قد تكتب ملايين السطور عن دور الحكيم: جورج حبش في صياغة مقولات أساسية في الفكر القومي العربي، وفي معاني التجسيد التنظيمي، والممارسة السياسية لهذا الفكر، ولكن الاعتبار الأساسي يبقى في كون هذه المساهمات من الحكيم كانت ذات أثر مباشر على الواقع العربي آنذاك، في إطار التصدي للهيمنة الاستعمارية على هذه المنطقة، وبناء نموذج هوياتي وسياسي قادر على العمل وسط الجماهير وانتزاع المكتسبات لها، وفي القلب من هذه المقاربات كانت التشخيصات الدقيقة لمعسكر الأصدقاء والأعداء، فلقد اختط بعض العرب خط سياسي معادي لتطلعات الشعوب العربية.
بالعودة لتلك الحقبة أواسط القرن الماضي كانت النظم العربية محط سخط جماهيري كبير، ضاعفته الهزيمة العربية أمام الكيان الصهيوني، وهو ما أسهم في ظهور نظم عربية جديدة رفعت شعارات جماهيرية وثورية، متماشية إلى حد ما مع النبض الجماهيري العربي، ولكن حتى هذه النظم حظيت أيضًا بنصيب من النقمة الجماهيرية، فمن جانبها فقد كان لها نصيب في المسؤولية عن النكسة في العام ١٩٦٧م، وتورطت في إخفاقات خطيرة في تحقيق التنمية، واتسم أداءها إجمالاً بالتفرد في الحكم والممارسة الأمنية القمعية في الكثير من الأحيان. هذا المشهد العربي كان محور أساسي للجهد الثوري العربي، وعنوان لجدل اجتماعي وسياسي وتنظيمي في معظم المكونات السياسية العربية، هذا الجدل والجهد الذي احتلت حركة القوميين العرب والتيارات القومية حيزًا مؤثرًا فيه، وقاد فيه الحكيم جورج حبش ورفاقه في حركة القوميين خط ثوري يصنف النظم العربية وطرق التعامل معها وفقًا لموقفها من الاستعمار بشكليه التقليدي المباشر أو غير المباشر.
أهمية هذا الفرز لم تقتصر على الإطار النظري والجدلي، بل كانت في تأثيرها على آليات التعامل مع هذه النظم، ودورها الهام في ردع النظم العربية الرجعية. صحيح أن الردع الذي تحقق نتيجة للممارسة الثورية لهذه القناعات كان جزئيًا، ولم يثنِ هذه النظم عن تآمرها مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ضد شعوب المنطقة، ولكنه أجبر هذه النظم على إخفاء الكثير من خبايا علاقتها مع الغرب، وعلى اتخاذ معاني التضامن الظاهري مع قضايا الشعوب العربية ومنها قضية فلسطين، والأهم أنه أجبرها ولسنوات طويلة على الالتزام بالمقاطعة العربية للكيان الصهيوني، باستثناءات قليلة ظلت في معظمها سرية لا يجرؤ مرتكبوها على الاعتراف بها. هذه الحالة العربية في تلك الحقبة لطالما كانت عرضة للنقد بسبب إخفاقاتها، ولكنها مع ذلك وعلى مستوى الموقف من النظم الرجعية العربية، وقدرتها على حرمان هذه النظم من مساحات كثيرة للتحرك المدمر لقضايا الأمة، تبقى أفضل بكثير من السنوات الأخيرة، التي عادت فيها مشاريع الرجعية العربية للازدهار، وبات التنظير للتحالف مع الكيان الصهيوني علانية جهارًا نهارًا، من نظم ونخب.
الحقيقة التي نستذكرها جميعًا اليوم، هي ذلك الترابط بين القدرة على تشخيص الواقع كفعل فلسفي فكري، وترجمة هذه القدرة لممارسة سياسية وثورية، وحتى بنى وإجراءات تنظيمية، واستراتيجيات عمل، لعلنا في إبصارنا لهذه القدرة ندرك قيمة الحكيم كقائد حقيقي، وليس كمعلم ورمز فحسب، فهنا نتحدث عن ذلك السعي الدءوب لخلق جبهة تصدي عربي لمؤامرات الرجعية العربية مع المنظومة الاستعمارية لتصفية القضية الفلسطينية وغيرها من قضايا الشعوب، وعن السبل التي اتبعها الحكيم ورفاقه لتعميم هذا المسعى عربيًا وتوسيع رقعة انتشاره، على نحو استنزف هذه النظم، وأفقد المستعمر جزء أساسي من الخدمات التي كانت تقدمها هذه النظم.
نبصر هنا أن استذكار ما مثله الحكيم، يكمن في استعادة ضرورة فرز معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، ونسج استراتيجيات التصدي لحلفاء المستعمر وأدواته، في سياق المواجهة الضرورية والشاملة مع المنظومة الاستعمارية وهجمتها المتجددة على شعوب المنطقة، وتحفزها وحلفائها من نظم الرجعية العربية لتصفية قضية العرب المركزية، قضية فلسطين، التي ناضل الحكيم واستشهد وهو يشير لها كبوصلة للجهد التحرري العربي.