من المبكر جدًا طرح مبادرة أميركية خلال زيارة الرئيس دونالد ترامب وترتيب لقاء قمة ثلاثية. فالهدف من الزيارة ينصب على ترميم العلاقات الأميركية الإسرائيلية التي شابها بعض التوتر في عهد باراك أوباما، وعلى تنفيذ خطوات بناء الثقة بين الجانبين لخلق أجواء بينهما تسمح باستئناف المفاوضات، وهذا ما صرح به مسؤولون أميركيون.
تخفيض سقف التوقعات لا يعني أن لا مياه تجري في النهر، بل تتدفق مياه كثيرة في هذه الفترة، فهناك ثلاثة مسارات يُخطط لها أن تسير بشكل متوازٍ: مسار أمني له الأولوية، ومسار اقتصادي يمثل الرشوة للفلسطينيين، ومسار سياسي يستكشف خطواته بحذر شديد حتى لا تنهار سريعًا، وتروج إدارة ترامب بأن المفاوضات التي تحضر المسرح لها لن تكون مثل سابقاتها.
هناك تسريبات تفيد بأن المفاوضات ستكون تقريبية على غرار ما شهدته في الأردن منذ سنوات عدة، ومن المقرر أن تستغرق هذه العملية وفقًا لأحد المصادر من 6-9 أشهر، أو من 12-16 شهرًا وفقًا لمصدر آخر.
مصادر مطلعة أفادت بأن الجانب الفلسطيني قدم عرضًا يتضمن البدء من النقطة التي انتهت إليها المفاوضات السابقة، واستعد لقبول تبادل للأراضي بنسبة تصل إلى 6.5%، وتضمن العرض الفلسطيني على ذمة الراوي، أن تكون القدس مفتوحة وعاصمة لدولتين، وأن تحل قضية اللاجئين وفق معايير كلينتون. كما طرح الفلسطينيون أن ترابط قوات دولية على الحدود والأغوار وأية مناطق يتم الاتفاق عليها، ويمكن أن تكون هذه القوات بقيادة أميركية، أو تكون أميركية، لكي تشعر إسرائيل بالاطمئنان.
وأبدى الجانب الفلسطيني مرونة خطرة من خلال إبداء استعداده لتخليه عن شروطه السابقة لاستئناف المفاوضات، مثل تجميد الاستيطان، وإطلاق الدفعة الرابعة لأسرى ما قبل اتفاق أوسلو، وتحديد مرجعية للمفاوضات، وسقف زمني للتفاوض، ولتطبيق ما يتفق عليه. كما طالب الرئيس محمود عباس مرارًا وتكرارًا وعلنًا بعقد قمة ثلاثية أميركية (وقبلها روسية أو فرنسية) إسرائيلية فلسطينية.
أما الموقف الإسرائيلي فهو متعنت جدًا، وطرح مساءل جديدة، مثل: رواتب عائلات الشهداء والأسرى والجرحى (لحرف الأنظار عن الاستعمار الاستيطاني)، والتحريض الإعلامي الفلسطيني، وفي مناهج التعليم، وتشديد الإجراءات الإسرائيلية ضد الإرهاب، وإجراء المفاوضات من دون شروط فلسطينية، أي وفق الشروط الإسرائيلية التي جوهرها استمرار خلق الحقائق الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية على الأرض تحت غطاء المفاوضات التي تجعل أكثر وأكثر الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن عمليًا، إضافة إلى مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، وبسيطرتها الأمنية على المنطقة من النهر إلى البحر، وعدم عودة لاجئ واحد إلى دياره التي هجر منها وفقًا لحق العودة، واستمرار القدس الموحدة باعتبارها عاصمة لإسرائيل، وعدم تجميد الاستيطان، والموافقة في أحسن الأحوال على دولة فلسطينية "ناقصة" كما وصفها نتنياهو ومنزوعة السلاح على حوالي نصف مساحة الضفة.
أما الموقف الأميركي فيتقاطع في معظم النقاط مع الموقف الإسرائيلي، باستثناء مطالبته بانسحاب أكبر للقوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة العام 67، وبإبطاء ولجم الاستيطان قليلًا. وعلى ذمة الراوي أبلغ ترامب عباس بأنه لا عودة إلى حدود 67، مستخدمًا الموافقة الفلسطينية على مبدأ تبادل الأراضي كحجة قوية. وأكد أن إدارته لن تدين الاستيطان مثل سابقاتها، كما لم يعلن ترامب تبنيه للدولة الفلسطينية، وهذا الموقف يترك يده طليقة ويتساوق مع الموقف الإسرائيلي الذي لا يريد إقامة دولة فلسطينية بل حكم ذاتي وبانتوستانات يمكن أن تسمى "دولة"، بينما قال مستشاره للأمن القومي إن ترامب يمكن أن يعلن أثناء زيارته إلى بيت لحم اعترافه بحق تقرير المصير للفلسطينيين، وهذا تراجع كبير عن الموقف الأميركي الذي اعتمد أثناء حكم الرئيسين السابقين بوش الابن وأوباما اللذين اعترفا بضرورة قيام دولة فلسطينية.
