"... مع كل عقد جديد يزيدون مبلغ الإيجار، لا رحمة من أحد، الكل يريد أن ينهشك ولا يهمه إن أكلت أو جعت، ليس لنا أحد، لا منظمة ولا فصائل ولا أي أحد".
بهذه الكلمات البريئة المصاحبة لغصة ودمعة تعبر "أم معمر" اللاجئة من لوبية قرب الناصرة والمولودة في مخيم اليرموك، والتي دمر بيتها في ذلك الحي الفقير المدمر الآن المُسمى حي التقدم.
هي مأساة بعنوان فرعي جديد فحواها عدم القدرة على دفع الإيجارات الباهظة التي تتصاعد كل حين دون مبرر سوى تحكم المؤجرين واحتكارهم للمأساة، حيث أن بعض من خرج من اليرموك من فلسطينيين وسوريين وصلت الزيادة في البيت المستأجر اضطرارًا من قبله أكثر من عشرة أضعاف، لسبب مبرر نسبيًا وهو ارتفاع سعر صرف الدولار وصعوبة المعيشة التي طالت الجميع أينما وجدوا، لكن ارتفاع الإيجارات الجنوني بغالبيته كان غير منطقي، بالقياس إلى دخل الفرد ورواتب الموظفين التي لم تزدد سوى الضعف أو ما يزيد قليلا خلال الأزمة.
كمثال تقريبي فإن بيتًا كان يؤجر بخمسة آلاف قبل الأزمة أو في السنة الأولى من بدايتها حتى، صار يؤجر بمئة ألف!، بينما رواتب الموظفين كانت نحو 14000 ليرة تضاعفت مرة واحدة أو مرتين في أقصى الأحوال، وهذا أمر غير منطقي على الإطلاق.
يقول حسن، وهو عامل في دهان البيوت إنه يعمل في السنة كلها ما مجموعه شهرين فعليًا، في حين كان قبل الحرب يعمل طيلة العام بل يؤجل الزبائن في كثير من الأحيان، ويحتال على الوقت ليخرج مع عائلته يوم الجمعة إلى أحد المنتزهات في دمشق وحولها، أما الآن فلولا ابنته المتزوجة التي هاجرت مع زوجها إلى ألمانيا والتي ترسل له دعمًا بسيطًا بين حين وآخر كما يقول" لكنت انتحرت"!، فالموت صار أسهل بكثير من الحفاظ على الكرامة!.
هذه النماذج تحكي ألم الغالبية هنا، وليس الاستثناء، فانحسار سوق العمل، وقلق العملة- المُستقر حاليًا إلى حد ما- والتشرد والنزوح عن البيوت وغياب رب الأسرة والمُعيل الأساس في أحيان كثيرة أو إصابته أو...، وغلاء المعيشة وتصاعد إيجارات البيوت، كل ذلك أدى إلى تراجع كارثي في السوية الاقتصادية للمواطن عمومًا والفلسطيني خاصةً، فأنت تجد العشرات ممن يملكون البيوت في اليرموك، وبعضهم لديه بنايات ومحلات قد تكون شهيرة قبل ذلك، يسكنون الآن في بيوت غير لائقة وبإيجارات باهظة يستدين البعض منهم لتسديدها!.
تقول أم معمر "طلعنا من اليرموك، وتبهدلنا ويا ريت متنا كلنا هناك، انمسحت بكرامتنا الأرض، وجوزي توفى وعندي بنتين... صار صاحب البيت والمكتب العقاري بدهن يتراذلوا علينا ويستغلونا، وخليها لربك، صرنا نتنقل بين هون وهون، وبصراحة لولا مساعدة الأونروا اللي هي بسيطة كان متنا عالآخر، هي ما بتكفي بس بتسد حاجة لو بسيطة".
يشعر الفلسطينيون هنا عمومًا بالضياع ولا يثقون بأحد، أي أحد، حيث يتهمون الجميع بالتقصير وخاصة المنظمة والفصائل التي يعتبرون أنها جميعها تركت الشعب في مهب الريح، لا بل تسري شعبيًا مقولات واتهامات بأن بعض أعضاء هذه الفصائل ساهم في سرقة البيوت والنهب "التعفيش".
وتعلق أم معمر "الحل بسيط لو انهم مش... كان ببيعو نص هالسيارات اللي عند القيادات اللي ما إلها لازمة أصلاً، بحلو جزء كبير من المشكلة، بس ما حدا لحدا، حماس خانتنا والمنظمة ضيعتنا والفصائل معهم....".
يستطيع المرء أن يتلمس ازدياد وتيرة الأزمة اقتصاديًا بالنسبة للفلسطينيين سواء بالنسبة لفلسطينيي المناطق المتضررة حربيًا كحلب أو درعا أو اليرموك وسبينة والحسينية وخان الشيح على وجه التميز، وهو ما استمر خلال العام الحالي على الرغم من ارتفاع منسوب جودة الحالة الأمنية وانحسار المعارك والقذائف والاشتباكات، إلا أن ذلك لم يفعل فعله في الواقع المعيشي، فغالبية مؤجري البيوت الذين استغلوا تشرد المواطنين – سوريين وفلسطينيين على السواء- أثناء الأزمة الشديدة ما زالوا يستغلون الحاجة لإيجاد سكن، وذلك تحت مسمى عبارة أن المناطق مستقرة، ودليل ذلك الواضح والمعروف للجميع أنه عندما سرت شائعات عودة الناس لليرموك بعد تحريره انخفضت الإيجارات أو استقرت على الأقل، وعندما اتضح دمار المخيم عادت للصعود وما زالت!.
يسأل سائل هنا هل "هذه الظاهرة ظاهرة استغلال المستأجرين – ظاهرة عامة؟"، للأسف يمكن القول نعم، وباستثناءات نادرة، وذلك يعود إلى أن مالكي البيوت ذاتهم يتعرضون أيضًا لمفاعيل الأزمة وهذا واقعي تمامًا، لكن حالة الحرب وصخبها أنست العديدين القيم الأخلاقية والإنسانية بالمقابل، وبقي تحصيل المال بأية طريقة هو الهدف الأعلى، وذلك غير طبيعي.
بالمُقابل قامت "الأونروا" بإغلاق مراكز الإيواء منذ أشهر، نظرًا لعدم قدرتها على تحمل مصاريفها، وهذه المراكز هي في غالبيتها مدارس كانت تحتمي فيها آلاف العائلات التي شُردت من المخيمات، وقدمت مبالغ مالية كتعويض وإغراء للخروج من الإيواء.
"ضحكت علينا الوكالة بمبلغ مالي"، كما يقول أحد أرباب أسرة ظلت لسنوات في مراكز الإيواء، حيث تم تقديم ما بين 100.000 ليرة سورية أي نحو 200 دولار أميركي و400.000 ليرة أي نحو 800 دولار للعائلة، ما أفرح البسطاء في البداية، لكن أصحاب البيوت المؤجرة سحبوا المبالغ هذه إلى جيوبهم خلال شهرين أو ثلاثة على أكثر تقدير، واللافت هنا أن "الأونروا" ساومت هؤلاء المتآوين في وقت ولحظة تحرير اليرموك من داعش، وقبل معرفة الناس بأن بيوتهم قد دمرت.
يعلق أحد المتآوين السابقين بقوله "حتى الأونروا ضحكت وتآمرت علينا متل كل العالم، إلنا الله..".