Menu

كتابات المرأة والتلقي الذكوري

د. سهام أبو العمرين

لم يأخذ القارئ الغربي والعربي كتابات المرأة، ولا سيما في بداياتها، على محمل الجد، فحاول أن يقلل من قيمتها لكونها كتابات صدرت عن امرأة تحتل موقعا دونيّا في الثقافة الذكورية الجمعية، فلجأت الكثيرات إلى التخفي وراء أسماء مستعارة Pseudonyms ولا سيما الذكورية ليكتسبن مشروعية تلقي أعمالهن في ظل الثقافة التي تكرس لصمت النساء، وكثيرة هي الأسماء في السجل التاريخي للأدب الذي يؤكد ذلك، فلم يكن "جورج إليوت" George Eliot إلا "ماريان إيفانز"([1])Marian Evans،  ولم يكن "جورج ساند" George Sand إلا الروائية "أمانتين أورو لوسيل" Amantine Aurare Lucile ([2])وكذلك "شارلوت برونتي" ([3]) Charlotte Bronte كانت تكتب تحت اسم "كوريل بل" Currer Bell، وأختها "إميلي برونتي"([4])Emily Bronte  اتخذت اسمًا مستعارًا وهو" إليس بل"Ellis Bell ، و"لويزا ماي ألكوت"([5])Louisa May Alcot  بدأت مسيرتها باسم "ا. م. برنار" A.M.Barnard، و"أليس شيلدون"([6])Alice Sheldon كتبت تحت اسم "جيمس تبتري" James Tiptree وغيرهن كثيرات ([7]).

والحال ذاته  نجده في المشرق العربي فـ "مي زيادة" 1886-1941 عرفت بعدة أسماء مستعارة منها؛ إيزيس كوبيا، وشجية، وكنار، والسندبادة البحرية الأولى، ومودمازيل صهباء، وخالد رأفت، وكذلك عرفت "عائشة عبد الرحمن" 1913- 1998 باسم بنت الشاطئ، وكذلك الكاتبة السورية "مقبولة الشلق" 1921-1986 التي كانت تكتب تحت اسم فتاة قاسيون، وكذلك الكاتبة والناقدة "حكمت صباغ الخطيب" التي توقع باسم يمنى العيد.

رفضت معظم الكاتبات إدراجهن تحت ما يسمى بالكاتبات النسويات، إما لقناعاتهن بأن الأدب من المفترض ألا يصنف وفق الجنس فهو أدب إنساني، وإما رفضن لموقف الثقافة الذكورية المضاد للأنوثة وحيث الخشية من الربط بين النظرة الدونية للمرأة والأدب الذي يصدر عنها.

ترى "غادة السمان" أن الأدب لا يعرف التصنيف النوعي، على الرغم من إقرارها بخصوصية كتابات المرأة، والتسمية حسب تصورها "نابعة من أسلوبنا الشرقي في التفكير، وقياسًا على المبدأ القائل: الرجال قوامون على النساء فخرج نقادنا بقاعدة – على طريقة المنطق الصوري- تقول: (الأدب الرجالي قَوّام على الأدب النسائي)" ([8]).

وهذه رؤية ساخرة سطحية نبعت من موقف خارج نصي في رؤيتها لكتابة المرأة، ولا يختلف رأى الروائية "خناثة بنونة" عن رأي سابقتها؛ إذ رفضت التسمية لما يوحي به من التهميش، وتعتبره تصنيفًا رجاليًّا" على حد قولها "من أجل الإبقاء على تلك الحواجز الحريمية الموجودة  في عالمنا العربي وترسيخها وتدعيمها حتى في مجال الإبداع (...) مع العلم أنني أرفض بشكل مسبق هذا التصنيف على أساس أن الإنتاج يعطي نفسه، ويملك الحكم عليه فيما يقدمه دون اعتبار للقلم سواء كان رجاليًّا أو نسائيًّا"([9]).

وهو ذاته موقف الروائية "لطيفة الزيات" في مرحلة الريادة في، مرحلة ستينيات القرن العشرين، والتي أدلت به في شهادتها حول هذا النمط الكتابي، تقول:

"رفضتُ في إصرار أن تبوب كتاباتي الإبداعية في باب الأدب النسائي... وكان هذا القول دفاعًا عن النفس في وجه محاولة مستمرة في أمتنا لتبويب الأدب الذي تكتبه المرأة في مكانة أدبية وفنية أقل من ذلك الذي يكتبه الرجل، وفي استخدام وصف الأدب النسائي كوصفٍ يضمن تحقيرًا لهذا الأدب، وتهوينًا من أهميته، وكوصفٍ يرسي محدودية الموضوعات التي يعرض لها، ومحدودية الاهتمامات الإنسانية التي يطرقها وكان مثل هذا التوصيف للأدب النسائي مرفوضًا من معظم الكاتبات العربيات"([10]).

