لاشيء يحدث بالصدفة في العالم الصهيوني، لاشي يحدث بسبب تناقضات الواقع، بل كل شيء يسير عبر خطة منظمة، منهجية، بهدف واحد إلغاء فلسطين والفلسطينيين من الوجود، هذا هو جوهر الحرب التي تشنها الحركة الصهيونية وكيانها الفاشي "إسرائيل" ضد الشعب الفلسطيني وأرض فلسطين
-1-
في محاضرة ألقاها حاييم وايزمن (أبرز الزعماء الصهاينة وأول رئيس للكيان) في باريس عام 1914 أعلن «في هذه المرحلة الأولية صاغ الرواد الصهاينة هذه الحركة الصهيونية كحركة متوقعة تماما على العوامل التالية: هناك بلاد اتضح أن اسمها فلسطين، بلاد بلا شعب، ومن ناحية أخرى هنالك الشعب اليهودي الذي لا بلاد له»، وقبل ذلك بكثير كان إسرائيل زنغويل أحد مساعدي هرتزل زار عام 1897 فلسطين وقال في إحدى خطبه «علينا أن نستعد لطردهم ( العرب) من البلاد بقوة السلاح». وتضيف غولدا مائير في مقابلة مع الإذاعة العبرية في آب 1973 «إن كل شيء لم يحدث، لم يكن في فلسطين شعبا فلسطينيا يعتبر نفسه شعبا، وإننا طردناه كي نأخذ مكانه، إنهم لم يكونوا موجودين».
ومع اقتراب الصراع من ذروته نهاية الثلاثينيات تشكل إجماع قوي بين الأحزاب الصهيونية على طرد الشعب الفلسطيني إلى الدول العربية خاصة سوريا والعراق وقد تزعم الإجماع حزب ماباي الذي قاد الحركة الصهيونية من 1933 إلى 1977 وكان المنوط به تنفيذ الطرد، واكتمل الإجماع بعد حصوله على تأييد الأحزاب العملية الصهيونية بدعم قادة حزب (الصهيونيين العموميين) وعلى رأسهم حاييم وايزمن، الذين هدفوا إلى «تحويل فلسطين إلى دولة يهودية تماما كما هي إنكلترا إنكليزية» كما طالبت منظمة ليحي (شتيرن) بطرد الفلسطينيين عبر بنودها التي صاغها أبراهام شتيرن مؤسسها ومنظرها، والذي خلفته قيادة ثلاثية بعد مصرعه أبرز أعضائها إسحاق شامير، وبانتهاء الثلاثينيات تشكل إجماع صهيوني بانضمام جابوتنسكي إلى الطرد عبر رسالة بعث بها عشية موته إلى أحد أعوانه في فلسطين.
هذه الأفكار الإلغائية لم يأكلها الزمن وليست قديمة وهي تشتد اليوم أكثر فأكثر بجنون الخوف الديمغرافي ودعوات الترحيل عبر التبادل السكاني أو الجدار أو التخلي عن المناطق المكتظة بالسكان العرب أو تهويد النقب والجليل، ولكن التطور الأبرز طبعا هو أن الصهاينة يجيبون على سؤال: لماذا نضطر إلى التخلي عن المناطق المكتظة بالعرب مادام بوسعنا التخلص منهم والاحتفاظ بالأرض؟
-2-
قبل أسابيع قليلة، خرج المستوطنون اليهود في العفولة شمال فلسطين المحتلة، في مظاهرة كبيرة، احتجاجا على بيع منزل لعائلة عربية، وتحذيرا من أن تتحول المدينة "النقية عرقيا" إلى مدينة مختلطة، قد يذكر هذا الفعل بجنوب أفريقيا مثلا، وممارسات جرت في أحياء البيض في المدن الأمريكية ضد السكان الجدد، الملونين، الذين لا يستحقون السكن في "الحي اللطيف" ببساطة "لأنهم مختلفون" وطالما تم تصويرها في الدراما، بأن المشكلة ليست في أولئك الرافضين، بل في أن هؤلاء الجدد الساعين لاختراق هذه المجتمعات المغلقة، ليسوا قادرين على التكيف، لا يستطيعون التكيف، ليس بعد، ولكن هذا يحدث يوميا في "الديمقراطية الشرق أوسطية" يجري تهجير الآلاف من الفلسطينيين من أرضهم وليس فقط منعهم من السكن في حي يهودي، لتنقية المشهد، لبناء سلسلة مستوطنات في النقب، أو خلق صلة بين مستوطنات في القدس .. هذا ليس جديدا، ألم تبن مئات المستوطنات بل المدن الكبيرة على أنقاض المجتمع الفلسطيني، ألم يتم إزاحة الفلسطيني الأصلي، كساكن لامكان له، لإتاحة الفرصة للقادمين من أصقاع العالم، أولئك الصهاينة المتكيفين سلفا مع نظام الدولة الروحي والأيدلوجي والديني.
