غادرنا، مساء الأحد 5 مايو 2019، مناضلٌ وقائدٌ حقيقي، رجلٌ لم يُساوِم قط على مبدأ أو موقف، واصل عطاءه وعمله حتى اليوم الأخير. كان الأب والأخ والرفيق الحقّ لكل من عايشه، وبشهادة كثيرين كان المُخلص الوفيّ الصادق دومًا، هو الرفيق الراحل د.رباح مهنّا.
"بوابة الهدف" حاورت عددًا من الشخصيات، التي رافقت الراحل في مسيرته النضالية والمهنية والمجتمعية، وتوقّفت عند أبرز ما عايشه هؤلاء رفقةَ هذا المناضل، وفي محاولة لمُلامسة ما ميّزَه وفضّله، ليكون أكثر بكثيرٍ من مجرد "طبيب، وسياسي فلسطيني".
الجرو: رفيق الدرب الذي لا يُعوَّض
"رفيق الدرب الذي لا يُعوَّض"، هكذا وصف المحامي، ورئيس جمعية الهلال الأحمر ب غزة حاليًا، يونس الجرو، الذي عايش الراحل قرابة 35 عامًا. وقال في حديثه للهدف "كان صديقًا عزيزًا، تعرفتُ عليه منذ العام 1986، بينما كان عضوًا بمجلس إدارة الجمعية الطبية".
المحامي الجرو، أضاف "توثّقت علاقتي برباح مهنّا خلال الانتفاضة الأولى، وكنا معًا في اللجنة السياسية بالقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الأولى، مع شخصيات فصائلية أخرى".
"كان إنسانًا صريحًا واضحًا، قويَّ الحجة، مخلصًا ومتواضعًا"، قال الصديق، وتابع "رباح أخلص في عمله بشكل متناهٍ،على حساب صحته ووقته وماله، وتفرغ للعمل السياسي، وترك كل أعماله المهنية، في الوقت الذي كان فيه من أشهر أطباء السكري والغدد، وقاسى جراء هذا الأمر بشكل كبير".
ولفت إلى أنّ رباح كان ذو إرادة قويّة، ولم يُعِقْه شيءٌ عن مُواصلة عطائه، ولا حتى اعتقاله من قبل الاحتلال، بالعام 1991، الذي خرج بعده عطِشًا لمواصلة العمل النضالي.
الرفيق الذي لم تنقطع صلته برباح منذ العام 1986، قال عنه "كان ذا رؤيةٍ سياسيةٍ واضحةِ المعالم"، مُشيرًا إلى أنّه شغل مناصب عدّة في مؤسسات مختلفة، منها جمعية الهلال الأحمر بغزة، التي كان فيها نائب الرئيس.
"رغم تفضيله التفرّغ للسياسة، ظلّت العلاقة مع رباح مستمرة، إذ كّنا نستعين بخبراته الطبية بشكل دائم في تطوير عمل جمعية الهلال الأحمر" قال المحامي الجرو، وأضاف أنّ الراحل وبرغم مرضه الذي لازمه مؤخرًا، لم يتوانَ أو ينقطع عن العمل والعطاء، وكان يتحمل المشقة والتعب والألم في سبيل متابعة القضايا الوطنية والمجتمعية، ولم يكن يتردد في تقديم الخدمة الإنسانية لأي شخص، سيما الفئات الفقيرة المهمشة.
وزاد "نال رباح مهنا احترام مختلف القوى السياسية، لصراحته وجرأته وقدرته على قول الحق"، وعُرف عنه الجرأة في طرح آرائه ومواقفه".
وختم المحامي يونس الجرو، بتمنّياته من رفاق رباح مهنّا في الجبهة الشعبية، الالتزام- كما التزموا في تاريخهم- بمواقف الجرأة والوضوح، وكلمة الحق، كما التزم الراحل.
كايد الغول: أخلص لوطنه ولشعبه ولجبهته.. ودفعَ ثمنَ قناعاته
كايد الغول، عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية، الذي كان على اتصالٍ مع الراحل منذ سنوات طويلة، وتعرّف عليه بالمعنى المباشر منذ 1996، قال في حديثه للهدف "تميّز رباح بالإخلاص لقضيّته ولحقوق شعبه، وهذا كان انعكاسًا للمعاناة التي عاشها منذ هُجّر من بلدته المسميّة إلى غزة، التي عاش فيها ذات الظروف الصعبة التي مرّ بها اللاجئون، ليُشكّل هذا كلّه وعيَه، ويُرسخَ فيه أهمية العودة إلى فلسطين، والنضال من أجل ذلك.
انخرط رباح مهنّا في العمل الوطني، في البداية من خلال عمله كطبيب، وهو ما أهّله لأن يكون أحد قيادات الجمعية الطبية. وكان يُعطي اهتمامًا كبيرًا للعمل المجتمعي، الذي كان يرى فيه ركيزةً لا بدّ منها في مواجهة الاحتلال وسياساته. وفق الغول، الذي لفت إلى أنّ الراحل كرّس حياته من أجل العمل السياسي، تاركًا العمل في الميدان الطبي، بعد انتخابه عضوًا في المكتب السياسي للجبهة الشعبية في تموز 2000.
