ليست الساحة السياسية الفلسطينية بمعزل عن واقع الساحة السياسية العربية عموماً، فخصوصية القضية الوطنية الفلسطينية هي عامل التفريق والتوحيد في آن، في ضوء الأطروحات التي تتناولها بأبعادها المختلفة، والتي على أساسها تنبثق الشرعيات وتحدد الأوزان ومكانة السلطة والمعارضة ودور كل منهما والتوازن الدقيق جداً بينهما، الذي قد يجعل قضايا الخلاف ذات الطبيعة الثانوية، حساسة ومقررة ومصيرية، خاصة إذا ما كان الأمر يتعلق:
أولاً، بمكانة فلسطين بين الفلسطينيين ومكانة الفلسطينيين في فلسطين، ومكانة فلسطين بين العرب ومكانة العروبة في فلسطين، أي مسألة الوطنية والقومية. وهل فلسطين خارج القضية الوطنية أم داخلها؟ وهل هي خارج القضية القومية أم داخلها؟ لأن وضع فلسطين خارج الفلسطينيين أو وضعها خارج العروبة، ليس انعزالاً تضيع معه الوطنية والقومية فحسب، لتترك مستباحة من الغرباء والأعداء، بل تأكيد على المنهجية البائسة التي كانت سبب الانقسام وقادت إلى ما قادت إليه فيما بعد، تحت عنوان: لنلحق ونركب في قطار التسوية.
وثانياً، بمكانة السياسة ربطاً بالفكر والممارسة في قيادة الصراع وإدارته مع العدو من جهة، وإدارة وحسم التناقضات الداخلية من جهة أخرى، التي أسست للانقسامات المتعددة في الساحة الفلسطينية التي وظف واستخدم فيها العنف والقوة، وكأن الشعار الغوغائي: "السياسة تنبع من فوهة البندقية"، وجد طريقه إلى الداخل الفلسطيني صراعاً واقتتالاً وتدميراً مستمراً، في حين أن الأصل في الحالة الفلسطينية أن تبقى للسياسة مكانتها التي تحفظ للبندقية طهارتها، من خلال حفظ وجهة بوصلتها/هدفها.
وثالثاً، بمكانة التنظيم، بما هو عليه من محتوى ومضمون يعكس مفهوماً صحيحاً ومحترماً وضرورياً للشعب وطاقاته وكفاءاته وقدراته وضرورة تأطيرها واستثمارها الأفضل، وهو أمر يتم وفق معايير ومنطق يقوم بناء عليها تماسك هرمه الاجتماعي، مع ما يتسع له كل ذلك من مقتضيات، تؤسس لوحدته الوطنية الفعلية، لكننا لا نغالي لو قلنا إن المنهج السائد يقوم جوهره على ذهنية "الشعب – القطيع"، حيث تحوّل الشعب وفق هذا المنهج من فاعل إلى متلقٍ بدءاً من السياسة وانتهاء بمجتمع الإعالة والإغاثة وذهنيتها، فأي سبب كان وراء ذلك وعلى ماذا يدل ويؤشر؟
الانقسام.. من الموقع المنهجيّ ذاته:
الاستغراب الفعلي والحقيقي ليس فيما قد يؤذي مسامعنا وضمائرنا، من كلمات تعبر عن واقع لا تحامل فيه، كما لا مجاملة تغطيه، بل هو مِن كل مَن قد يستغرب حصيلة سياسية هابطة وأداء مجتمعياً أكثر هبوطاً، لولا طبيعة الذهنية السياسية المتحكمة في المشهد الفلسطيني والملتبسة في كل شيء، حسب اعتقادنا، ولولا ذلك لما كنا على كل ذلك القدر من انعدام الوضوح وضيق الأفق والفوضى الشاملة والانقسام الحاد وانفصال الأفعال عن الأقوال وغيرها من "فضائل" تتراشق بها الفصائل المنقسمة وهي على حق، لأنها عمليا في نفس الموقع المنهجي.
قد يُسرّ كل طرف بالأوصاف السلبية التي يطلقها على منافسه موالاة أو معارضة، في حين أنها تعبر بامتياز شديد وكفاءة عالية لا يحسد عليها كل طرفٍ، عن ذهنية أقل ما يقال أنها دون الحد الأدنى، إزاء الثورة والتاريخ والأيديولوجيا والقضية والواقع والسلطة والأفراد والمجتمع والوحدة وسلم القيم والأداء السياسي وصولا لـ "الحصيلة السياسية والمجتمعية".
