Menu

إصلاح النظام السياسي وبناء المشروع الوطني!..

بقلم / محمد صوان

بقلم / محمد صوان

عندما يقرر الرئيس الأمريكي ترامب إبرام إعلان أحجم عن إبرامه معظم الرؤساء الأمريكيين السابقين.. والمتضمن ( القدس عاصمة لإسرائيل) فإن هذا يعني أن الإدارة الأمريكية الحالية مستعدة للمواجهة حتى النهاية إذا تطلبت الظروف ذلك.. المسألة لم تعد تتعلق بمساع لتراجع أمريكي عن الإعلان - حسب طلب رئيس السلطة الفلسطينية- لأن هذا غير ممكن بالنظر للتشريع الأمريكي بعد توقيع قرار من هذا النوع يحظى بأغلبية موافقة من الكونغرس، كما أن إلغاء توقيع الرئيس الأمريكي الذي يحمل الكثير من المهانة وكسر المهابة أمام الحزبين الكبيرين( الجمهوري والديمقراطي) وأمام المجتمع الدولي أصبح مستحيلاً بعد أن  صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية أعضائها (128) عضواً، ما عدا بعض الدول النشاز الهامشية ضد القرار، وبالتالي فإن التراجع الأمريكي، لن يكون هدية مجانية للمجتمع الدولي.

الانطلاق من هذا الواقع الذي أصبح لا مفر منه هو الأهم في التداول لتجاوز هذه المعضلة.. لكن مشاهدة الخطر يتصاعد جراء الركود الذي اتخذته الأزمة عزز إمكانية الحديث عن ارتياح أمريكي- صهيوني.. ربما يتصاعد في حال لم يساهم الواقع الاقليمي في درء المخاطر الصهيوأمريكية عن الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، فمنذ مطلع هذا القرن والنظام الرسمي العربي في تراجع مستمر، حتى الدولة الوطنية ال قطر ية الواحدة لم تعد قادرة على المحافظة على تماسكها ووجودها، وإنما تتعرض لحروب أهلية وحالات من التفتت الاثني والمذهبي والطائفي هددت كيانها الواهن أصلاً، مما أدى إلى إيجاد خريطة تحالفات جديدة أصبح العديد من الدول العربية بموجبها أكثر تقبلاً لإسرائيل ودخلوا معها في تفاهمات سرية نجم جراءها استعداد للتطبيع العلني، ويأتي هذا على حساب القضية الفلسطينية التي تراجع الاهتمام بها إلى أدني مستوياته العربية والاقليمية.

لا يمكن إعفاء الفلسطينيين من هذا التهميش الذي أصاب قضيتهم، بل إن لهم فيه نصيباً كبيراً، فقيادة ( م. ت. ف) أقحمت نفسها في مفاوضات عقيمة غير متكافئة مع ( اسرائيل) في أوسلو، الذي نجم عنه اتفاق كارثي- إن لم نقل تفريطي- لمصلحة الطرف الأقوى، ونتيجة هذا الاتفاق تم اعتراف قيادة ( م. ت. ف) بـ ( اسرائيل) قبل أن توقف الأخيرة استيطانها، وتنهي احتلالها للأراضي الفلسطينية، وتقاوم الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس. ونشأ عن هذا الاتفاق سلطة فلسطينية هزيلة تحت الاحتلال، وذلك بعد خيار قيادة ( م. ت. ف) بأن تحشر نفسها بنفسها بقيود اتفاق أوسلو وملحقاته ( الأمنية والاقتصادية والسياسية) مهمشة دورها ومكانتها لتصبح مجرد هيكل لمؤسسة خاوية من المضامين، وتحت غطاء السلطة، بقيت هذه القيادة تراوح مكانها منذ عام 1993 حتى اليوم، وظلت أسيرة لعملية تفاوض عبثية مع العدو الصهيوني لم تنتج الغاية المرجو منها: إنهاء الاحتلال وانتزاع حق تقرير المصير، وعودة اللاجئين.

عمق المأزق الفلسطيني الراهن:

يكمن المأزق الفلسطيني في تخلي قيادة( م. ت. ف) المبكر عن برنامج التحرر الوطني والديمقراطي لمصلحة بناء سلطة هزيلة تحت الاحتلال، تستمد شريعتها من استمرار المفاوضات الوهمية، بينما تستحوذ غنائمها على جل اهتمام الشريحة البيروقراطية المتنفذة  داخل الأراضي المحتلة، التي أهملت فلسطينيو الخارج من الاعتبار الوطني والسياسي، وقلصت مساحة الصراع مع الاحتلال لمصلحة اتساع رقعة الصراع على المصالح الطبقية المتنامية مع وجود السلطة المكبلة بقيود أوسلو وملحقاته.. وترافق غياب برنامج التحرر الوطني مع استمرار الشعارات الجوفاء، وتراجع النضال الحقيقي الممنهج والفاعل ضد الاحتلال وقطعان المستوطنين، وذاب تأثير فصائل العمل الوطني ، فذوت وذوى معها الفعل الكفاحي والسياسي لمصلحة نمو المصالح الذاتية الضيقة للأفراد والشلل، التي تسترت بغطاء السلطة، وتناحرت على منافعها، كما تصاعدت مظاهر المحاصصة والمحسوبية والاستزلام، وتغلل الفساد في المؤسسة الادارية والقضائية والأمنية.. لقد أصبح المجتمع زبائنياً وفقد الكثير من منظومة القيم الايجابية الضرورية للتصدي الجمعي للاحتلال، وكانت النتيجة الحتمية ان اصاب الوهن الأهداف الوطنية والقومية والديمقراطية، التي تراكم وطغى عليها طبقات من المصالح الفئوية والغايات العشائرية والفصائلية.

