في يومي ٦ و٩ أغسطس من العام ١٩٤٥ ألقت الولايات المتحدة الأمريكية اثنتين من القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، ليقتل ٢٢٠ ألف شخص، بخلاف أولئك الذين عانوا إصابات مميتة أدت لوفاتهم لاحقًا، أو تسببت بمعاناتهم مدى الحياة.
بدأ المشروع النووي الأمريكي في خضم الحرب العالمية الثانية، وهذا المشروع لم يكن سلميًا على الإطلاق، لقد هدف منذ لحظته الأولى لصناعة أسلحة قاتلة قادرة على أحداث إبادة جماعية للمدنيين والبنى التحتية ودمار غير مسبوق، ورغم اقتراب الحرب من الحسم، أصرت الولايات المتحدة على استخدام سلاحها الجديد، وللغرض الذي صنع لأجله منذ البداية: إبادة بشر مدنيين عزل.
تعد الولايات المتحدة أول دولة في العالم تطور سلاحًا نوويًا، وتمتلك 6550 رأسًا نوويًا جاهزًا للإطلاق، كما أجرت 1054 تجربة نووية منذ يوليو/تموز 1945، فيما تمتلك فرنسا 300 رأس نووي، وقد أجرت فرنسا 210 تجربة نووية منذ فبراير/شباط 1960، ولدى بريطانيا 215 رأسًا نوويًا، وقد أجرت بريطانيا 45 تجربة نووية، منذ أكتوبر/تشرين الأول 1952، فيما يقدر ما يمتلكه الكيان الصهيوني ما يقدر ب٨٠ رأس نووي على الأقل، أي أن الولايات المتحدة وحلفائها تحوز على ما يتجاوز ٧٠٠٠ رأس نووي قادرة على تدمير العالم عدة مرات ومحو أي أثر للحياة فيه.
الحرمان النووي:
الدولة الوحيدة في هذا العالم التي استخدمت السلاح النووي، وأكثر دولة إجراءً للتجارب النووية، وأكثرها حيازة للأسلحة النووية، تأخذ على عاتقها منع انتشار القدرات النووية لدى دول العالم، متخذة في ذلك سياسة انتقائية، فمن جهة تزود حلفائها بتكنولوجيا إنتاج الأسلحة النووية، ومن جهة أخرى تعاقب دول حاولت إنتاج الطاقة النووية لأغراض الاستخدام السلمي، ولم تتورط ولو بالتهديد اللفظي بإنتاج سلاح نووي أو باستخدام هذا السلاح.
وفعليًا قادت الولايات المتحدة وبمساعدة وكالة الطاقة الذرية، وهيئات دولية أخرى تهيمن عليها، جهود لحرمان أي دول مناوئة من امتلاك الأسلحة النووية أو تجريدها تدريجيًا من هذه الأسلحة.
فمنذ توقيع معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، التي أباحت حق امتلاك السلاح النووي لكل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين وروسيا، عملت الولايات المتحدة على فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على مجموعة من دول العالم بحجة محاولة هذه الدول امتلاك أسلحة نووية، أو برامج نووية تعتبرها الولايات المتحدة مصدرًا محتملًا للسلاح النووي.
قائمة العقوبات الأمريكية شملت دولًا عدة، أبرزها ليبيا ، التي تعرضت لعقوبات أمريكية ودولية قاسية انتهت بتفكيك برنامجها النووي، ثم تعرضها بعد ذلك بسنوات معدودة لعدوان موسّع من حلف الناتو، وكذلك العراق الذي تم تدمير مفاعله النووي بغارة شنها الكيان الصهيوني، ثم تلاحقت عليه العقوبات الدولية بحجة وجود برنامج للتسلح الكيماوي لديه، ليصار لاحقًا لغزوه وقتل ما يزيد على ٢ مليون عراقي بفعل الغزو أو بتأثيراته اللاحقة التي قوضت الاستقرار في هذا البلد، وحولته لمرتع للسيطرة الغربية، ونهبت نفطه وثرواته الطبيعية وإرثه التاريخي وأثاره.
كوريا الشمالية منذ العام ٢٠٠٦ تتعرض لتصعيد في العقوبات الأمريكية عليها، وعقوبات دولية متزايدة فرضها مجلس الأمن، انضمت لعقوبات أمريكية ويابانية وكورية جنوبية مفروضة منذ الحرب الكورية، وحزمة أخرى استثنائية من العقوبات فرضت في العام ١٩٩٦، هذه العقوبات مجتمعة قادت إلى وصول كوريا الشمالية إلى حافة المجاعة التي عانى منها قطاع واسع من السكان.