لكن الكاتبة عَدلت لاحقًا عن هذا الرأي بعدما طالها النضوج الفكري والفني لتقر بمبدأ الاختلاف بين النمطين، ولكن هذا الاختلاف لا يعني تفضيل أحدهما على الآخر([11]).

كذلك رفضت كثير من الكاتبات مصطلح "الأنثوية" لأن هذا المصطلح يستدعي الجانب البيولوجي عند المرأة، ومنهن سلوى بكر وفوزية مهران ونوال السعداوي وغيرهن من اللائي ربطن المصطلح بالضعف والاستكانة والسلبية([12]). وإذا كان موقف الكاتبات من المصطلح قبولا ورفضًا  وما يعنيه ما يبرره فإن الموقف النقدي غير مبرر ويشي بعدم فهم جوهري لمصطلح Feminism  الذي يترجم دون ضوابط أو وعي بالمعنى كما انبثق في الغرب، فكل ناقد يستخدم مصطلحات مختلفة عن الآخرين ويكسبها المفهوم الذي يتفق مع وجهة نظره الخاصة.

تكمن الإشكالية في أن القارئ يتلقى كتابات المرأة ويحكم عليها بمنظوره الذكوري وينظر لها على كونها سيرة ذاتية للمؤلفة؛ فالقارئ لا يتعامل مع النص بقدر تعامله مع جنس كاتبته، ولعل هذا ما عبرت عنه الروائية "سعاد زهير" في مقدمة روايتها "اعترافات امرأة مسترجلة" التي نشرت عام 1960 والتي صيغت بضمير المتكلم، ولعل اسم الرواية "اعترافات" قد أغرى القارئ بهذا الربط الساذج بين النص وصاحبته، تقول:

"حين نشرت هذه الاعترافات، على صفحات روز اليوسف، في الشتاء الماضي لم أستطع خلال الأشهر الثلاثة التي استغرقتها الحلقات، أن أمنع عشرات من الأسئلة ثارت حولي، من الذين يعرفونني، والذين لا يعرفونني، بل إن هذه الأسئلة المريبة قد وصلت ببعض أفراد عائلتي إلى حد الغضب والتهديد بمقاضاتي أمام المحاكم، لوقف نشر هذه الاعترافات، حماية لاسم العائلة من أن ينسبها الناس لكاتبتها! وفي البداية كنت أثور في وجه المتسائلين فأضطر لدخول سلسلة لا تنتهي من المناقشات لإقناعهم بالحقيقة بأن هذه القصة ليست حياتي، ليست تجربتي الشخصية"([13]) وهذا ما جسدته "أحلام مستغانمي" إبداعيًّا في رواية "ذاكرة الجسد" على لسان بطلتها، تقول: "يكفي كاتبة أن تكتب قصة حب واحدة، لتتجه كل أصابع الاتهام نحوها، وليجد أكثر من محقق جنائي أكثر من دليل على أنها قصتها، أعتقد أنه لا بد للنقاد أن يحسموا يومًا هذه القضية نهائيًّا، فإمّا أن يعترفوا أن للمرأة خيالا يفوق خيال الرجل، وإما أن يحاكمونا جميعًا"([14])، وفي موضع آخر تقول: " لا تبحث كثيرًا لا يوجد شيء تحت الكلمات، إن امرأة تكتب هي امرأة فوق الشبهات؛ لأنها شفافة بطبعها"([15]).