تجلّت سمات الرفيق رباح، بحرصه الشديد على أن تكون الجبهة قويةً منيعةً ومؤثرة، وأن تتصدّى القضايا الحياتية للناس، وبذَل جهودًا عديدة في هذا السياق، من خلال الحرص على بناء حالة تنظيمية متماسكة وقوية من جهة، وترسيخ البعد الكفاحي لتنظيم الجبهة في مواجهة الاحتلال، من جهة أخرى. إحدى المفارقات التي لامسَها الغول في شخصِ المناضل الراحل، كانت مواءمته بين العمل المجتمعي والعمل الكفاحي. فكان يرى في الأول أداةً هامة في خدمة الشعب والدفاع عن مطالبه، وفي الوقت ذاته كان يُركّز كثيرًا على العمل الكفاحي، وبذلك قدّم نموذجًا مختلفًا عما كان سائدًا من اعتقادٍ لدى كثيرين بأنّ من يعمل في المنظمات الأهلية يبتعد عن المهمّات الكفاحية، وعن الدعوة لممارستها.
دفع رباح مهنّا ثمن قناعاته، وانخراطه في العمل الوطني، فاعتُقِل لدى الاحتلال، وتخلّى عن امتيازاتٍ كثيرة كان يحظى بها كونه طبيبًا، فآثر الاكتفاء بما هو متوفرٌ من راتبٍ تقاعديّ، والمُضيّ لما هو أسمى.
عهِدنا الراحل رباح مهنّا، شديد الحرص والتمسك بالأهداف الإستراتيجية لشعبنا وحقوقه، وكان دومًا يتصدّى لكلّ منهجٍ ضار يرى فيه هبوطًا عن هذه الأهداف والحقوق. كما تميّز بالصراحة والوضوح والجرأة في طرح مواقفه.
وتابع الغول حديثه للهدف بالقول "كان الراحل من أشد المناهضين للانقسام، والمدافعين عن الوحدة الوطنية، باعتبارها حاجة وطنية ملحة، وهو التعبير الذي كان يُركز عليه دومًا، كما كان حريصًا على بناء تيار ديمقراطي يضمّ القوى الديمقراطية والمجتمعية، وبذل جهودًا مخلصة ودائمة لتحقيق ذلك، إضافة لحرصه على إدارة الخلافات الوطنية بكل مسؤولية. وأقام مع مسؤولي القوى علاقات (محترمة)، كما كان يحلو له استخدام هذا التعبير في مواقع ومواضيع عديدة".
"رغم مرضه، لم يضعف للحظة، أو يتراجع عن مهامه، أو دوره في الجبهة والعمل الوطني"، بل كان يقول دومًا أن استمراره في العمل، هو العلاج لحالة المرض التي يعيشها. وختم الغول بالقول إنّ "الراحل تميّز بعلاقاتٍ رفاقية حميمة، وكان دومًا حريصًا على مشاركتهم أفراحهم وأتراحهم ودائم السؤال عنهم".
الفرا: كان طبيبًا قائدًا.. ذا رؤيةٍ متقدمة في العمل الصحي
الطبيبة منى الفرا، التي غالبتها الدموع وهي تتحدث لبوابة الهدف عن رباح مهنّا، الإنسان والصديق، قالت عنه "كان طبيبًا قائدًا، وإنسانًا من الدرجة الأولى، وكان مع الفقراء والمهمّشين، بالفعلِ لا مجردَ شعاراتٍ، وكان دومًا المناصر لحقوق الأطباء والعاملين في القطاع الصحي.
د.الفرّا، التي تُدير حاليًا برامج مركز تحالف أطفال الشرق الأوسط "مِكا"، تجمعها معرفةٌ بالراحل تزيد عن 30 عامًا. قالت "رغم ما كان يبدو عليه من قوةِ وشراسةٍ، كان بداخل هذا الرجل طفلٌ صغير، أقصى أحلامه الحصولُ على قطعةِ من حلواه المفضّلة (النمّورة).
وتابعت "كان داعمًا لي بشكل كبيرٍ، سيّما في العمل المجتمعي، وتشاركنا مواقف ومراحل كثيرة".
في العمل الصحّي، كان صاحبَ رؤيةٍ متقدمةٍ. لم يكن ينظر إلى الصحة بمعنى المستشفى والعيادة فقط، بل كانت رؤياه ترتكز على كون قطاع الصحة مجالًا للتأثير، عبر البرامج والتثقيف الصحي والمكتبات والمراكز الصحية، إلى جانب تغليف السياسة بالصحة، لذا عملنا على مقاومة خصخصة الخدمات الصحية، من أجل المريض الفقير.
هذه الرؤية أثمرت عن تأسيس اتحاد لجان العمل الصحي، بالعام 1985، ومن بعده مستشفى العودة في مخيّم جباليا، بالعام 1992.
