Menu

دونالد ترامب وفكره «الجديد»

دونالد ترامب

د. نيفين مسعد

اعتاد دونالد ترامب أن يستخدم ألفاظا خادعة لترويج اندفاعاته السياسية ، فقبل ستة أشهر وعلي هامش القمة الإسلامية -الأمريكية وصف ترامب الأسلحة التي ستبيعها الولايات المتحدة لدولة قطر بأنها جميلة، ولا يدري المرء أي جمال يكمن في قتل المزيد من البشر. وفي خطابه الذي ألقاه قبل يومين وصف قراره الاعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده للقدس بأنه تعبير عن فكر جديد fresh thinking وأنه لا يمكن حل مشكلاتنا باستخدام الافتراضات الفاشلة وتكرار الاستراتيجيات الفاشلة نفسها. ويُفهَم من هذا الكلام أن الفشل في تسوية القضية الفلسطينية كان ينبع من تأجيل تنفيذ قرار الكونجرس الاعتراف بإسرائيل عاصمة للقدس ، وأن وضع هذا القرار موضع التنفيذ هو وحده الكفيل بتحقيق النجاح ، وهذا نوع فاضح من التدليس . وذلك أننا تعلمنا أن تسوية الصراعات ترتبط بتوصل أطرافها لدرجة من التوازن تجعلها تقتنع بأنها لا يمكن أن تحسم مصير تلك الصراعات بإرادتها المنفردة ، وهكذا فإذا كان توازن القوة ببن العرب وإسرائيل مختلا بشكل فادح لصالح الأخيرة قبل قرار ترامب فإن الخلل سوف يتعمق بعده بالتأكيد، لأنه يصادر علي المطلوب ويحسم أمريكياََ وضع مدينة القدس . دع عنك هنا تجنُب ترامب الإشارة لأي «قدس يقصد» فالسياسة الإسرائيليون لا يعرفون إلا القدس الموحدة عاصمة لدولتهم ،  ودع عنك قوله إن القرار لا يعني اتخاذ موقف من حدود السيادة الإسرائيلية في القدس أو من «الحدود المتنازع عليها» فالخطوة الأمريكية الفارقة تحدد سقف التسوية، وهي في ذلك مثلها مثل سلسلة الخطوات السابقة التي اتخذها ترامب خلال عهده القصيرة بدءا من التملص من حل الدولتين وربط الأمر بتوافق الطرفين المعنيين علي هذا الحل وانتهاء بعدم تجديد الترخيص لمكتب منظمة التحرير في واشنطن. عموما فإن خطاب ترامب حافل بالمغالطات كما في استخدامه الخبيث مصطلح الحرم الشريف بالتبادل مع مصطلح جبل الهيكل، وتغنيه بحرية ممارسة الشعائر الدينية في القدس وكأني به لم تأته أخبار اقتحام المسجد الأقصى واستهداف المصلين .

لقد ضرب قرار ترامب في العمق كل قرارات الشرعية الدولية الخاصة بوضع مدينة القدس، فهناك ترسانة جميع من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة تكرس المركز الدولي لمدينة القدس، وترفض جميع الإجراءات الإسرائيلية للتأثير علي الوضع الجغرافي والقانوني والديموغرافي للأراضي العربية المحتلة عموما والقدس خصوصا . من هنا نفهم منطق هذه الضغوط الدولية المكثفة علي ترامب قبيل إصدار قراره المشئوم إلي حد خروج بابا الفاتيكان نفسه لاستباق القرار بإعلان رفضه له، ثم توحُّد موقف المجتمع الدولي في مواجهة القرار بعد صدوره بما في ذلك دول قريبة من الولايات المتحدة مثل كندا وبريطانيا، وذلك أن إهدار الشرعية الدولية يعني عمليا فتح الباب أمام الفوضى المطلقة. هذه النقطة من المهم الإمساك بها عند إدارة المعركة الدبلوماسية علي مستوي مجلس الأمن ثم الجمعية العامة ،وإذا كان من المفهوم أن الولايات المتحدة ستُجهِض أي محاولة لإدانة قرارها في مجلس الأمن فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة تتمتع بحق إصدار قرارات ملزمة استنادا إلي القرار رقم 377 والمسمى أيضا قرار الاتحاد من أجل السلم.

تبقي الإشارة إلي عدة نقاط سريعة في هذا الخصوص، النقطة الأولي أن قرار القدس المشئوم أزاح الستار عن وهم أن مكافحة الإرهاب يمكن إنجازها بمعزل عن حل القضية الفلسطينية، فالسياسات الإسرائيلية المتطرفة عنصر أساسي من عناصر تفريخ الإرهاب الذي هو قرين الظلم. الثانية أن الدور الأمريكي في التسوية قد انتهي عمليا بصعود ترامب للسلطة فإن كان حل الدولتين غير ملزم وإذا كان من حق إسرائيل كما قال ترامب اختيار عاصمتها مثلما تفعل كل دول العالم فعن أي شيء ستدور المفاوضات بالضبط ؟ الثالثة أنه آن الأوان لسحب اليد العربية الممدودة للولايات المتحدة بالاستثمارات ومشتريات السلاح والعلاقات الخاصة حتي نحتفظ لموقفنا من رفض قرار القدس بحد أدني من المصداقية. النقطة الرابعة والأخيرة أن التحالف الدولي الذي كانت ترغب الولايات المتحدة في حشده لمواجهة الإرهاب الإيراني لم يعد له محل من الإعراب ، فلن يلتفت أحد إلي ما تفعله إيران في اليمن فيما القدس في عين العاصفة ، ولن يكون هناك منطق لمطالبة الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل ببحث برنامج إيران الصاروخي أو سلاح حزب الله وحماس طالما الخطر الإسرائيلي يتعمق ويتسع في الشرق الأوسط .

لقد منح ترامب عدوته إيران جائزة كبري بقراره المشئوم وعندما تخرج المظاهرات الإيرانية الحاشدة لتنادي بالموت لأمريكا وإسرائيل وبالدعم كل الدعم لقضية القدس فإن صداها سيتردد في عواصم كثيرة عربية وغير عربية .وهذا هو ما أوصلنا إليه ترامب وفكره «الجديد» بعد أقل من عام من ولايته.