إن الفقرة في القانون الجديد المتعلقة ببناء أحياء حصرية عرقيا، مستمدة أصلا من الممارسات الاستيطانية التاريخية، وهو هنا لا يتعلق بمجرد الفصل، نعلم جيدا أن هذا البند سيطبق على اليهود فقط، نعلم جيدا أن اللوائح الإدارية المعمول بها في هذا الكيان تخص اليهود، كان بناء القانون في هذه النقطة بل في مجمل نقاطه يصعد من الممارسات إلى القوننة وليس العكس، فالممارسات الميدانية كانت دائما هي الأساس ، وهكذا في الدولة الفاشية يتم تكييف القوانين لتناسب مصالح الفئة العرقية المحددة، وتخليد ماهو عليه الأمر فعلا.
والفاشية لا تحب القوانين ولكنها تحب النظام والسيطرة البيروقراطية المحدودة، والقانون يأتي فقط كترسيخ لاحتياجات معينة وهو هنا يأتي استنادا إلى الحاجة الاستيطانية، للتغول أكثر في "أرض إسرائيل" وهو ما يتجاوز الخط الأخضر، هنا تصبح الضفة الغربية أيضا مسرحا لتنفيذ هذا القانون الدستوري، إذ أن هذا القانون ليس سوى خطة في إطار الضم الزاحف للضفة الغربية، حيث يستوطن يهود يخضعون للقانون المدني "الإسرائيلي" ويشهرون قانون الأساس الجديد في وجه العالم، وفي المقابل يخضع الفلسطينيون لسلسلة من الأوامر العسكرية تحدد حدود حقوقهم ووجودهم في حيزهم الطبيعي، الذي هو ملكهم أصلا.
ولكن كما قلنا، القانون لا يمنح تمييزا تفضيليا جديدا لمصلحة اليهود بل يشرعن ما هو قائم، أصلا، فمنذ لحظة ولادتها منحت "إسرائيل" اليهود امتيازات على حساب الفلسطينيين، امتيازات أدت فعليا إلى التوغل في إلغاء إبادة الفلسطينيين من الحيز العمومي للدولة التي زعمت أنها ديمقراطية، ولعل في "قانون العودة" المبني على الإبادة والتطهير وحرمان الفلسطينيين من العودة أبلغ دليل. ناهيك عن أن الكيان الصهيوني لم يشرعن التمييز في حيازة الأراضي، لم يربك نفسه بهذا بل ببساطة صادر الأرض نمن الفلسطينيين واغتصبها بسلسلة لا تنتهي من الأوامر العسكرية.
وفي الحقيقة فإن قيام "إسرائيل" بحد ذاتها، شكل ضربة قاتلة لحق الفلسطينيين، في تقرير المصير" الذي قوننه القانون الجديد بمنح هذا الحق لليهود فقط كمجموعة فريدة وحق له فرادة بالنسبة لليهود.
-3-
ينقل صحفي يهودي بهذه المناسبة، مقابلة قديمة مع الحاخام مثير كاهانا، الذي يستدعي اسمه على الفور، أفكارا عن العنصرية والحقد المرضي ضد الفلسطينيين، أجرى اللقاء الصحفي الأمريكي تيد كويل، وهو لم يكن لقاء بل مناظرة بين كاهانا وإيهود أولمرت، الذي كان عضوا مستجدا في الكنيست عن الليكود، حينها، وفي تلك المناظرة وضع كاهانا خلاصة الموقف الذي نقرؤه اليوم في "قانون القومية اليهودي" وقال "إن إسرائيل ، ولا سيما من هم في السلطة ، يخشون أن أسألهم السؤال التالي: هل يملك العرب في إسرائيل الحق الديمقراطي في الجلوس بهدوء وديمقراطية ، وينجبون أطفالاً كافيين ليصبحوا أغلبية؟ إنهم يخافون من أن أسأل السؤال" في الحقيقة هذا هو الوضع الآن تماما فدولة إسرائيل تمنح اليهود المواطنة والجنسية بمجرد طلبها، بموجب قانون العودة سالف الذكر، هذا القانون وضع في زمن لم يكن يحلم فيه كاهانا بالجلوس في مقاعد السلطة، في زمن حزب العمل الذي صوت ليلة أمس ضد القانون الجديد ما يحيلنا إلى حقيقة هذا التصويت المنافق. وبالمثل، نتذكر ما قاله رحبعام زئيفي «صحيح أنني أؤيد الترانسفير لعرب الضفة وقطاع غزة إلى الدول العربية ولكنني لا أملك حق ابتكار هذه الفكرة، لأنني أخذتها من أساتذة الحركة الصهيونية وقادتها مثل دافيد بن غوريون الذي قال في جملة أمور أخرى « إن أي تشكيك من جانبنا في ضرورة ترحيل كهذا وأي شك عندنا في إمكانية تحقيقه وأي تردد من قبلنا في صوابها قد يجعلنا نخسر فرصة تاريخية »(مذكرات بن غوريون) كما أنني تعلمت هذا من بيرل كتيلسون وآرثور روبين ويوسف فايتس وموشيه شاريت وآخرين».