"كان يفكر ويخطط جيدًا، وكان يهتمّ دومًا بمن حوله، ويُتابع أدق التفاصيل المتعلقة بهم"، وختمت د.الفرا "كل شخص عرف رباح مهنا، وكل منزل دخله سيفتقده". ولن تنسى د.منى الحوارَ الذي دار بينهما، في آخر اتصالٍ هاتفيّ قبل وفاته بيومٍ، والذي قال فيه إنّه سيعود في أقرب وقت لغزة، ولن يُطيل مكوثه في إسبانيا، التي كان سافر إليها لزيارة ابنه. ليصدق قوله- كما العادة- لكنّ هذه المرة ساكنًا مُحاطًا بدموع المحبين والرفاق.
الصوراني: كان مِعطاءً.. وكرّس حياته لأجل شعبه وقضيته
"شأنُه شأن القادةِ الحقيقيين، كان رباح مهنّا واحدًا من الناس، إنسانًا بسيطًا متواصلًا، يعيش هموم الناس وقضاياهم" قال راجي الصوراني، الحقوقي ومدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
وأضاف، في حديثه للهدف، عن رباح مهنّا، أنّه "لم ينعزل في يومٍ، أو يتقوقع، وكان يُصغي بانتباه لكل ما يقال، ولم يتعصب يومًا لرأيٍ أو موقف، وكرّس حياته بالكامل من أجل شعبه وقضيته". لافتًا إلى أنّ كان من السهل أن يكسب ثقة الآخرين، لذا تمتّع بمستوى رائع من العلاقات، فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا.
ولفت الصوراني إلى أنّ الراحل "كان وفيّا لأصدقائه ورفاقه ومحبيه، والأهم لقضيته". فكان يُعطي بلا حدود، للدرجة التي أثر فيها هذا على وضعه الشخصي.
المصداقية والثقة العالية كانت من أبرز مناقبه، وفرض رباح مهنّا نفسه، فكان من أجرأ الأصوات التي لا تُساوم على قناعتها.
لم يقوَ الصوراني على الحديث أكثر عما جمعه بالراحل مهنّا، واكتفى بالقول "ما بيننا لا يُحكى"، مُؤكدًا أنّ غيابه سيؤثر كثيرًا، إذ سيكون هناك افتقادٌ لمواقفَ وشخصيةٍ ومناضلٍ نوعيّ. مُعربًا عن أمله بأن يُشكل هذا المناضل حالة إلهامٍ للكثيرين، في ممارساته ونهجه، سيّما الوضوح والالتزام والمصداقية.
ناصر: عزاؤنا في ما بناه من صرحٍ وجيلٍ عظيمٍ.. وطنيًا ومجتمعيًا
صالح ناصر، عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، قال للهدف "إنّ د. رباح كان حظيَ بعلاقات مميزة مع القوى، الجميع يحبّه ويحترمه، كان رجلًا وحدويًا يبحث عن التقاطعات، وكل ما يجمع ولا يفرق، وبالفعل حظيَ بحب وتقدير كل من عايشه وعرفه وعمل معه".
وأضاف ناصر، بحديثٍ غلب عليه الانفعال والتأثّر لغياب هذه القامة الوطنية "رباح مهنّا رفيقٌ مناضل، ديمقراطي تقدمي وطني، ومناضلٌ مجتمعيّ، تميّز بكونه شديد الوضوح والجرأة في التعبير عن مواقفه".
وشدّد على أنّ رحيله يشكل خسارةً في ظل الظروف التي نعيشها، وقال "نحن بحاجة لهكذا رفيق، صلب ومناضل لنتجاوز المرحلة" مُستدركًا بالقول "إنّ عزاءَنا في رحيله، أنّه ربّى جيلًا واسعًا، وبنا صرحًا عظيمًا، سواء على الصعيد المجتمعي أو الحزبي، فنحن على ثقة بأن هذا الصرح الذي بناه، هو الذي يخفف من مصابنا".
وقال "ثقتُنا عالية بمواصلة المسير على هذا الدرب، الذي شقه الرفيق المناضل رباح مهنّا، لتحقيق الأهداف التي قضى من أجلها؛ عودة شعبنا إلى دياره التي هُجّر منها قسرًا، بموجب القرار 194، وحق تقرير المصير وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة، ديمقراطية، كي يعيش شعبنا بحرية وكرامة وعدالة اجتماعية".
تختم "بوابة الهدف" بالتأكيد على أنّ ترجّل الفارس جسدًا لا يعني بالمطلق غيابَه روحًا ونهجًا وفكرًا وقِيَمًا، فمن بعدِ الرّباح رفاقٌ وأصدقاءٌ وعائلة، ترفع الرأسَ به وبتاريخه الحافل بالعطاء والتضحية والعمل الدؤوب، وكما عبّر هؤلاء في نعيهم هذا الرجل ورثائه، لن يخذلوه في المُضيُّ على ذات النهج، بذات الهمّة والعزيمة.