Menu

يوسف صديق الذي لا تعرفه

عبد الله السّناوي

إنصاف أدوار الرجال في التاريخ مسألة ضرورية، لسلامة الذاكرة العامة وحفظ الحقيقة أمام الأجيال الجديدة. لكل دور إطاره وسياقه، فلا أدوار معلقة في الهواء.

وقد كان دور العقيد «يوسف صديق» حاسماً في نجاح ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، فهو الذي اقتحم بقواته مقر القيادة العامة في كوبري القبة، واعتقل كل من فيه من قيادات قبل أي ضربة إجهاضية للتحرك العسكري.

من مصادفات التاريخ أنه استبق موعد التحرك بنحو الساعة لأسباب تضاربت رواياتها. بأي قياس طبيعي كان ذلك خطأ جسيماً يفضي بالضرورة إلى فشل الحركة، غير أنه كان سبباً حاسماً في نجاحها.

كان القصر الملكي قد تسربت إليه معلومات عن انقلاب يوشك أن يبدأ، وهرعت الرتب العسكرية العليا إلى مقر القيادة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات تُحبط أي تحرك وتقبض على المنضوين فيه.

بالنظر إلى ذلك الدور الحاسم ضم «يوسف صديق» إلى مجلس قيادة الثورة، ولم يكن عضواً في الهيئة التأسيسية ل«الضباط الأحرار».

ومن مفارقات التاريخ أن «يوسف صديق» الذي اقتحم مقر القيادة، ذهب إلى ظل النسيان بلا إنصاف يستحقه، فيما صعد رجل آخر هو «أنور السادات» .

مثل تلك المفارقات تحدث كثيراً في الثورات والتحولات الكبرى.

إنصاف «يوسف صديق» بمنح اسمه «قلادة النيل»، أرفع درجة تكريم مصرية، أمر مستحق تأخر طويلاً.

لم يكن «الضباط الأحرار» من قماشة سياسية واحدة. تباينت مشاربهم الفكرية والسياسية، وكان ذلك التباين موضوع صدام مؤجل.

هناك من لم تكن له علاقة بأي حزب أو تنظيم، لا تعرف عنه أي انتماءات فكرية أو تنظيمية باستثناء التوجه الوطني العام والغضب على مستويات الأداء السياسي والعسكري وفساد النخب الحاكمة.

وهناك من انتمى إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني اليسارية «حدتو»، بينهم «أحمد حمروش» و«لطفي واكد» قادمان من « مصر الفتاة»، و«أحمد قدري» مسؤول طباعة منشورات «الضباط الأحرار»، و«آمال المرصفي» أصغر «الضباط الأحرار» قادماً من «أسكرا»، وهو تنظيم ماركسي أقرب إلى الصفوة المثقفة، و«أحمد فؤاد» رئيس مجلس إدارة بنك مصر فيما بعد، وعلى رأسهم «خالد محيي الدين» و«يوسف صديق» قادمان من «الإخوان المسلمين».

عند النظر في أسماء قيادات وكوادر «حدتو»، قد يخيل إليك أنك أمام تجمع ثقافي متسع وفريد لا أمام تنظيم سياسي سري.

بينهم: «يوسف إدريس» أمير القصة العربية القصيرة بلا منازع، و«فؤاد حداد» أهم شاعر عامية مصري، و«صلاح جاهين» الشاعر ورسام الكاريكاتير الأكثر شعبية، و«زهدي» و«عبدالسميع» من أبرز رسامي الكاريكاتير ومؤسسي مدرسته المصرية، و«عبدالرحمن الشرقاوي» الروائي والمسرحي، والصحفي بالغ التأثير في الحركة الثقافية العامة، و«صلاح حافظ» أحد أبرز الصحفيين المصريين في القرن العشرين ورئيس تحرير «روز اليوسف»، خلال حقبة «السادات» ، و«عبدالرحمن الخميسي» الأديب والشاعر والصحفي، الذي ارتبط بظاهرة «الصعاليك العظام»، التي أسبغت على الحياة الثقافية المصرية جمالها الخاص، و«إنجي أفلاطون» و«تحية حليم» و«جاذبية سري» و«جمال السجيني» و«جمال كامل» و«سمير رافع» و«حسن فؤاد» أبرز الفنانين التشكيليين المصريين بلا جدال، فضلاً عن الناقدة والأديبة الدكتورة «لطيفة الزيات».

بدواعي الانتماء كان طبيعياً أن يتوافق موقفا «خالد محيي الدين» و«يوسف صديق» مع ما تتبناه «حدتو».

كان إعدام العاملين «خميس» و«البقري» يوم (١٣) أغسطس (١٩٥٢) إثر احتجاجات لحقتها اضطرابات في مصانع «كفر الدوار»، حكمًا جائرًا وافق على تنفيذه مجلس قيادة الثورة، فيما اعترض ثلاثة عليه والتحديد هنا ضروري: «خالد محيي الدين» و«يوسف صديق» و«جمال عبد الناصر».

وكانت أزمة مارس، التي افترقت عندها الطرق، صراعاً حول أي طريق تذهب إليه «يوليو»: إعادة إنتاج مقومات النظام الملكي دون الملك أم تغيير طبيعة النظام كله وتقويض أسسه السياسية والاجتماعية والاستراتيجية؟

كانت «يوليو» تبحث عن طريق لم تستبِن ملامحه. في أزمة مارس «حدتو» طلبت المشاركة في القرار، وجماعة «الإخوان المسلمين» طلبت الاستيلاء على القرار نفسه.

هكذا حدث الصدام. بتداعيات الأزمة خرج «خالد محيي الدين» و«يوسف صديق» من مجلس قيادة الثورة.

فيما خرج «خالد» مبعدًا إلى سويسرا، تعرض «يوسف» لمحن إنسانية إبعاداً واعتقالاً ووضعًا قيد الإقامة الجبرية بعد أن استقال في سبتمبر (١٩٥٤).

بأي مراجعة لمسارات أغلب نخبة «حدتو» بعد صدام «أزمة مارس»، فإنها تسامت عن مرارة السجن، وارتبطت بدرجات مختلفة بتجربة «يوليو» ودافعت عنها بعد غروبها.

عندما بدأ العدوان الثلاثي على مصر عام (١٩٥٦)، التأمت الجراح بين رفاق افترقوا، وبدا القتال بشرف معنى الحياة نفسها.

هرع يوسف صديق إلى ارتداء ملابسه العسكرية، للتطوع في الحرب وقرر «عبدالناصر» رفع الإقامة الجبرية عنه، ووضع تحت إمرته ضباطاً ومعلمين عسكريين وسلاحاً روسيّاً حديثاً لتدريب المتطوعين.

«الله أكبر يا جمال جمعتنا

والعهد دون الحق أن نستشهدا»

في لحظة الخطر ذاب جليد وتبدت معادن رجال.

عند رحيل «عبد الناصر» كتب أجمل وآخر قصائده قبل أن يرحل بدوره عام (١٩٧٥):

«أبا الثوار هل سامحت دمعي

يفيض وصوت نعيك ملء سمعي؟

وكنا قد تعاهدنا قديمًا

على ترك الدموع لذات روعِ».

«بكتك عيون أهل الأرض حولي

فكيف أصون بين الناس دمعي؟».

تكاد صورة «يوسف صديق» أن تقارب في ظروف وأزمان مختلفة صورة «محمود سامي البارودي» رئيس حكومة الثورة العرابية المجهضة، الذي نفي ووصف ب«رب السيف والقلم».

كلاهما ضابط وطني شارك في ثورة حقيقية، وشاعر حالم بعالم جديد.