إن ضم ترامب "حماس" للحركات الإرهابية أثناء وجوده في السعودية لا يطمئن، وخاصة بعد أن طرح ومساعديه مسألة وقف دفع رواتب عائلات الشهداء والأسرى والجرحى بعد موافقة الوفد الفلسطيني على بحث هذا الأمر عبر لجنة أميركية فلسطينية، وتسربت معلومات عن استعداد فلسطيني لتحويل مرجعية الأسرى إلى منظمة أهلية بدلًا من مرجعية المنظمة بعد أن تحولت إليها في العام 2014 بعد أن كانت وزارة من وزارات الحكومة، وهذا يجعلها مستهدفة بشكل أكبر، وهناك احتمال بالتوصل إلى "حل وسط" بعدم صرف رواتب للذين "أياديهم ملطخة بالدماء اليهودية" وهذا لعب بالنار لأنه لعب بالمقدسات.
من المهم في هذا المقال التحذير من المساس بمكانة الشهداء والأسرى والجرحى أبطال الحرية، لأن أي مساس بهم يعني إقدام القيادة الفلسطينية على انتحار سياسي. فإذا كانت السلطة منذ أيام الزعيم الراحل ياسر عرفات تدفع رواتب لعائلات العملاء حتى لا يدفعوا ثمن جريمة آبائهم فكيف تسمح لإسرائيل بإثارة هذا الموضوع وهي تقيم نصبًا تذكاريا لباروخ غولدشتاين مرتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1994، وتعامل إيغال عامير الذي اغتال إسحاق رابين مثل من يقيم ي فندق خمس نجوم، لدرجة أنه تزوج مرتين أثناء سجنه.
ما سبق يوضح أن الهوة سحيقة بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي، وأن ترامب على الأغلب لن يحقق حلمه بالتوصل إلى الصفقة التاريخية التي يبشر بها باستمرار، ويدرك عباس أن تمريره لأي صفقة لا تتضمن الحقوق الوطنية بحدها الأدنى يعني أنه لن يعود يمثل الشعب الفلسطيني المرابط والصامد والمناضل منذ أكثر من مائة عام، والمستعد لمواصلة نضاله كما تدل مقاومته المستمرة رغم كل شيء، وكما تظهر حاليًا في إضراب أبطال الحرية والكرامة الأسطوري الجماعي الذي يدخل يومه السابع والثلاثين، مع تحرك شعبي مستمر بكل الأشكال المتاحة، فمعركة الأسرى معركة الشعب الفلسطيني بأسره، وليس أمامها سوى أن تنتصر أو تنتصر لتفتح صفحة جديدة في سفر النضال الفلسطيني.
حجة القيادة الفلسطينية في سياستها الراهنة المرتهنة لإدارة ترامب والواهمة بقدرته على التوصل إلى حل تاريخي، أو أنها تحاول أن تنقذ رأسها وتضمن بقائها؛ أنها بمرونتها المفرطة ترمي الكرة في ملعب الحكومة الإسرائيلية بتحميلها المسؤولية عن إفشال ترامب بحكم تطرفها وعدم استعدادها لتقديم أي شيء يساعده على النجاح، وهي تتذرع بأنها لا تستطيع أن تقف في مواجهة العاصفة العاتية، ولا أن تتخلف عن ركب قطار التحرك الأميركي الذي يتسابق العرب للالتحاق به، كما يدل السخاء الحاتمي في الصفقات الهائلة التي يدفع فيها العرب مسبقًا وبمبالغ ضخمة دون أن يقبضوا شيئًا ولرئيس أميركي مهدد بالعزل، وكل يوم يرتكب خطأ أو تلاحقه فضيحة.
على أبو مازن أن يعيد النظر في حساباته لأن الخلافات الأميركية الإسرائيلية أصغر من أن يتم الرهان عليها، ومن الخطأ أن يبني سياسته على هذا الرهان الخاسر، فإذا لم تتجاوب إسرائيل مع ترامب سيترك الملف مثل سابقيه، أو سيتحول للضغط أساسًا على الطرف الضعيف والمستعد لتلقي الضغط والتنازل، وهو الفلسطينيون والعرب، وسيستفيد من اللهاث العربي لطلب حمايته ومساعدته ضد ما يسمى الخطر الإيراني.
إن الموقف الفلسطيني الذي يغطي على تهميش القضية الفلسطينية من خلال لعب دور شاهد الزُّور في القمة الأميركية الإسلامية التي ركزت على الإرهاب والخطر الإيراني وتجاهلت القضية الفلسطينية والإرهاب الإسرائيلي، لن ينقذ رأس القيادة الفلسطينية طويلًا، فمطلوب منها أكثر بكثير مما تقدمه على خطورته.
إن إقامة الناتو العربي الأميركي الإسرائيلي ليس سهلًا كما يصور نتنياهو، ويحتاج إلى وقت، وهو بحاجة إلى غطاء فلسطيني، لذا يمكن ويجب وضع العصي في دواليبه، وليس شق الطريق أمامه، كما أن إيران وحلفاءها وحزب الله لهم أطماعهم ومصالحهم ولكنهم ليسوا أعداء العرب والمسلمين، وهم ليسوا لقمة سائغة يمكن مضغها بسهولة، وإدارة ترامب لن تحارب بدلًا من العرب، بل أخذت مالهم وستسلحهم وتزودهم بالخبراء وستجعلهم يقلعون شوكهم بأيديهم، خصوصًا بعد أن أخذت من العرب كل ما تريده مسبقًا وقبل أن تدفع لهم شيئًا.