إن القانون الناظم في حالتنا الفلسطينية واضح تماماً لمن يريد، سواء في إدارة الصراع الوطني أو الاجتماعي الديمقراطي، لكن المنهج القائم في الممارسة، كان الأكثر وضوحاً وقسوة في نتائجه المحققة، حيث نجد مقدماته كما آثاره تفوح من كل ظاهرة ماثلة أمامنا، بحيث وصل الانقسام بين طرفيه إلى أن يكون تناحريًا في الاسم والشكل، ولكن من ضمن وحدة عميقة في المنهج الملتبس والنموذج الذي يمثله والذهنية السائدة لديه.
المنهج الذي يحكم النموذج والذهنية هو في الجوهر المعبر عنه ليس بكلمات لا تعكس معانيها، أو شعاراتٍ تُطلق جزافاً، أو وعودٍ تذروها الرّياح، أو اتفاقاتٍ تُوقع وتطوى، بل بمضامين تلمس عبر الممارسة التي يزكيها الواقع القائم، وطالما أن العبرة في الممارسة، فإننا لا نعود أمام أي منافسة، لنموذجين مختلفين أو ذهنيتين متمايزتين، وإن احتل واحد منهما موقع السلطة، والآخر أخذ "موقع المعارضة"، لنجد أننا أمام نموذج واحد تقريبا، ودرجة تطابق أو تقاطع أو اختلاف النموذجين هي المعيار – الحكم، لذلك هما من الموقع المنهجي ذاته.
المصالحة.. حديث في الدارج وغير الدارج:
باتت "معضلة المصالحة" تتجاوز الحديث عن الاتفاقات التي جرى التوقيع عليها سواء وطنياً أو "ثنائياً" منذ عام 2005 وحتى آخرها في تشرين أول/أكتوبر من العام المنصرم، أو الحديث عن الطرف الأكثر تحملاً لمسؤولية التعطيل، ليصل إلى طرح سؤال: لماذا تم تجاوز التطبيق الجاد للاتفاقات الوطنية التي سبقت الانقسام الذي جرى عام 2007؟ خاصة وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى)، حيث كان هناك إمكانية لتجنيب شعبنا وقضيتنا ويلات كارثة الانقسام، لولا أن المسألة أعمق من الحديث عن المصالحة أو المسؤولية، ربطاً بعدم التنفيذ الجاد للاتفاقات الموقعة، أو الاختلاف البرنامجي بين الطرفين المتصارعين في السلطة وعليها، أو غياب الإرادة السياسية للطرفين المنقسمين، أو الإجراءات المتبادلة بين سلطتي غزة والضفة، لتطال الذهنية السياسية السائدة والمتحكمة. هذه الذهنية الإقصائية للآخر تماماً، وتعمل في المقابل على إحكام سيطرتها وهيمنتها على الوضع الفلسطيني ومقدراته والاستفراد في تقرير الشأن الوطني بعيدًا عن مفاهيم وقيم الائتلاف والشراكة والجبهة الوطنية، لمواجهة الاحتلال ومشاريع التصفية المعلنة للقضية الفلسطينية. بمعنى أن الوحدة الوطنية ببعديها الوطني والاجتماعي غير ممأسسة أو حاضرة على الأقل في الذهنية السياسية السائدة لدى "القيادة" المتحكمة في المشهد الفلسطيني، بحيث باتت التناقضات والتباينات الداخلية تتقدم على حساب التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني.
يبقى في نظر الكثيرين أن الطريق الأسلم والآمن للجميع هو الذهاب نحو التطبيق الفعلي لاتفاقات المصالحة المتفق والموقع عليها وطنياً، كرزمة شاملة، بما في ذلك الانتخابات، على قاعدة إصلاح وتحديث النظام السياسي الفلسطيني، القائم على أساس أننا حركة تحرر وطني وديمقراطي، بما يستوجب ذلك من الاتفاق على استراتيجية وطنية موحدة وموحِدة، تعيد بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها منظمة التحرير الفلسطينية، وتصون وحدة شعبنا وتعزز صموده ومقاومته للاحتلال والعدوان ومشاريع التصفية، دون ذلك، فإن كل الإجراءات التي يمارسها طرفي الانقسام من اعتقالات وقمع وإغلاق وتدمير للمؤسسات وعقوبات طالت وتطال أدنى حقوق المواطنين وتضييق الخناق عليهم وتوتير وتصعيد إعلامي...، تشرع الأبواب واسعاً نحو الانفصال الفعلي، بما يؤكد على أن كل طرف من طرفي الانقسام (فتح وحماس)، مصمم على الاستئثار بالسلطة على المساحة الجغرافية التي قررها الاحتلال من خلال إعادة انتشاره من قطاع غزة، وغول الاستيطان في الضفة. بمعنى آخر، سنكون أمام سلطتين رُسمت "حدودهما" كما صلاحياتهما ضمن مشروع ومخططات الاحتلال وأهدافه التصفوية، وعليه ليس عبثًا أن يعترف شمعون بيرس، بأن: "افضل إنجازات إسرائيل في السنوات الأخيرة هي حالة الانقسام الفلسطينية".
