Menu

المناخ العربي المهزوم والمأزوم في ظل الليبرالية الجديدة وانتشار مفهوم المجتمع المدني  (8-18)

غازي الصوراني

في ظل الأوضاع المتدهورة -في النظام العربي ونظام السلطة الفلسطينية- الناتجة عن عمق أزمة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، المستفحلة في بلادنا، والتي أدت -الى جانب ضعف العامل الذاتي النقيض أو البديل الوطني الديموقراطي الشعبي- الى مزيد من الإلحاق والتبعية، وتدمير الهوية الوطنية والقومية وتفكيكها، كان لابد لاستراتيجية العولمة والحركة الصهيونية في بلادنا أن تنجح -في اللحظة الراهنة- في إخضاع منطقتنا لمقتضيات مشروع الهيمنة الأمريكي -الصهيوني المعولم- الذي ازداد توحشاً بعد أحداث »سبتمبر 2001، وهي مقتضيات استراتيجية تسعى الى تحقيق هدفين اثنين متكاملين هما: تعميق السيطرة الاقتصادية على مقدراتنا العربية من ناحية وتدمير قدرة الدول والشعوب العربية على المقاومة بكل أشكالها النضالية والسياسية من ناحية ثانية، متذرعة بأحدث المبررات الزائفة تحت مظلة »مقاومة الإرهاب« وجوهره، مقاومة وتركيع كل إمكانية أو حركة تستهدف استنهاض عوامل القوة والتحرر الوطني والقومي الديمقراطي، والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية، والوحدة العربية، بمثل ما تستهدف تكريس تبعية شعوب هذه الأمة وتخلفها من ناحية، وإعادة تكيفها بما يضمن إلحاقها بصورة شبه مطلقة، تحت إدارة نظام السيطرة الأمريكي-الصهيوني، الذي يسعى -بصورة يائسة لا مستقبل لها- تجديد الدور الوظيفي للعدو الصهيوني ودولته بما يتوافق مع مستجدات المصالح الاستراتيجية الأمريكية الراهنة، بحيث تصبح إسرائيل »دولة مركزية، أو دولة إمبريالية صغرى« في المنطقة العربية والإقليم الشرق أوسطي، يحيطها مجموعات من »دول الأطراف« العربية المتكيفة، التابعة، المتخلفة، مسلوبة الإرادة، بما يضمن ويسهل »عملية التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي والاندماج الإسرائيلي« في المنطقة العربية، تمهيدا للقضاء على منظومة الأمن القومي العربي كله من جهة، وبما يعزز السيطرة العدوانية الإسرائيلية على مجمل الأراضي الفلسطينية والجولان السورية المحتلة والتحكم في مستقبلها من جهة ثانية.

في هذا المناخ المهزوم والمأزوم في بلداننا العربية، كما في بلدان العالم الثالث عموما، انساق الكثيرون، من أوساط القوى والأحزاب السياسية والمثقفين، بهذه الدرجة أو تلك من الحماس والوعي أو بهذا الحجم أو ذاك من المصالح الخاصة من ناحية، أو العمى وعدم الوضوح الأيديولوجي من ناحية ثانية نحو شعار »المجتمع المدني« في إطار الليبرالية الجديدة الوافدة الى بلادنا بصورة طارئة وفجة، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وانحسار المشروع القومي العربي، وبروز الهيمنة القطبية الأحادية الأمريكية في نظام العولمة الراهن وأيديولوجيته الرئيسة المهيمنة: الليبرالية الجديدة، التي وصفها »الزعيم الليبرالي الجديد »ملتون فريدمان« في كتابه »الرأسمالية والحرية« بقوله: بما أن جني الأرباح هو جوهر الديمقراطية، فإن أي حكومة تنتهج سياسات معادية للسوق هي حكومة معادية للديمقراطية، فالديمقراطية مسموح بها ما دامت سيطرة رجال الأعمال بعيدة عن المناقشة أو التغيير.

هكذا يصبح النظام الليبرالي الجديد -كما يقول المفكر الأمريكي »نعوم تشومسكي«- هو النموذج السياسي والاقتصادي الذي يعرّف به عصرنا لكي يتم تحقيق أقصى الأرباح«(44).

