Menu

نظام عالمى آيل للسقوط

د. محمد السعيد إدريس

كل الذين تابعوا أعمال الجلستين اللتين عقدهما مجلس الأمن الدولى يومى الجمعة والسبت الماضيين (13 و 14 أبريل 2018) لمناقشة الأزمة المتفجرة حول اتهامات زائفة للجيش السورى باستخدام أسلحة كيمائية فى مدينة دوما بالغوطة الشرقية لدمشق ولمناقشة العدوان الثلاثى الأمريكى ـ البريطانى ـ الفرنسى على سوريا كان فى مقدورهم الاستنتاج بثقة، أن الأزمة الحقيقية ليست فى سوريا بل هى داخل مجلس الأمن نفسه وفى النظام العالمى السائد الذى انقلب على نفسه ولم يعد يحترم القوانين الدولية، ولا القيم والمبادىء والأهداف التى صاغها الآباء المؤسسون للأمم المتحدة فى الميثاق الذى أريد له أن ينظم العلاقات بين الدول الأعضاء على قاعدتى تجريم استخدام القوة فى العلاقات الدولية، وإقامة هذه العلاقات على أساس التعاون بين الدول.

 فى جلسة يوم الجمعة ألقى أنطونيو جوتيريتس الأمين العام للأمم المتحدة بياناً تاريخياً تجرأ فيه بالقول إن العالم يعيش الآن «حربا باردة جديدة» مايعنى إدراك الرجل عمق الأزمة المستفحلة الآن بين القوى الدولية الكبري، أما جلسة يوم السبت التى عقدت بناء على طلب روسى لإدانة العدوان الذى وقع فجر ذلك اليوم على سوريا فكانت بحق، جلسة مأساوية انقسمت فيها مواقف الدول الأعضاء الخمس عشرة، إلى ثلاث مجموعات كانت المجموعة الأولى هى الدول الثلاث التى أرتكبت العدوان: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، هذه الدول رفضت بقوة الدعوة الروسية لإدانة العدوان، وأكدت أنها لم تقم بعدوان، ولكنها كانت تقوم بتنفيذ المضمون الحقيقى لميثاق الأمم المتحدة بعد أن عجز مجلس الأمن، عن إصدار أى قرار من مجلس الأمن يدين استخدام «النظام السوري» للأسلحة الكيمائية وأصرت على مزاعمها بأن الجيش السورى استخدام الأسلحة الكيماوية فى دوما دون أن يقدموا أى دليل مادى يثبت ذلك سوى معلومات استخباراتية وفيديوهات ملفقة جرى نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.

المجموعة الثانية ضمت الدول التى كانت على يقين بأن الولايات المتحدة مع فرنسا وبريطانيا ارتكبوا عدوانا اثما ضد سوريا وانتهكوا عن عمد القانون الدولى ومبادىء ميثاق الأمم المتحدة التى تجرم استخدام القوة فى العلاقات الدولية وتحدد استخدام القوة فى حالتين محددتين الأولى هى فى حالة الدفاع عن النفس، وهذا الحق مقيد بوقوع العدوان المباشر على أى من هذه الدول، وهذا لم يحدث، والثانية بتفويض من مجلس الأمن، وهذا أيضا لم يحدث، وماحدث من الدول الثلاث المرتكبة العدوان هى تجاوز كامل لنص المادتين 41 و 42 اللتين تنظمان قواعد استخدام مجلس الأمن للقوة، وتبارى سفراء روسيا والصين وبوليفيا فى كشف وفضح كيف أن العدوان على سوريا جاء مدبرا ومع سبق الإصرار، ومتجاهلا جهود الأمم المتحدة ومنظمة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية والمفتشين الذين أرسلوا من هذه المنظمة بتكليف من مجلس الأمن للتدقيق والتحرى عن أى استخدام للأسلحة الكيماوية فى دوما، الأمر الذى يؤكد أن الدول المعتدية الثلاث أرادت أن تسبق القرار الذى سيأتى به هؤلاء المفتشون الدوليون،لا لشيء إلا أنها كانت شديدة الحرص على طمس الحقيقة التى كان سيفضحها هؤلاء المفتشون، ولاتريد ظهور أى دليل يمنعها من ارتكاب هذا العدوان، والأسوأ أنها لم تأبه بالمخاطر التى كانت يمكن أن تحدث فى حالة ما إذا كانت المواقع التى قصفتها تحتوى على مخازن لمواد وأسلحة كيماوية، وقد لخص السفير البوليفى هذا المشهد المأساوى فى مداخلته بقوله: «لايجوز أن تقاوم انتهاك القانون الدولى عن طريق انتهاك القانون الدولي» ومن هنا جاء طلب روسيا والصين وبوليفيا بإدانة هذا العدوان.