يعاني المشهد الفلسطيني حالياً مأزقاً عميقاً من التصدع والانفلاش، وللخروج من هذا المأزق يتوجب بدايةً مواجهة الذات والاعتراف بمناحي الخلل الذي اصاب البنية التنظيمية الداخلية، واتخاذ ما يلزم من التدابير والاجراءات الاصلاحية الضرورية لبناء حالة فلسطينية جديدة، ونظام سياسي وكفاحي جديد.. ان ادراك ضرورة الاصلاح واستعادة الوحدة يشكلان الممر الاجباري نحو مواجهة فاعلة مع الاحتلال.. لا غنى عنها، ولا امكان للقفز فوقها.

على قيادة ( م. ت. ف) الاعتراف بان المفاوضات بشكلها ومضمونها الحالي لم ولن تقنع العدو الاسرائيلي بإنهاء احتلاله واقامة الدولة الفلسطينية السيادية بعاصمتها القدس وفق المعايير الوطنية والقومية الفلسطينية العادلة، وعلى قيادة ( م. ت. ف) الاقتناع بان الجمع بين المفاوضات والمقاومة بكل اشكالها هي من يرغم الاحتلال على التسليم بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.. بل ربما يكون من الافضل الاستنتاج ان امكان " حل الدولتين " لم يعد قائماً فعلياً.. لكن هذا لا يعني الانتقال السهل نحو الدعوة " لحل الدولة الديمقراطية الواحدة".. في واقع الامر، ليس في متناول الشعب الفلسطيني في المستقبل المتوسط والمنظور لا" حل الدولتين" ولا حل دولة ديمقراطية واحدة، وهذا لا يعني على الاطلاق رفع راية الاستسلام للعدو الصهيوني، وانما يتطلب ايجاد المقاربة الضرورية لبناء نظام ومشروع وطني وديمقراطي جديد يتيح للشعب ابقاء الخيارات مفتوحة امامه حتى ان لم تكن متاحة حالياً.

البديل الوطني والديمقراطي:

من المفيد والمجدي ان يتمحور برنامج العمل الوطني الجديد حول هدف مركزي اساسي هجومي الطابع، هو تعزيز الصمود الفلسطيني على ارض الوطن، واستنهاض عوامل القوى لدى الشعب وتمكينه في مختلف اماكن وجوده، واساساً داخل فلسطين، وينطلق هذا الهدف المركزي من القناعة بان الصراع مع ( اسرائيل) سيكون مفتوحاً وطويلاً، وبالتالي سيحتاج الى تضحية وصبر ومثابرة, يحرم العدو عبرها من اهم اهدافه، وهو تفريغ الوطن من اهله الفلسطينيين، انه صراع على البقاء في مواجهة قوى غاشمة، وعلى جميع القوى الوطنية الفاعلة والحية ابتداع واتباع الوسائل الممكنة كلها، ليس فقط لتثبيت، بل ايضاً لتعزيز وتعظيم آفاق دورهم ووجودهم في فلسطين, إنها حقبة تتطلب الخروج من حالة مجرد اطلاق الشعارات الكبرى الى اخرى تتطلب التركيز على مختلف المجالات، كالتنمية والتعليم والصحة والتصنيع والزراعة.. الخ ، اضافة لتحقيق متوالية من انجازات البناء وفق مبدأ التراكمات الصغرى، انها مرحلة تتطلب التركيز على العمل في الميدان، وليس التنظير حوله فحسب!..

فبقاء السلطة على حالها لا يجوز أن يستمر.. لأنها بوضعها الحالي تشكل عائقاً امام عملية. اصلاح النظام السياسي واستنباط مهمات برنامج العمل الوطني التحرري الجديد، على كل حال، يتعين على عملية الاصلاح كي تنجح، ان تستهدف اصلاً السلطة التي عليها ان تتغير لكي تصبح قادرة على تحمل اعباء المرحلة الجديدة، والتي يقع في محورها صلاح المجتمع برمته ليصبح أكثر تماسكاً وقدرة على الصمود ومواجهة ممارسات الاحتلال وعنجهيته  وعنصريته.

ان هذا التغيير المنشود لن يتحقق الا بعد احداث تحول نوعي في عقلية المراتب القيادية الفلسطينية وتوجهها، وهذا امر ليس سهلاً تحقيقه مع استمرار تحنيط الحياة التنظيمية الفصائلية التي لا تسمح بغياب قيادات شاخت وتصلبت الدماء في عروقها- سوى بالوفاة- وظهور قيادات جديدة، فهذا التكلس والترهل في البنية التنظيمية والسياسية هو المسؤول الاول عن نشوب كثير من الظواهر السلبية داخل المجتمع الفلسطيني.

لكي يكون ممكناً اصلاح النظام السياسي واعادة اشتقاق مهمات برنامج العمل الوطني التحرري، وهو الاساس الذي يمكن ان تبنى عليه مقاومة طويلة وفاعلة ضد الاحتلال المديد، فان مجال التغيير في مجرى الحياة السياسية والكفاحية الفلسطينية ينبغي ان يفتح على مصراعيه.. ويتعين ممارسة الديمقراطية، وتكريس التعددية ، والتداول السلمي للسلطة، وتفعيل فصل السلطات بما يمكن من تشجيع النقد والمحاسبة والمساءلة والرقابة.. ولا يمكن لكل هذا ان يستقيم اذا بقي باب تدوير السلطة مغلقاً والانقسام قائما.. ان عنوان التغيير واساس الإصلاح يكمن في اجراء الانتخابات الدورية وبانتظام  ودون ذلك سيبقى المجتمع يعاني التشظي والتشرذم، وستبقى القضية الوطنية تعاني بؤس التراجع!...