كانت «الأهرام» قد دعت محمد حسنين هيكل إلى احتفال خاص بعيد ميلاده الحادي والتسعين، وكنت مدعواً إلى الاحتفال ضمن كتاب وأدباء آخرين من داخل المؤسسة العريقة وخارجها.
طالبني بأن أصحبه في رحلة الذهاب إلى «الأهرام»، الذي أعاد تأسيسها من جديد وجعل منها قلعة صحفية حديثة ومؤثرة، ولها كلمتها المسموعة.
«لا أريد أن استغرق الطريق في ذكريات الماضي».
لكن الماضي استغرقه بالكامل، حواسه متنبهة لكل ما يرى، ما الذي تغيّر على الحوائط ومواضع المكاتب عما كان عليه في فبراير 1974، عندما غادر مكتبه لآخر مرة.
في ذلك اليوم الخاص امتلكته مشاعر متناقضة، فهو يدرك أنه في «آخر اليوم الطويل»، كأن حياته يوم واحد طال، ويشعر بالاعتزاز بما أداه من أدوار.
وكان الأكثر إثارة بالحساب الإنساني، أنه دخل لأول مرة بعد أربعين سنة من مغادرته «الأهرام» صالة تحريرها الشهيرة، أدار اجتماعاً رمزياً لمجلس تحريرها، استمع إلى مديري التحرير ورؤساء الأقسام، وهم يقترحون تغطيات العدد المقبل.
في ذلك اليوم الخاص جلس على مكتبه الذي كان.
بدت تلك لحظة إنسانية عميقة ومؤثرة استدعت ذكرياتها، فقد جلس على ذات المكتب الرئيسان جمال عبد الناصر وأنور السادات، عندما زارا «الأهرام».
وقد كان لمكتبه قوة هائلة في التأثير العام، أضفت على المؤسسة الصحفية مكانة استثنائية راحت أيامها.
«هذا المكان شهد شبابي كله وولائي له.. الأهرام بيتي والعاملون بها هم أهلي».
هكذا لخص باقتضاب مشاعره، لم تستغرقه ذكريات الماضي، ولم يخفِ قلقه على مصر ومستقبلها، وهو يكاد يصرح أن حياته كلها عند حافة الغروب.
«لا يمكن الاطمئنان على أي مستقبل ما لم تكن هناك رؤية تحكم الخيارات والسياسات، وتتسق مع حقائق عصرها واحتياجات مجتمعها».
غالب الطبائع الاعتيادية في مثل هذه المناسبات، وتجاوز ما هو خاص إلى ما هو عام، ونحى ما هو احتفالي ليناقش ما هو مقلق في أوضاع البلد.
كانت تلك مفاجأة للصحفيين والأدباء والشخصيات العامة، التي شاركت في الاحتفال بعيد ميلاده قبل الأخير، وفي تصورها أنها مناسبة لإشادة مستحقة بالدور الذي لعبه، وبينهم أجيال جديدة تعرف قدره، لكنها ربما لم تره من قبل، فقد انتسبت إلى الصحيفة العريقة بعد أن غادرها بعقود.
رغم تأثره الإنساني، فإنه وجد الاحتفاء بعيد ميلاده ذلك العام زائداً على الحد في الصحف المصرية.
اعتبر ذلك رسالة تكريم من المهنة لرجل في «آخر اليوم الطويل»، مترجياً «أن تطوى هذه الصفحة».
«أريد أن أقول إن هذا البلد يجتاز مرحلة في منتهى الخطورة، وهو لأول مرة أمام معضلة أن يكون أو لا يكون».
«ثوابت كثيرة الآن موضوع تساؤل».
«العالم يتغير رأساً على عقب، وشكل ما هو قادم يتغير، والإقليم يتغير.. ونحن لا نبدو قادرين على الملاحقة».
ثم دخل في صلب ما أراد أن يقترحه على مستمعيه داخل القاعة التي تحمل اسمه.
«أدعو الأهرام إلى الاضطلاع بمسؤولية صناعة رؤية للمستقبل، رؤية لمصر، وهي قادرة عليها بما يتوافر لها من قدرات وإمكانيات فكرية، يمكنها أن تستعين بالشخصيات القادرة على استشراف المستقبل».
«إن مؤسسة روكفلر الشهيرة، عندما وجدت أن الولايات المتحدة في حاجة إلى رؤية جديدة وتصورات أعمق في كيفية التعامل مع قضايا المستقبل، قامت برعاية مجموعة العقول القادرة على تحديد شكل المستقبل، وانتهت إلى رؤية عرضت على صانع القرار والمجتمع، رؤية عملية قابلة للتطبيق وليست مجرد أوراق عمل وتقارير».
«الأولويات غائبة في مصر».
«لا نعرف من أين نبدأ؟».
من فوق منصة الاحتفال اعتذر عن ترؤس مجموعة المفكرين والباحثين من أجل رؤية لمصر.
«قد أستطيع مجاراة الأزمنة الجديدة، لكننا نحتاج إلى عيون جديدة وأصابع لم تحترق بالتجارب السابقة».
«كلما طالت تجربة الإنسان طالت تحيزاته».
لكنه وعد أن يرسل تصوره لعمل تلك المجموعة من المفكرين والباحثين.. وهو ما لم يحدث.
سأل: «ما رأيك فيما سمعت ورأيت؟».
قلت: «لن يحدث شيء لإنجاز ما تطالب به».
في عيد ميلاده الأخير 2015، عاد مجدداً ليعبر عن قلقه البالغ على المستقبل المصري، وسط مجموعة ضيقة من أقرب تلاميذه.
«يجب أن تدرك ماذا يجري حولك في العالم، وتعرف موقع أقدامك.. فالعالم تغيرت قواعده، ورصيدك الذي صنعته في الماضي تآكل، ولم يبق منه إلا بعض التعاطف».
و«يجب أن تكتشف العالم وتتعرف إلى أصدقائك الحاليين والمحتملين».
«جرت في مصر انتقالات مفاجئة.. يمكن أن تتخبط لفترات طويلة.. الوضع معقد لأن الحقائق تائهة».
«ماذا نفعل؟».. هكذا تصاعد منسوب قلقه إلى حد أنه حذر من «الخروج من التاريخ».
في آخر اليوم الطويل نظر إلى المستقبل وقال كلمته ومشى.