه أيديولوجيته وجاء فيه: «إن إعطاء أرض إسرائيل، أرض الآباء والأجداد، للكفار، لهو جريمة وضعف إيمان، وإن توراتنا لا تسمح بإعطاء أرضنا للكفار، وعلى كل وزير في الحكومة وعلى كل عسكري إسرائيلي أن يوقف هذا وأن السماء سوف تكون في عونه». ومن المؤكد أن هذه الحركة قد حددت الخريطة الاستيطانية حتى عام 1980 على الأقل وأن هذا المنشور كان القانون الناظم للعلاقة بين الحكومة وحركة الاستيطان. وقد كتب موشيه ليفنغر، حاخام الحركة المذكورة في مستوطنة كريات أربع في الخليل عام 1980: «إن الحكومة لا تفرط في أرض إسرائيل فحسب وإنما تتساهل مع السكان العرب. لذا فإن على المستوطنين أن يفهموا العرب بأنه من الآن وصاعداً ممنوع عليهم أن يرفعوا رؤوسهم».

وإذا كان الاستيطان جوهر الصهيونية، فثمة أدلة كافية على وجود علاقة تبادلية بين الإرهاب والاستيطان، فالانحدار إلى الفاشية ونمو الفكر اليميني شجع على اتساع وتنشيط الاستيطان ونجاح الأخير ساعد على توفير عوامل سيكولوجية (ظهور إرهاب يهودي متنام في صفوف المستوطنين». يصبح اللجوء إلى العنف طبيعياً، كونه يتأسس كعامل عضوي في بنية النظام الفاشي الصهيوني ورغم أن الاستيطان جزء من بنية إلا أنه يتمظهر منفلتاً من كل عقال متماثلا مع العنف كما تحدده  حنة أرندت «العنف مهما كانت درجة الرقابة التي يخضع لها فإنه يتمتع بدرجة معينة من الانفلات عن رقابة وسيطرة من يمارسونه، والواقع أن رقابة كلية مستحيلة»، حتى أنه كان يفاجئ هؤلاء الذين يخططون له ويديرونه ويمارسونه، مما يدفعهم لمحاولة يائسة لضبطه عبر أطر قانونية غاية في الإحكام لكنها خاوية مضموناً وتفتقر كلياً إلى ضمير العدالة، فتحول تحقيقاتها ومحاكماتها – إن جرت – إلى مهزلة، وقد انتهت هذه المحاكمات كلها للقتلة ومرتكبي المجازر من مستوطنين وجنود وضباط إلى استخلاص يكاد يكون واحداً، في جميع الحالات، يكون المجرم المفترض مجنوناً أو يعاني من اضطراب نفسي، ما لم توضحه استخلاصات المحاكم هو لماذا لا ينصب جنون هؤلاء ولا تنفجر نوباتهم الهستيرية إلا ضد المواطنين الفلسطينيين، والسؤال بسيط بساطة وبداهة الصهيونية لأن قتل الفلسطيني هو جزء من الأيديولوجية التي تحكم مواطني الدولة الصهيونية بما فيهم المجانين الذين يدركون أن (العربي الجيد هو العربي الميت) واظلرض الأفضل التي لا يكون فيها عرب، لأن المطلوب أرض أكثر وعرب أقل كما كثف باحث فلسطيني. وقد نقلت صحيفة دافار يوم 19/3/1983 عن إبراهام أحيطوب – رئيس الموساد الأسبق «إن الخلفية التي يستند إليها الإرهابيون اليهود هي الأيديولوجيا (الوطنية) التي تقول أنه يجب تطهير البلاد من سكانها الغرباء».

وبما أن الاستيطان إيديولوجيا (وطنية) فإن هذا يحيلنا إلى جوهر قيام دولة إسرائيل التي ليست سوى تجمع هائل من المستوطنات، تبدأ بـ (وثيقة استقلال) إسرائيل بإطلاق اسم (أرض إسرائيل) على فلسطين، مؤكدة ارتباط اليهود بها ونافية بشكل مباشر حقوق العرب الفلسطينيين التاريخية والواقعية، وما جاء في وثيقة الاستقلال تحول إلى هوس بالتهويد، هوس السيطرة على مكان وعدم تحمل ترك بقعة دون فرض السيادة اليهودية عليها بشتى الأساليب والوسائل والتهويد.

ولا شك أن موضوع الاستيطان يقع في جوهر جدول الأعمال القومي الصهيوني ورغم ذلك من العسير فهم الاستيطان الصهيوني بشكل عميق دون العودة إلى مفاهيم يهودية مركزية وإدراكها على صعيد تأويلاتها المختلفة في الفكر الصهيوني مثل مفهومي الزمان والمكان، وأهميتها في النسق الديني اليهودي، من جهة أخرى فإن النشاط الاستيطاني ودعمه وحمايته وقوننته وتشريعه يعكس الخطاب الإقصائي الإثني، القائم في صلب الأيديولوجيا الصهيونية، بحيث تتحول الصهيونية إلى معيار أولي بديهي، يصبح الإلغاء والمحو صفة ملازمة لعقل الاستيطان، وتجميد الفلسطينيين في عزلتهم خلف الأسلاك أو الجدران والطرق الالتفافية كمجرد سكان شاغلي مكان، لا يحوزون أو يملكون حق حيازة المكان.

وظاهرة الاستيطان الصهيونية هي ظاهرة فوق سياسية، وإن اندرجت في السياسة، فلا عجب أنها قادرة على الاستمرار والتصاعد في ظل كل الحكومات وبدعم كل الأحزاب، فما دامت هذه الأحزاب صهيونية فالاستيطان كما ذكرنا يقع في قلب جدول أعمالها، بغض النظر عن لغة الاستنكار والتلون الحربائي التكتيكي الذي تلجأ إليه هذه الأحزاب لخداع المصوتين اليساريين العرب أو الرأي العام العالمي لتسويق صورة إسرائيل البريئة المحبة للسلام!!

قانون التسوية كما قانن كمينتس  المقران  أخيرا من الكنيست الصهيوني يوضحان ويثبتان مرة أخرى كيف كان الاستيطان طوال الوقت  أداة قاتلة في يد الصهيونية، قطع وتحطيم الأداة لن يكون كافياً، وقطع اليد لن يكون كافياً، بل المطلوب دحض الصهيونية وتعريتها على طريق تدميرها النهائي ماديا وفكريا، باعتبارها ليست فقط صانعة مأساة الفلسطينيين واليهود أيضاً، بل عار على تاريخ البشرية أيضاً ودائماً.