أما المجموعة الثالثة، فكانت الأكبر عددا وهؤلاء كانوا شهود زور، عرفوا الحقيقة ولم يجرؤ أى منهم على فضحها، اعترفوا بأن مايحدث يُعد خطرا على السلم والأمن الدوليين لكنهم لم يبادروا إلى تصحيحه، واكتفوا بالتستر على مايحدث من انتهاك صارخ لمبادىء الأمم المتحدة وامتنعوا عن التصويت على مشروع قرار إدانة المعتدين.

كان هذا هو المشهد المأساوى كما ظهر عليه مجلس الأمن، ورغم ذلك فإن العدوان فشل فى تحقيق أهدافه القريبة منها والبعيدة، وربما يكون العكس هو الذى يحدث الآن، فالجيش السورى استطاع أن يفرض سيطرته كاملة الآن على الغوطة الشرقية لدمشق، وأفشل العدوان، وأسقط بصواريخ سورية قديمة أكثر من ثلثى الصواريخ «الذكية واللطيفة» التى تباهى بها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، دون الحاجة إلى استخدام المنظومات الحديثة من الصواريخ السورية خاصة من طرازى «اس - 300» و «اس ـ 400» الروسيين.

من المستبعد أن تتحقق بعد العدوان المطالب التى تحدث عنها السفير الفرنسى فى جلسة مجلس الأمن يوم السبت الماضى خاصة ما يتعلق بالعودة إلى مؤتمر جنيف، وإهدار كل ما تحقق من تقدم فى مسارات «أستانة» و«سوتشي» برعاية روسيا وإيران و تركيا ، فالعدوان سيرتب حتما نتائج جديدة ليست فى مصلحة الدول المعتدية، ووكلائها.

فشل العدوان باعتراف كبار الخبراء من جنرالات الكيان الصهيونى الذين أعتبروا انها «أضر بإسرائيل» وتمنوا «ألا يكون قد حدث» والنتيجة كما قال إيهود باراك رئيس وزراء إسرائيل ووزير الدفاع الأسبق إن «الأسد أصبح فى وضع أفضل.. وإن الضربة (العدوان) لن تغير الصورة فى سوريا» أى أن العدوان لم يستطع فرض أمر واقع جديد فى سوريا يخدم مصالح أمريكا ويخدم مصالح الحلفاء والوكلاء، وان الأمر الواقع المفروض على الأرض من جانب روسيا وإيران والجيش السورى وحزب الله هو الذى سيبقى يحكم معادلة متسقبل الأزمة فى سوريا على غير ما كان يأمل المعتدون وحلفاؤهم الذين مولوا العدوان، وربما تكون النتيجة الأهم هى أن الوجود الأمريكى فى سوريا لن يكون أمر بقائه امريكيا بحتا بعد العدوان.

تبقى الأزمة الحقيقية فى النظام العالمى الذى لم يحدث أن ظهر عاجزا أو فاشلا وهزليا كما ظهر السبت الماضى حيث كانت المياه تملأ كل الصامتين عن إدانة العدوان دون أن يدركوا أنهم بهذا الصمت ينتهكون شرعية المنظمة الدولية التى يتشرفون بعضويتها، وأنهم بهذا الصمت كانوا شركاء فى العدوان بقدر كونهم شركاء تدمير النظام العالمى وتهديد الأمن والسلم الدوليين، وأنهم قد يكونون أو من سيدفع أثمان كل هذه الجرئم فى ظل نظام عالمى أضحى آيلا للسقوط مع تساقط كل معايير المحاسبة والمراقبة وإحقاق الحقوق.