سياسة حرمان الدول المناوئة للسياسة الغربية، أو الساعية لبناء سياسات مستقلة من التكنولوجيا النووية، باتت مؤخرًا تركز على إيران، وهو ما سيقودنا في المحور التالي لاستعراض لتاريخ البرنامج النووي الإيراني، وعلاقة الولايات المتحدة بهذا البرنامج.
البرنامج النووي الايراني:
بدأ البرنامج النووي الإيراني في سبعينيات القرن الماضي، في إطار طموحات حليف الولايات المتحدة الوثيق الشاه محمد رضا بهلوي، الذي أدار سياسات معادية لشعوب المنطقة، أدت لتوصيفه بلقب الشرطي الأمريكي أو شرطي الخليج، مارس ضمنه تغولًا على محيطه العربي، وأدوار في قمع الثورات التحررية على غرار ثورة ظفار في عمان، بجانب تحالفه الوثيق مع الكيان الصهيوني.
بعد أن أتمت الولايات المتحدة تزويده بمفاعل نووي بحثي تم تشغيله في جامعة طهران في العام ١٩٦٧م، قدمت واشنطن للشاه عرض رسمي ببناء ما بين خمسة وسبعة مفاعلات كهرونووية، لكن الكلفة العالية للمفاعلات الأميركية جعلت الشاه يفضل عرض الشركة الألمانية "كرافتورك يونيون سيمنس"، فكلّفها بالبدء في بناء مفاعلين كهرونوويين في مدينة بوشهر جنوبي البلاد، وبدأ العمل فيهما عام 1974، وقد حظي هذا المشروع بكامل الرضا والدعم السياسي الأمريكي، الذي لم ير غضاضة في امتلاك الشاه بهلوي -الذي أدار إيران بحكم ديكتاتوري قمعي وعادى شعوب المنطقة- القدرات النووية.
وبمجرد اندلاع الثورة ضد حكم الشاه في إيران أخذت الشركة الألمانية في تعطيل عملها في بناء المفاعلين، لتصل لاحقًا لإيقافه نهائيًا، ثم تعرض المفاعلين للقصف العراقي أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وهو ما أدى لتوقف البرنامج النووي الإيراني واقتصاره على المفاعل البحثي المحدود في جامعة طهران الذي غالبًا ما استخدم منتوجه لأغراض طبية تتعلق بإنتاج النظائر الاشعاعية العلاجية.
في العام ١٩٩٥ اتفقت إيران مع روسيا على إعادة بناء مفاعليها النووين المدمرين، وفقًا لنمط المفاعلات الروسية (السوفيتية القديمة)، مستندة لقدرتها على توفير اليورانيوم الموجود بصورة طبيعية في إيران، وكان الاتفاق الإيراني مع روسيا واضحًا في طبيعة هذين المفاعلين ونشاطهما المخصص لإنتاج الطاقة النووية لأغراض سلمية، فهذا البلد المعرض للعقوبات الأمريكية منذ العام ١٩٧٩، ورغم ثروته الهائلة من النفط والغاز الطبيعي، لم يكن قادر على تزويد بنيته الصناعية والمدنية بالطاقة الكهربائية اللازمة بفعل الحصار الذي حرم إيران من تطوير مصافي للنفط أو محطات حديثة لإنتاج الطاقة الكهربائية.
وفي العام 1996 باشرت إيران في بناء منشأة لإنتاج الماء الثقيل في مدينة آراك، وقد بدأ إنتاجه هناك فعليًا في عام 2006، كما بدأت إيران عام 2004 إنشاء مفاعل من تصميمها بقدرة 40 ميغاواتاً بالقرب من هذه المنشأة يعتمد في تشغيله على الماء الثقيل واليورانيوم الطبيعي المستخرج من الأراضي الإيرانية.
ورغم تأكيدات إيران المستمرة على سلمية برنامجها النووي، وجدية سعيها الوصول لاتفاق مع القوى الدولية يتيح لها امتلاك التكنولوجيا النووية، لحاجتها لها كأداة للتنمية الاقتصادية والعلمية الضرورية، إلا أن العقوبات الأمريكية عليها تصاعدت على شاكلة حزم متعددة بحجج مختلفة أبرزها مشروعها النووي.
