لا يبدو أنّ مهمّة الولايات المتحدة في مجابهة إيران ستكون بالسهولة التي تصوَّرتها. فالاتفاق النووي لم يكن اتفاقاً مع نظام يراد احتواؤه فحسب، بل كان بمثابة إعادة صياغة كاملة للعلاقات الدولية على قاعدة جعل النزاع مع هذه الدولة أو تلك جزءاً من آلية جماعية، تشارك فيها أغلب الدول التي لها مصلحة في إنهاء هذا النزاع. على هذا الأساس، حصلت المفاوضات مع إيران، وتمّ إقرار صيغة للاتفاق تفرض على الدول المشاركة فيه عدم الخروج منه أو الإخلال به من دون الاحتكام إلى الإطار الجماعي لإبداء أسباب الخروج أو موجباته. الدول التي وقّعت، بما في ذلك الولايات المتحدة أيام إدارة باراك أوباما، كانت تعرف أنها عبر الاحتكام إلى هذا الإطار إنما تقيِّد جموح البعض لخوض الصراعات بمفرده لمصلحة إدارة أكثر استقراراً، وأكثر تناسباً مع شكل العلاقات الدولية في مرحلة أفول القطبية الواحدة.
بروز الخلاف مع أوروبا
لم يكن ثمّة خيارات أخرى أمام الإدارة السابقة، فروسيا كانت تصعد بقوّة على خلفية حسم النزاع في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا والاستعداد للمواجهة المقبلة في أوكرانيا، ومثلها الصين التي كانت تتحضّر لاستقبال ثالث أقوى زعيم في تاريخها، بينما أوروبا الحليفة تزداد ضعفاً وتتهيَّأ لمواجهة انهيارات اقتصادية واجتماعية في اليونان وإسبانيا والبرتغال. هذا الصعود لقوى والهبوط لأخرى هو الذي قاد الولايات المتحدة إلى القبول بالإطار الجماعي لحلّ النزاع مع إيران، التزاماً منها بمنهج أكثر واقعية في السياسة وفي إدارة الصراعات الدولية. لكن هذا النوع من القيادة يتراجع الآن على يد إدارة دونالد ترامب، لمصلحة أطر أحادية أو ثنائية، وعلى حساب الشراكة مع الحلفاء في أوروبا. ترامب يعتبر أنّ هذا النوع من القيادة هو الذي أضعف الولايات المتحدة، ليس عسكرياً وسياسياً فحسب، وإنما اقتصادياً أيضاً، ولذلك فانّ التراجع عنه هو في مصلحة الولايات المتحدة وليس العكس. خسارة بعض الشراكات التجارية هنا وهناك، واهتزاز ثقة الحلفاء بواشنطن هو بالنسبة إلى الإدارة الحالية ثمن يتعيَّن دفعه لمعاودة إمساك الولايات المتحدة بالقرار الدولي على نحو أفضل. الانسحاب من الاتفاق النووي تزامن مع جملة من التغييرات التي طرأت على شكل انخراط الولايات المتحدة في الجهد الدولي المتعدِّد الأطراف. إذ سبقه تعليقٌ لعضوية أميركا في عددٍ من الاتفاقيات التجارية والبيئية التي يُعَدُّ إطارها المتعدِّد شرطاً لفاعليتها. تعطيل إدارة ترامب لهذه الشراكات لا يقلُّ خطورةً في نظر حلفائها الأوروبيين عن الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ولذلك كان هؤلاء هم الأعلى صوتاً في معارضة الانسحاب من الاتفاق، على اعتبار انه يستكمل مسار هذه الإدارة في تقويض الأطر المتعدِّدة التي تعتبر أوروبا أنها كانت فاعلةً في حلّ المسائل الدولية ذات الطابع المعقَّد.
شكل المعارضة الأوروبية الممكنة لأميركا
الخلاف مع أوروبا حول هذه الملفّات وسواها تزامن مع بروزِ قوى سياسية داخل الاتحاد الأوروبي تطالب بشراكة مع الولايات المتحدة على أساس الندّية لا التبعية أو الولاء. أبرزُ الملفّات التي تعتبر هذه القوى أنها تتعارض مع المصلحة الأوروبية على المدى البعيد، والتي كانت مساهَمة أوروبا فيها متناسبة أكثر مع المصلحة الأميركية هو ملفّ العلاقة مع روسيا. فالعقوبات التي شاركت فيها أوروبا على موسكو على خلفية الموقف الغربي الموحَّد من أزمة أوكرانيا لم تعد تحظى بالإجماع كما كانت تفعل من قبل، وثمّة بالإضافة إلى القوى الحزبية الصاعدة قطاعات شعبية واقتصادية تعتبر أنها تضرَّرت من العقوبات أكثر من روسيا نفسها. الدفع بهذا الاتجاه يجعل بعض القوى داخل أوروبا تقف على مسافة واحدة من الولايات المتحدة وروسيا. صحيح أنها ليست في موقع القرار بعد، لكنها من موقعها الاعتراضي تستطيع وضع فيتو شعبي على الاستمرار بسياسة العقوبات، وبالتالي تعيد النظر جزئياً في الموقف الجيوسياسي من روسيا، ليس استناداً إلى المصلحة الروسية كما يتهمها خصومها وإنما على ضوء المصلحة الأوروبية نفسها، حيث تبدو هذه الأخيرة في تعارُضٍ متزايد مع السياسة الأميركية الحالية. هذا التعارُض يجعل من الموقف الأوروبي بيضة قبّان فعلية في السياسة الدولية، فالتقاطُع مع الروس حول سياسات الغاز وحول ضرورة مراجعة سياسة العقوبات لا يعني أن ثمّة تحالفاً مع روسيا قيد الإنشاء، بل على العكس من ذلك. ثمّة ثباتٌ في التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة ضمن إطار حلف الناتو الذي يضاعف حالياً من نشاطاته ـــ بمباركة أوروبية ـــ في دول البلطيق، على الحدود الغربية لروسيا. أكثر من يعبِّر عن هذا التوازن في العلاقة مع روسيا والولايات هي ألمانيا التي تقود الاتحاد الأوروبي اقتصادياً، وتعبّر عن اتجاه متعاظم داخله لمجابهة السياسات الحمائية الأميركية. المصلحة الاقتصادية هي التي تضع برلين على تقاطعٍ مع روسيا لجهة الاستفادة من توريدات الغاز إليها والى أوروبا عموماً، وهي أيضاً التي تجمعها بالصين على خلفية الموقف المشترك من حمائية ترامب ومسعاه لتعديل أطر قيادة العولمة.
خاتمة
الموقف الأوروبي عموماً، يذهب في هذا الاتجاه. هو لا يستطيع بحكم بنيته المعقَّدة معارَضة الولايات المتحدة سياسياً أو استراتيجياً، ولكن حين يتقاطع الموقفان الجيوسياسي والاقتصادي، كما هي الحال مع إدارة ترامب، يصبح بإمكانهما في ضوء التهديد الذي يمثِّله هذا التقاطع على المصلحة الأوروبية التعبير عن معارضة جزئية للسياسة الأميركية. وفي ضوء موازين القوى الحالية، فانّ هذا النوع من المعارَضة هو أفضل ما يمكن توقُّعه من أوروبا، في انتظار أن تفضي التغييرات السياسية داخلها إلى وصول قوىً تملك تصوُّرات أكثر جذرية للعلاقة مع الولايات المتحدة.
* كاتب سوري
نقلاً عن الاخبار اللبنانية