Menu

المصالحة الفلسطينية: كثييير حِلو... ولكن... ماذا بعد!؟

نصّار إبراهيم

المصالحة من حيث المبدأ تحمل شحنة إيجابية، وتلك الإيجابية تعود إلى مفهوم المصالحة بالمعنى الاجتماعي، غير أن هذه الشحنة الإيجابية تتحول إلى حقل مربك ما أن تتعدى هذا البعد إلى السياسة والعلاقة بين القوى السياسية، وفي الحالة الفلسطينية تصبح المسألة أكثر تعقيدا بصورة هائلة، ذلك أن الحالة الفلسطينية بأبعادها وتعقيداتها المختلفة، تتخطى مفهوم المصالحة الضيق والمحدود، فالتحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني والمخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية والحقوق الوطنية الفلسطينية تفرض مقاربة أكثر عمقا من مفهوم المصالحة.. إنها تتعدى هذا المستوى لتجيب على أسئلة محورية:

ما هي الأسباب التي أدت إلى الاقتتال الفلسطيني - الفلسطيني وما ترتب عليه من نتائج خطيرة على كل المستويات السياسية والاجتماعية والمعنوية والأخلاقية؟

هل الشعب الفلسطيني بحاجة إلى مصالحة أم إلى إعادة بناء مفهوم الوحدة الوطنية كمفهوم سياسي، اجتماعي، ثقافي وسلوكي بكل ما تستدعيه هذه العملية من شروط تعيد إطلاق دينامية الوحدة والمقاومة إنطلاقا من البديهة الذهبية التناقض والاختلاف في إطار الوحدة الوطنية؟ 

وهل المصالحة بين الأخوة في حركتي فتح وحماس يأتي تحت ضغط الأزمة التي يواجهها كل طرف، أم أنه يأتي لإعادة تقييم استراتيجيات العمل وتحديد الخيارات الوطنية في ضوء التحولات والصراعات الجارية في الإقليم، وفي ضوء المأزق الذي وصلت إليه المفاوضات بين الطرف الفلسطيني والإسرائيلي؟ وبكلمات أخرى، هل عملية المصالحة هي محاولة للهروب من الأزمة أم تعبير عن رؤية وخيار تقطع إستراتيجيا مع السياسات الخاطئة والبائسة التي أوصلت إلى لحظة الاقتتال؟

يقول تشارلز ديكينز بما معناه: أشد الألم أن تشعر بالخجل في وطنك.

بالضبط ... إن كل فلسطيني في فلسطين وخارجها يشعر بالخجل من الحالة التي وصل إليها الواقع والأداء السياسي الفلسطيني... شعب مشرد ولاجئ... يواجه القتل اليومي.. أرضه تنهب وثرواته وتاريخه وحضارته وتراثه يستباح... ومع ذلك فإن قياداته مشغولة بالصراع على "ناقة السلطة" المحاصرة في معازل بين حاجز وحاجز بين جندي ودبابة.. بين جدار ومستعمرة... بين سجن وزنزانة... بين حرب وحرب... فلم لا يشعر الفلسطيني بالخجل في وطنه المحتل فيما قواه السياسية منقسمة على ذاتها تحت سقف سلطة الاحتلال!!!!؟.

لقد ملّ الفلسطينيون من هذا التراشق والتلاسن المستمر بين حركتي فتح... كما ملّ الفلسطينيون أيضا من عجز قوى اليسار الفلسطيني وإخفاقها في توحيد جهودها لفعل شئ جدي يوازي ما تقوله في خطابها السياسي والاجتماعي. 

وعي وقراءة ومواجهة الأزمة أو المعضلة أو المأزق الفلسطيني العاصف المستمر منذ سنوات هو جوهر مهمة حركة التحرر الوطني الفلسطيني بكامل أطيافها... ذلك لأن الانقسام، وبالرغم من كل ما ترتب عليه من مآسٍ، إلا أنه ليس هو الأصل في الأزمة... فهو في الحقيقة والعمق نتيجة وليس سببا.

أقول إن الانقسام هو نتيجة لأنه محصلة سياقات وإخفاقات وإدارة فاشلة للصراع تذهب كثيرا لما قبل لحظة الانقسام... لهذا، فإن شرط الخروج من دائرة العجز والانحباس الشامل سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ووطنيا... لا تقف حدودها عندخطوات هدفها معالجة النتائج المباشرة للصراع على تقاسم السلطة أي الانقسام... بل تتجلى شروط مغادرة الأزمة البنيوية في عمل فلسطيني سياسي فكري ثقافي نضالي عميق وأصيل يعيد قراءة الواقع والتجربة... يعيد تقييم الخيارات السياسية الفلسطينية وما ترتب عليها من إخفاق سياسي، وقراءة أسباب التراجع الذي ضرب مقاومة الشعب الفسطيني وهبط بقضيته حتى أصبحت مجرد مساومات على التفاصيل الثانوية... أو مجرد صراع على تقاسم سلطة محكومة بسقف اتفاقيات أوسلو التي لم تلب الحد الأدنى جدا من حقوق الشعب الفلسطيني ومع ذلك تجاوزها الاحتلال بعيدا، وهو ما أشار إليه الرئيس محمود عباس في كلمته الأخيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 20 أيلول 2017. 