إن تلقي أدب المرأة وفق الذهنية الذكورية ليس تلقيًّا بريئًا أو محايدًا، إنها قراءات تحاول "أن ترد كل كتابة المرأة إلى خبرتها الذاتية وأن تجعلها نوعًا من السير القصصية لإخراجها من مجال الرواية الجادة، وناهيك أيضًا عن نوع أسوأ من الإضمار، لا يريد أن يصدق أن باستطاعة المرأة أن تبدع أدبًا أو أن تكتب عن شيء لم تعشه، ويسعى إلى استخدام كل ما تبدعه ضدها بصورة تحد من خيالها"([16])، فضلا عن حصار المرأة الكاتبة بمجموعة من المحاذير والنواهي التي يجب ألا تتخطاها وفق المعايير التي يفرضها المجتمع على المرأة الكاتبة في حين يكون المجال أكثر رحابة للمبدع/ الرجل، والكاتب "وإن تتم معاقبته على المستوى المؤسسي والقانوني باختراق الـ "تابو" فإن عقاب المرأة يكون الضعف نظرًا لطبيعة رد الفعل الاجتماعي المرتبط بثقافة المجتمع العربي، الذي حدد أدوارًا منمذجة للمرأة التي ينبغي أن تكونها، ووضع لها أطرًا معرفية عليها ألا تتخطاها"([17]). فالمرأة الكاتبة لابد أن تحافظ في كتابتها على الصورة التي يرضى عنها المجتمع وألا تتجاوزها، عليها أن تكون قديسة وهي تكتب، فالقارئ في تعاطيه مع نصوص المرأة لا يستند إلى معايير نصية بقدر اعتماده على ثقافته الذكورية وقناعاته العنصرية، فيعتمد على معياري العيب والحرام، ويمارس على نصوص الكاتبات إرهابًا فكريًّا، ويتعامل بعض القراء والنقاد مع موضوع "الجسد" المطروح  نصيًّا برؤية محدودة، ليصلوا لنتيجة مفادها أن إبداع النساء يدور حول الجسد في محاولة لاختراق التابو، ويغفل هؤلاء، انطلاقًا من التحليل النصي، أن الجسد في كتابات المرأة لم يطرح وفق المفهوم الأيروتيكي، وإنما كتب من منظور المعاناة النفسية  ليتلازم مفهوم الجسد مع مفهوم الذات([18])، لكنها الرؤية الضيقة التي تحاول أن تنال من المرأة عبر إنتاجها للتدليل على خروجها عن النسق الاجتماعي والأخلاقي دون فهم لدور الرموز في تجسيد قضايا مختلفة، عبرت عنها المرأة من خلال علاقتها بالجسد، وهذا ما جعل باحثًا مثل "عبد العاطي كيوان" ينظر لكتابات المرأة باعتبارها كتابات شبقية لا أخلاقية، يقول: "يشير المصطلح صراحة إلى الخصوصية والتفرد، والتعبير الموحى إلى دلالاته، فالمبدع هنا امرأة تكتب عن نفسها، عن لقائها بالآخر، عن شبقها وحرمانها، المضاجعة ولونها، هي امرأة تتقمص دور العاهرة، أو عاهرة تتقمص دور الكاتبة، فتستنطق الجسد، وتكشف عن مفرداته، في لغة خاصة، هي لغة حقيقية، جاءت كما هي، دون رتوش أو بهرج، تخرجها المرأة للعيان، إنه (النص البصمة) الذى يعبر عنها أمام القارئ. ومع أن كل (بصمة) تعبر عن صاحبتها، إلا أن (البصمات) واحدة، تشترك جميعًا في لغة واحدة، وفى لون واحد من الصياغة الدالة على فعل الكتابة، إنه (أدب الذات الداعرة) يستقى من عالمها هي مادته الأولى"([19]).

الغريب أن الباحث لم يرجع لأي نص إبداعي للكاتبات، إنما اعتمد على رأيه الشخصي، وعلى شذرات من آراء نقلها لنقاد كتبوا عن كتابات المرأة ومواقعة الآراء التي تتماشى مع قناعاته، حتى أنه خصص فصلا في كتابه حمل اسم البورنو جرافيا Pornography  والذي يعني أدب الفراش، أو الأدب المكشوف، وينظر لإبداع المرأة باعتباره تمثيلا لهذا النمط من الكتابة.

هي إشكالية لم يستطع المجتمع تجاوزها في الربط السافر بين ما تنتجه المرأة وبين حياتها، ومحاكمة أعمالها انطباعيًّا وفق مرجعيات خارجية لا وفق استقراء النصوص ذاتها والوقوف عليها فكريًّا وجماليًّا، الأمر الذي جعل بعض الكاتبات يلجأن للكتابة بلغات أخرى غير اللغة الأم كنوع من الهروب من سطوة القارئ العربي المتربص.

 


 ([1])روائية إنجليزية 1819-1880، من أشهر الكاتبات في العهد الفيكتوري، عندما نشرت روايتها آدم بيد Adam Bede  عام 1859  ولاقت استحسانًا كشفت عن هويتها الحقيقية.

 ([2])روائية فرنسية 1804-1876.

 ([3])شاعرة وروائية إنجليزية 1816-1855.

 ([4])شاعرة وروائية إنجليزية 1818-1848.

 ([5])روائية أمريكية 1832-1888.

 ([6])كاتبة أدب خيال علمي أمريكية 1918-1987.

 ([7]) See; Phlip Rice and Patricia Waugh; Modern literary theory, London- new york, third edition 1996.p.106.

 ([8])بنمسعود، رشيدة، المرأة والكتابة، ص 8.

 ([9])السابق، 81.

 ([10])الزيات، لطيفة، شهادة مبدعة ، مجلة أدب ونقد، القاهرة، نوفمبر، 1996، ص18.

 ([11])انظر، المرجع السابق، ص19.

 ([12])انظر، توفيق، أشرف، اعترافات نساء أديبات، دار الأمين، القاهرة، 1998، ص 15، 61، 77.

 ([13])زهير، سعاد، اعترافات امرأة مسترجلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003، ص 21،22.

 ([14])مستغانمي، أحلام، ذاكرة الجسد، منشورات أحلام مستغانمي، ط 18، 2003، ص162.

 ([15])السابق، 335.

 ([16])أبو النجا، شيرين، عاطفة الاختلاف، ص 42.

 ([17])أبو العمرين، سهام، الخطاب الروائي النسوي، ص 48.

 ([18])انظر السابق، ص 100.

 ([19])عبد العاطي كيوان: أدب الجسد بين الفن والإسفاف، مركز الحضارة العربية ن القاهرة ، ط (1)، 2003، ص 57 ، 58 .