وفي هذا السياق، فإن من المفيد والضروري، إثارة الحوار العميق والموضوعي مع أولئك الذين انبهروا بالمظهر الخارجي لشعار المجتمع المدني الليبرالي، وأن نتوجه إليهم بعيداً عن أصحاب المصالح من دعاة الليبرالية أو »مثقفيها« في إطار المنظمات غير الحكومية وغيرها، المنتشرة على مساحة الوطن العربي، والتي يزيد تعدادها عن (75 ألف مؤسسة أو منظمة غير حكومية)، لنؤكد ونوضح عبر هذا الحوار، أبعاد ومكونات هذا المشروع الليبرالي الأممي المعولم، والتي يحددها د. رمزي زكي في ثلاثة أبعاد رئيسة هي: البعد الاقتصادي، والبعد الأيديولوجي، والبعد السياسي، ففي تعريفه لهذه الأبعاد يقول »إن البعد الاقتصادي يستند على السلفية الاقتصادية، أو المدرسة الليبرالية الجديدة (النيو كلاسيكية) التي ترى أن الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي، هي أفضل النظم وقمة التطور ونهاية التاريخ. أما البعد الأيديولوجي فيستند إلى الفلسفة الفردية النفعية، التي تؤكد على الحقوق الفردية في مجال الملكية والاستثمار والتجارة والعمل، وأخيرا البعد السياسي -لهذا المشروع الليبرالي المعولم- الذي يستند إلى الديمقراطية الليبرالية بمعناها الغربي«(45)، وهذه الأبعاد هي التي يرتكز، عليها وينطلق من مضمونها الجوهري وعلاقاتها وآلياتها الداخلية، مفهوم المجتمع المدني في حركته المعرفية والسياسية عبر شخوص وأطر متنوعة أهمها المنظمات غير الحكومية في بلادنا، التي تسهم -بوعي أو بغير وعي- في تحقيق الهدف الكامن خلف هذه الشعارات، وهو هدف يتلخص -كما يقول سامر الأيوبي- في »قنونة العلاقات الاقتصادية السائدة في بلادنا (وهي علاقات رأسمالية يغلب عليها الطابع الطفيلي) وإعطاءها الشكل المشروع، الحقوقي، وهو عمليا الشكل الحقوقي الذي تمارس به الاحتكارات الأمريكية والأوروبية نشاطها الاقتصادي في دولها، هذا هو جوهر ما يريده الداعون للمجتمع المدني والليبرالية، وما يترافق مع هذا الطرح من حريات ديمقراطية مقاسه بدقة لكل فرد (وفق ما يملك) وفي حدود أن لا يشكل خطراً يمس المصالح العامة للطبقات المُستغِلة المصونة والمقدسة وفقاً للقانون والأنظمة« .

إن رفضنا لمنطق الليبرالية الجديدة وآلياتها وديمقراطيتها السياسية الشكلية، ينبع من قناعتنا وإدراكنا بصورة موضوعية، بأن ذلك المنطق بكل محدداته الاقتصادية والسياسية والفكرية، لن يؤدي في بلادنا سوى الى مزيد من تهميش الجماهير الشعبية وفقدانها لتحررها الذاتي والسياسي على المستويين الوطني والقومي، والى مزيد من المعاناة والحرمان في صفوفهم بما يدفع الى الاعتراف الإكراهي بمشروعية اللامساواة، وغياب مفاهيمِ العدالةِ الاجتماعية وآلياتها وتكافؤ الفرص والحريات الحقيقية من ناحية، والى فرض حالة من الإحباط واليأس وخنق روح الصمود ومقاومة العدو الصهيوني والإمبريالية الرأسمالية المعولمة، وتدمير المشروع الوطني، وإعاقة النهوض القومي من ناحية ثانية.

لذلك فإن الدعوة الى التمسك بأسسِ الديمقراطيةِ السياسية والاجتماعية ومبادئِها، التي تتكرس في خدمة قضايا التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، ولا تقتصر آلياتها على التعددية السياسية وحق التعبير والحريات الفردية فحسب، بل تمتد بعمق ووضوح نحو تحقيق الاستقلال الوطني وحماية سيادة الوطن، والتقدم الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية والديمقراطية من منطلق الثورة الوطنية الديمقراطية بافاقها الاشتراكية ... يتبع