الحركة الوطنية الفلسطينية بقواها المختلفة ليست بحاجة لمصالحات، إنها وقبل أي شئ بحاجة لإعادة بناء ذاتها بصورة شاملة بما في ذلك بناء استراتيجية العمل الوطني الفلسطيني على مختلف المستويات.

ذلك لأننا أمام حالة وأسئلة فلسطينية تتخطى أبعادها وتعقيداتها المختلفة فكرة "المصالحة"، أسئلة تذهب إلى طبيعة التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني والمخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية والحقوق الوطنية الفلسطينية مما يفرض مقاربة تختلف جذريا عن مفهوم مصالحة. 

إذن.. ليس المهم أن نذهب إلى المصالحة أو لا نذهب، فالأكثر أهمية هو تحديد واضح سياسيا واجتماعيا وتنظيميا واستراتيجيا لماذا نحن ذاهبون إلى "المصالحة"، ومن الأفضل هنا استخدام تعبير إعادة بناء الوحدة الوطنية كتعبير سياسي فكري دقيق، مع تحديد الأسس التي سنعيد بناء تلك الوحدة عليها بما في ذلك استراتيجية العمل الوطني التي تشترط الوقوف أمام عناوين كبرى من نوع: خيار المفاوضات، المقاومة، التحولات الإقليمية والعالمية، مرجعية عملية سلام، إعادة بناء منظمة التحرير، العلاقة الناظمة ما بين م. ت.ف والسلطة، العلاقة بين مهام التحرر الوطني والمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك الكثير من الأسئلة الكبرى والهامة التي بدون تناولها والإجابة عليها بوضوح فلن تعني المصالحة أي شئ حتى لو توجت بقبلات ومصافحات وتبادل التهاني والتبريكات... فمن يضمن لنا أن لا نعود إلى ذات المربع بعد شهر أوشهرين.. مثلا؟!!!

لقد تشكلت عبر التاريخ الكفاحي الطويل للشعب الفلسطيني ثوابت وركائز سياسية وتنظيمية وأطر وأشكال مقاومة واضحة هي أساس البرنامج الوطني.. كما نشأت حقائق وظروف وتحولات اجتماعية واقتصادية وإقليمية وعالمية تستدعي تطوير وتجديد الإستراتيجية الوطنية الفلسطينية وذلك من على قاعدة الاتفاق على الركائز والثوابت الوطنية مع الاحتفاظ بحق الاختلاف الذي تبقى مسألة حسمه رهن بالحياة والنضال الطويل.

لا أدري إلى أي مدى تدرك القيادات والقوى السياسية الفلسطينية فداحة الكارثة التي يعيشها الشعب الفلسطيني...!؟ 

ما أنا متأكد منه أن غالبية الشعب الفلسطيني لم تعد تثق بالقيادات والقوى السياسية الفلسطينية، أو على أقل تقدير توجه نقدا عنيفا لأدوارها وأدائها وبرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنضالية، حتى وإن بدت تلك الأغلبية الشعبية صامتة وصابرة.

ما أنا متأكد منه أن غالبية الشعب الفلسطيني في الوطن واللجوء لا زالت قضيتها وحقوقها شأن مقدس.

ما أنا متأكد منه أن غالبية الشعب الفلسطيني وبقدر ما يعاني من الاختلال في موازين القوى، وبقدر ما يدفع من تضحيات هائلة وما يعانيه من قهر وألم بسبب الاحتلال إلا أنه وبالممارسة يبرهن يوميا أن روح هذا الشعب وإرادته لم ينكسرا.

لا أدري ماذا تريد أي قيادة سياسية فلسطينية من هذا الشعب أكثر من ذلك وأروع!.

خلاصة القول.. ليس الشعب الفلسطيني بحاجة ل"مصالحات وعطوات" .. إنه يريد قوى سياسية تتمتع بعقل استراتيجي علمي... قوى تعيد تقييم الواقع واستراتيجيات العمل وأشكال التنظيم... قوى حيوية وفاعلة بمقدورها أن ترسم وتتفق على استراتيجية وطنية جامعة... وأن تخضع عمل التنظيم السياسي لمصلحة الشعب الفلسطيني... وأن تعيد تجديد وتطوير البنى الوطنية الفلسطينية وخاصة م.ت.ف. بما يلبي استحقاقات هذا الصراع الضاري والطويل، وأن تكون بمستوى المجابهة مع مشروع عدواني يعمل ويتصرف يوميا وفق أعلى درجات الفاعلية والحيوية الإستراتيجية وفي مختلف المجالات. 

لقد أبدع الشعب الفلسطيني حتى في المراحل الصعبة اشكالا رائعة في الصمود والبقاء والمقاومة... بما يضع الاحتلال الإسرائيلي موضوعيا ودائما أمام أسئلة وجودية... كما أنه شعب يزخر بالطاقات والكفاءات الشبابية المدهشة... وفي ذات الوقت يشهد تطورات اجتماعية عميقة بحكم التحولات العاصفة في الأقليم والعالم ... كل يفرض على القوى السياسية الفلسطينية أن تقف لكي تستجيب لهذه التحولات سياسيا وبرنامجيا وتنظيميا وكفاحيا... بهذا فقط تبرر وجودها وجدواها وأهميتها في حياة ومقاومة الشعب الفلسطيني على طريق حريته واستقلاله الوطني الكامل.