في ضوء واقع الحال هذا، فإن الفصائل من غير طرفي الانقسام، عليها عبء ومسؤولية كبيرة، وإن كان الانقسام وأطرافه وداعموه ومحفزاته تفوق قدرة هذه الفصائل على مواجهته باستمرار التمسك والمطالبة بالالتزام بتطبيق الاتفاقات الوطنية، بعيداً عن اتخاذ خطوات جدية على الأرض من خلال استنهاض همم أبناء شعبنا في الضفة وغزة، الأكثر تضرراً من الانقسام ونتائجه، الذي أصاب مناحي حياتهم كافة، كما قضيتهم الوطنية، من خلال شق مسار لنضال جماهيري/شعبي ديمقراطي دؤوب ومتواصل مدعوم من مختلف تجمعات شعبنا الأخرى ضد الانقسام وأطرافه، ما دون ذلك، لن يتعدى الأمر حدود المطالبات بالمصالحة والتوحد التي هي في حقيقة الواقع الفلسطيني المُشخص أمنيات لا أكثر.
العبرة في المسؤولية أم الكُلفة؟
يفترض أنه من المعروف أن حصيلة أداء وواقع أطرف الحركة السياسية، هو الذي يقرر شكل الأداء الوطني، ويؤشر بوضوح لواقع حال القضية والشعب والوطن، وأنه سيرتد، إن عاجلاً أو أجلاً، على الجميع، بما في ذلك الفرقاء الأكثر بعداً والأقل دوراً في الحصيلة المحققة سلبية كانت هذه أم إيجابية.
وكون البعد الوطني هو الأساس في تناولنا لهذا الموضوع، فمن غير الجائز مطلقاً أن تهبط الحركات السياسية إلى مزيج من طرق وعشائر وشلل وعصابات، لتهبط معها مكانة المعايير الموضوعية والأفكار التوحيدية والأهداف العامة والهوية الوطنية وبالتالي الإجماع الذي من الواجب أن تمثله القضية الفلسطينية، ليس على الصعيد الوطني فقط، بل والقومي والأممي أيضاً.
لكن ربطاً بالذهنية السياسية السائدة في المشهد الفلسطيني، ربما أجد في الاستطراد التالي ما له لزوم، من باب اقتران وتناقض "ازدهار" الأفراد مع تراجع أحزابها وتنظيماتها في جانب، وبحبوحة الأخيرة مع فقر الجماهير ومعها القضية في جانب آخر.
يتجلى هنا "الخط الهابط" ومنهجه في التعامل مع كل شيء، بدءاً من التاريخ الذي رُسم بعناية ليناسب أدوات سياسية تضخمت أكثر من تاريخ قضيتها، مرورا بالأيديولوجيا التي باتت مقتلاً للأفكار لا معملاً منتجاً لها، والواقع الذي لم نقرأه إلا عبر مفاصلة الرخوة، لا حقائقه الصارخة، والفرد الذي لم نره سوى رقماً، بلا حقوقاً أو قيماً، وانتهاء بالمفاهيم واللغة والمعايير والأبعاد التي كان يجري الاتكاء على ما هو سلبي منها فابتسرت الثورة للفوضى، والتغيير إلى التدمير، والوحدة إلى التفريق، والشراكة إلى الهيمنة، والعلم إلى التجهيل، والعقل إلى التغييب، والتقريب إلى الإقصاء، والاختلاف إلى الإلغاء، والسلطة إلى التسلط، والمجتمع المتماسك للمجتمع الممسوك، أي معضلة أكبر وأوسع من هذا الأمر، كي نقف على الحدود الفاصلة بين المسؤولية والكُلفة المترتبة على ذلك؟!
نقطة ضوء:
من دون رغبة في بث تفاؤل كاذب لناحية إمكانية الارتقاء بالأداء الراهن أو تجاوز واقع الانقسام القائم، فإن الحقيقة الموضوعية التي يجب أن لا تغيب عن البال هي دلالات المقاومة والممانعة التي يمارسها ويظهرها شعبنا الفلسطيني. مقاومة وممانعة نجحت على الأقل، في منع العدو من تحقيق كامل أهدافه، وتدل هذه فيما تدل على طاقة اجتماعية كامنة ومتجددة حفظت لشعبنا الفلسطيني وجوده ودوره، وكانت الوقود الذي أعطى ومازال، الحياة للأدوات السياسية المطلوب منها أن تملأ المساحة المتاحة، حفظاً للطاقات الكامنة وغيرها الفاعلة التي منها ما هو خارج الأطر القائمة، هنا دور البديل الوطني الديمقراطي، كبديل تاريخي موضوعي شامل.
أكاديمي ورئيس تحرير بوابة الهدف الإخبارية