لقد لخص كاهانا في تلك المناظرة طبيعة الحرب الديمغرافية التي شنتها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين، والتي خلاصتها وجوهرها كما أشار نور مصالحة "أرض أكثر: عرب أقل" ولعله من المفضل أن تكون "أرض كاملة بدون عرب على الإطلاق" وهكذا تجمل الصهيونية ذاتها فإذا كانت براغماتيا تحتاج أن تكون يهودية وديمقراطية ، فإنها تحتاج مان أغلبية يهودية إلى ضمانة الأغلبية اليهودية، بحيث لاتخرج منافع الديمقراطية من يد تلك الأغلبية. لعل هذا هو جوهر قانون العودة، جوهر أن السلطات"الإسرائيلية" لا تعترف بوجود جنسية "إسرائيلية" ببساطة لأنه وفقا لنتنياهو والقانون المقر ليلة أمس فإن هذه الدولة لا تنتمي "للمواطنين الإسرائيليين" بل لليهود أينما كانوا، لأنه ولسوء حظ هذا النظام هناك 20% من "المواطنين" ليسوا يهودا، من ذلك ، يتم ترسيخ "إسرائيل" كدولة الشعب اليهودي ، ونصف هؤلاء ليسوا "إسرائييلن" أصلا ولا يفكرون بالقدوم إلى إسرائيل".
-4-
نعلم جيدا أن مطابقة العرق بالأرض ومطابقتهما هو منهج فاشي قديم، ولكن فكرة الدين وضمه إلى المعادلة هو الإضافة التي قدمتها الصهيونية على هذه المعادلة، وهي مقولة فاشية بامتياز تتلخص فيها العنصرية العرقية والنوستالجيا الدينية والنزوع الاستعماري الكريه وتتجلى يوميا في السياسة الإسرائيلية منذ نشأة الكيان الذي ابتدأ بطرد الفلسطينيين من أرضهم وصولا إلى العمل الحثيث لتطهير فلسطين من شعبها الأصلي.
لماذا نندهش إذا من تشريع إقامة مجتمعات يهودية منفصلة، أليس هذا هو واقع الحال، ألم يكن المشروع الصهيوني في فلسطين ، منذ نشأته ، هو مشروع إعادة هندسة الأرض. يشكل هذا الأساس لموقف الدولة ومعاملة الفلسطينيين - سواء كان ذلك التطهير العرقي في الضفة الغربية ، أو منع إعادة توحيد الأسرة ، أو قانون العودة ، أو حقيقة أنه منذ تأسيس الدولة ، لم يتم تأسيس مدينة عربية واحدة ، باستثناء بعض البلدات البدوية في الجنوب ، التي بنيت لمنع السكان البدو من التوسع وللاستيلاء على أراضيهم الأصلية وحجزهم في ما يشبه معسكرات الاعتقال..
وعلينا أن نلاحظ أن هذه الممارسات ليست ذات طابع سلطوي قسري، بل أنها نابعة من صلب عقيدة وسلوك الجمهور اليهودي الاستيطاني العام، الذي تطبع بواقع ا إخضاع الشخصية المدنية للدولة لصفتها العرقية. وهذا طبعا مدعوم بالرشى التمييزية الكبيرة التي تقدمها الدولة ليهودها ما يجعلهم يفكرون مرات قبل التفكير بأحقية الغير في هذه الحقوق والتخلي عن حيازتها وحيازة منافعها بشكل طوعي، لقد تم ترويض اليهود على منفعتهم الخاصة التي لايمكن أن يحوزوها إلا بانتزاعها من الفلسطينيين،وهذا هو جوهر التصويت في المجتمع اليهودي الاستيطاني في فلسطين المحتلة. وبالتالي يصبح اليهود حماة للدولة القومية، لأنها جوهر استحصال منافعهم الاستعمارية، وهذا هو جوهر الاعتماد المتبادل بين الدولة الفاشية و"شعبها". لقد كان كاهانا محقا إذا.
.
.