في العام ١٩٩٧ وافقت إيران على توقيع البرتوكول الإضافي الخاص بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مقابل اعتراف الاتحاد الاوروبي بحقها في امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، ورغم ذلك اتخذ المجلس التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية في العام ٢٠٠٣، قرار بإدانة إيران لامتلاكها برنامج نووي وصفه المجلس بأنه سري، وذلك استنادًا لتقارير استخبارية أمريكية وأخرى صادرة عن الكيان الصهيوني.
وفي 4 فبراير/شباط 2006 أحالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن الدولي، ومنح القرار مهلة شهر قبل أي تحرك للأمم المتحدة ضد إيران وذلك لإتاحة وقت للجهود الدبلوماسية، وفي ديسمبر من ذات العام اتخذ مجلس الأمن قراره بفرض سلسلة من العقوبات المتنوعة على طهران بغرض حرمانها من امتلاك التكنولوجيا النووية، والضغط عليها في هذا الجانب.
وفي أغسطس من العام ٢٠١٥، وبعد ١٣ عامًا من المفاوضات توصلت إيران ومجموعة ٥+١ (تضم ٥ دول دائمة العضوية في مجلس الأمن بجانب ألمانيا)، إلى اتفاق يسمح لها بالاستمرار في برنامجها النووي لإنتاج الطاقة النووية السلمية، برقابة وشروط دولية، في مقابل رفع العقوبات الدولية عن إيران بشكلٍ كامل، ورغم التزام إيران الكامل بهذا الاتفاق الذي حظي بتأييد دولي، فقد قام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلان الانسحاب منه في أغسطس ٢٠١٨ وتجديد العمل بالعقوبات المفروضة على إيران، مع تجاهه لاحقًا لفرض عقوبات جديدة عليها، وهو ما قاد لتصعيد في الخليج كاد أن يسفر عن مواجهة عسكرية بين إيران والولايات المتحدة، بجانب تجاه إيران لتعليق التزاماتها بالاتفاق النووي الذي لم ينجح في رفع العقوبات وتخفيف الحصار المفروض عليها.
خاتمة:
تشير تقارير إيرانية رسمية إلى أن 60 حقلًا نفطيًا كبيرًا في إيران صارت قديمة وأصابها التآكل، وهناك 57 حقلًا تحتاج إلى صيانة لا تمتلك إيران أدواتها بفعل الحصار، وتؤكد تقارير عدة أن 80% من الحقول النفطية الإيرانية دخلت النصف الثاني من عمرها، وأنها تفقد سنويًا من 8-13% من قدرتها على توليد النفط، وتحتاج هذه العملية إلى مدى زمني يصل إلى 15 عامًا، وكلفة تصل إلى 40 مليار دولار.
وقد أشارت دراسة لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية إلى أن إيران تحتاج في 2021 إلى تأمين ما يُعادل 12.5% من احتياجاتها من الكهرباء بالطاقة النووية، وهو ما يُعزز حاجة إيران للحفاظ على برنامجها النووي وتفعيل قدرته على إنتاج الطاقة التي تعوزها البلاد بشدة.
فيما تفترض الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، وعدد من الحكومات العربية الحليفة لها، أن من حقها منع إيران من الاستفادة من هذه الطاقة، وتسعى لذلك بكل السبل الممكنة بما فيها التهديد بعدوان عسكري شامل، بجانب العمل الحالي ببرنامج العقوبات ذو التأثير المدمر على الاقتصاد الإيراني.
من جهتها أعلنت الولايات المتحدة التي تدعي حقها في الرقابة على منع انتشار الأسلحة النووية، وعلى لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو، في الأول من فبراير/شباط 2019، عزم بلاده تعليق الالتزام بمعاهدة القوى النووية المتوسطة التي أبرمتها مع روسيا، وأنها ستنسحب من المعاهدة نهائيًا ما لم تستجب روسيا لشروط أمريكية خاصة بهذه المعاهدة، وكانت أمريكا وروسيا قد وقعت معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى «معاهدة القوى النووية المتوسطة» في العام ١٩٨٧، وتعهَّد طرفاها بعدم صنع أو تجريب صواريخ باليستية أو مجنحة أو متوسطة.